بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/07/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (تنبيهات اجتماع الأمر والنهي)

كان الكلام فيما استدلّ به على تقديم جانب النهي على جانب الأمر في مورد الاجتماع بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي فاستُدلّ بالاستقراء، وذُكر له مثالان:

[المثال الأول]

المثال الأول: وجوب الاستظهار فيما إذا كان للمرأة عادة عددية وتجاوز الدم عن أيام عادتها واحتملت استمرار الدم إلى أكثر من عشرة أيام حيث ورد في الروايات الأمر باستظهار يومٍ أو يومين أو ثلاثةِ أيام أو إلى تمام العشرة، كما ورد في بعض التعابير بالأمر بالاحتياط.

فذكر صاحب الكفاية &: أنّه ليس لأجل تقديم جانب حرمة الصلاة على الحائض على وجوب الصلاة على المستحاضة، فيقال بأنّه بعد أن تحتمل هذه المرأة وجوب الصلاة عليها لو استمرّ الدم إلى أكثر من عشرة أيام وحرمة الصلاة عليها إذا انقطع الدم قبل مضي عشرة أيام فالأمر بالاستظهار يعني تقديم جانب حرمة الصلاة على جانب وجوبها، لكن ليست النكتة ذلك، بل النكتة:

     قاعدة الإمكان أي قاعدة تعني أنّ كلّما أمكن أن يكون حيضاً فهو محكومٌ بالحيض.

     مضافاً إلى الوجه الثاني وهو الاستصحاب، استصحاب استمرار الحيض، فلأجل هذين الوجهين حرُمَ على هذه المرأة الصلاة في أيام الاستظهار.

هذا كلّه إذا بُني على الحرمة الذاتيّة لصلاة الحائض أمّا إذا بني على حرمتها التشريعيّة فليس كلامنا في الحرمة التشريعية؛ لأنّ الحرمة التشريعيّة لا تنافي الاحتياط والحرمة التشريعيّة خارجةٌ عن محلّ البحث.

نقول في الجواب عن صاحب الكفاية:

أنّه بناءً على ما هو الظاهر من الحرمة الذاتيّة للصلاة على الحائض بمقتضى ظهور قوله × "فلتحتط" وظهور قوله × :"فلتتقِ الله ولتمسك عن الصلاة" في الحرمة الذاتيّة للصلاة على الحائض، أي الصلاة بقصد القربة تحرم على الحائض حرمةً تكليفيّة لا أن تصلّي لا بقصد القربة لأجل تعليم ولدها، بل تصلّي بقصد القربة ولو من باب الاحتياط فهذه الصلاة محرّمة تكليفيّة كما ذكره المحقق الهمداني.

ولكن نقول: في هذا المورد رجّح الشارع جانب حرمة الصلاة على هذه المرأة في أيام استظهارها على جانب وجوب الصلاة إمّا:

     من باب اللزوم بناءً على وجوب الاستظهار.

     أو من باب الاستحباب بناء على استحباب الاستظهار.

ولكن ما ذكره صاحب الكفاية & من وجود نكتتين لا يتم:

     أمّا قاعدة الإمكان: فليست تامّة بنظرنا؛ لا دليل على أنّ كلّ ما أمكن أن يكون حيضاً يعني كل ما احتمل أن يكون حيضاً فهو حيضٌ شرعاً، لا دليل على هذه القاعدة إلّا في نفس أيام العادة دون غير أيام العادة.

     وأمّا ما ذكره من جريان استصحاب الحيض: فهو تمسّكٌ بالاستصحاب الحكمي مع أنّ الاستصحاب الموضوعيّ حاكمٌ عليه.

توضيح ذلك: أنّ الاستصحاب الموضوعي الاستقبالي يقول بأنّ الدم سيستمر إلى أكثر من عشرة أيام، والدم المستمرّ إلى أكثر من عشرة أيام فيما يزيد على أيام العادة استحاضةٌ، فاستصحاب استمرار الدم إلى أكثر من عشرة أيام استصحاب موضوعي وهو حاكم على استصحاب كون هذا الدم حيضاً شرعاً؛ فإنّه استصحاب حكمي ولا مجال لجريان الاستصحاب الحكمي مع وجود الاستصحاب الموضوعي.

[المثال الثاني]

 

وأمّا المثال الثاني للاستقراء فهو أنّه لو كان عند الشخص ماءان وقع في أحدهما قذرٌ، فورد في موثقة عمّار "يهريقهما ويتيمم"، فقيل بأنّ الشارع رجّح جانب حرمة الوضوء بالماء النجس على جانب وجوب الوضوء بالماء الطاهر فقال لا تتوضأ من أيّ منهما وتيمم، فأجاب صاحب الكفاية & عن هذا المثال بأنّ حرمة الوضوء بالماء النجس حرمةٌ تشريعيّة وليست حرمةً ذاتيّة فيخرج عن محل الكلام؛ فإنّ الكلام في تقديم جانب الحرمة التكليفية على جانب الوجوب التكليفي.

بل نقول: إنّ هذه الموثقة مطابقةٌ للقاعدة؛ لأنّه حينما توضأ المكلّف من الماء الأول ثم أراد أن يعيد الوضوء بالماء الثاني لا يمكنه أن يتوضأ بالماء الثاني بلا تطهير المواضع التي أصابها الماء الأول، فإنّه يعلم تفصيلاً ببطلان الوضوء الثاني إمّا من باب نجاسة ماء الوضوء أو من باب نجاسة مواضع الوضوء فلا بدّ أن يغسل مواضع الوضوء بالماء الثاني ثمّ يتوضأ به، فحينما يجري الماء الثاني على وجهه مثلاً وقبل أن ينفصل الماء عن وجهه يعلم تفصيلاً بأنّ وجهه نجسٌ إمّا لإصابة الماء الأول به والماء الأول إذا كان نجساً فقد نجّسه أو لأجل إصابة الماء الثاني، والمفروض أنّ الماء الأول لو كان نجساً فلم يتحقق غسل الوجه منه لأنّ الغسل متقوّم بانفصال الغُسالة عن المغسول، فما دام لم ينفصل الغسالة من الوجه فهذا الوجه نجسٌ تفصيلاً إمّا لكون الماء الأول الذي أصابه نجساً ولم ينغسل الوجه بعدُ أو لأنّ الماء الثاني نجس، فبعد أن انفصل الماء عنه نشك في بقاء نجاسته فنستصحب نجاسته، فتكون الصلاة مع هذا البدن صلاةً مع بدنٍ مستصحب النجاسة.

يقول صاحب الكفاية &: نعم، لو قلنا بأنّ مجرّد إصابة الماء للمتنجس كافٍ في طهارته ولو لم ينفصل الغسالة عنه فيكون المورد من قبيل توارد الحالتين مع الجهل بتاريخهما لأنّه لا يُعلم هل هذا الوجه كان نجساً حين إصابة الماء الأول وطاهراً حين إصابة الماء الثاني أو بالعكس، يعني يُعلم بأنّه في أحد هذين الزمانين كان نجساً وفي الزمان الآخر كان طاهراً وتاريخ كلّ منهما مجهول، والاستصحاب في توارد الحالتين مع الجهل بتاريخ كليهما إمّا لا يجري كما هو الصحيح بنظر صاحب الكفاية أو أنّه يجري ويتعارض الاستصحابان كما هو نظر الشيخ الأنصاري ‚، بينما أنّه لو بني أنّه إصابة الماء الطاهر لا تكفي في طهارة المتنجس بل تحتاج طهارته إلى انفصال الغسالة عنه تكون النجاسة معلومة التاريخ، بعد إصابة الماء الثاني وقبل انفصاله عن الوجه يُعلم تفصيلاً بأنّ هذا الوجه متنجس ويعلم بتاريخ تنجسه فيستصحب بقاء هذه النجاسة لأنّها معلومة التاريخ.

فحينئذٍ، أي بناءً على توارد الحالتين مع الجهل بكلٍّ منهما يتعارض الاستصحابان أو لا يجري أيّ منهما فتصل النوبة إلى قاعدة الطهارة، فتكون موثقة عمّار الآمرة بالتيمم على خلاف القاعدة.

لكن بناءً على ما اختاره صاحب الكفاية من نجاسة الوجه بعد إصابة الماء الثاني له وقبل انفصاله عنه فيجري استصحاب بقاء نجاسته إلى حين الصلاة فتكون الموثقة على وفق القاعدة.

نقول في الجواب عن صاحب الكفاية &:

    1. أولاً: كان بالإمكان أن يعيد صلاته بعد كلّ وضوءٍ، يتوضاً فيصلي ثم يغسل جسده بالماء الثاني ويتوضأ به ويعيد تلك الصلاة فيعلم بإتيانه بصلاةٍ مع جسدٍ طاهر ووضوءٍ بماءٍ طاهر.

نعم، تكرار الصلاة يجوز على مذهب المشهور من كون الصلاة مع الحدث جائزةً تكليفاً وإلّا فبناءً على ما قويّناه سابقاً من حرمة الصلاة مع الحدث حرمةً تكليفية استناداً إلى موثقة مسعدة بن صدقة "أفما يخاف من يصلّي بغير وضوء أن تأخذه الأرض خسفاً" فإتيان الصلاة بعد الوضوء الأول فيها شبهة الحرمة التكليفيّة، بل مقتضى استصحاب بقاء الحدث تنجّز حرمتها إلّا أن يعلّق نيته فيقول: أنوي أن تكون هذه الأفعال صلاةً إذا كنت متوضأً بماء طاهر، فحينئذ قد يقال بأنّه لو كان وضوءه بماءٍ نجس فلم يتحقق منه نيّة الصلاة، فلا يدخل في قوله "أفما يخاف من يصلّي بغير وضوء أن تأخذه الأرض خسفا".

    2. وثانياً: لا فرق بنظرنا بين كون أحد الاستصحابين معلوم التاريخ أو كون كليهما مجهولي التاريخ؛ فإنّ الصحيح أنّ الاستصحاب في توارد الحالتين متعارض مطلقاً وإن كانت إحدى الحالتين معلومة التاريخ.

مثلاً: لو كنت أعلم بأنّني كنت طاهراً الساعة ثمانية وكنت نجساً إمّا الساعة سبعة ونصف أو الساعة ثمانية ونصف، الآن الساعة التاسعة، استصحاب بقاء النجاسة في أحد الزمانين يتعارض مع استصحاب الطهارة في الساعة الثامنة ويتساقطان كما نقحناه في بحث الأصول في توارد الحالتين.

 

[إشكال المحقق المشكيني وجواب الشهيد الصدر]

 

إلّا أنّه ذكر المحقق المشكيني & في حاشية الكفاية أنّ الصلاة بعد هذين الوضوئين مبتلاة بإشكال آخر أهم ممّا ذكره في الكفاية &، وهو أنّه حينما يغسل وجهه بالماء الثاني –مثلاً- يعلمُ إجمالاً بأنّ وجهه إمّا متنجّس لو كان الماء الثاني متنجّساً أو أنّ يده مثلاً التي لم يغسلها بعدُ نجسةٌ إذا كان الماء الأول نجساً، فهذا العلم الإجمالي منجّزٌ.

إن قلت: قبل أن يتوضأ الوضوء الثاني يغسل يده أيضاً.

يقول المحقق المشكيني & في الجواب: هذا لا يفيد، بعد أن تنجّز العلم الإجمالي بنجاسة الوجه أو نجاسة اليد فغسل اليد لا يلغي منجزيّة هذا العلم الإجمالي.

نظير ما لو علمنا بنجاسة أحد الثوبين فغسلنا واحداً معيّناً منهما، هذا لا يلغي منجزيّة العلم الإجمالي بالنسبة إلى الثوب غير المغسول؛ لأنّ العلم الإجمالي هنا يعبّر عنه بالعلم الإجماليّ المؤرّب، يعني العلم الإجمالي الذي أحد فرديه طويل وفرده الآخر قصير، يعلم إجمالاً إمّا بنجاسة هذا الثوب قبل غسله أو نجاسة الثوب الثاني إلى الآن لأنّه لم يُغسل بعدُ، وهذا علم إجماليّ منجّز.

ثم ذكر المحقق المشكيني & أنّه يمكن الاستصحاب، بعدما غسل يده يشكّ في بقاء تلك النجاسة الإجماليّة، فإن كانت النجاسة في يده فقد ارتفعت لغسلها بالماء الثاني وإن كانت النجاسة في وجهه بعد أن غسل الوجه بالماء الثاني فلا تزال تلك النجاسة باقيةّ فيستصحب تلك النجاسة الإجماليّة بعد أن غسل اليد بالماء الثاني، فتكون الصلاة في بدنٍ مستصحب النجاسة.

السيد الصدر & في بحوثه في الفقه أجاب عن كلا البيانين للمحقق المشكيني:

     أمّا البيان الأول فقال: منجزيّة العلم الإجمالي بتعارض الأصول في أطرافه، ما دام لم تتعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي فلا يكون العلم الإجمالي منجّزاً –كما نُقِّح في الأصول-، قاعدة الطهارة في الوجه وقاعدة الطهارة في اليد، أنتم قلتم بأنّهما متعارضتان، ما هو وجه تعارضهما؟

    1. إن كان هذا الشخص يريد أن يصلّي قبل أن يكمل الوضوء الثاني فصلاته باطلةٌ لأنّها مبتلاة باستصحاب الحدث، فلا يكون إجراء قاعدة الطهارة في الوجه واليد بلحاظ هذه الصلاة المحكومة بالبطلان.

    2. وإن كان لأجل صلاةٍ يأتي بها بعد إكمال الوضوء الثاني فالمفروض أنّ يده قد غُسلت بالماء الثاني، فالعلم الإجمالي بنجاسة الوجه بعد غسله بالماء الثاني أو نجاسة اليد قبل غسلها بالماء الثاني لا يفيد؛ لأنّه قبل أن يغسل يده بالماء الثاني يعني لم يتوضأ لأنّ وضوءه بالماء الثاني لا بدّ أن يكون بعد تطهير مواضع الوضوء بكاملها، فتكون صلاته محكومةً بالحدث، فلا بدّ أن يغسل يده ثم يأتي بالوضوء الثاني ثم يأتي بالصلاة، فهنا يكون مصبّ جريان قاعدة الطهارة. والصلاة في هذا الحال لا تكون إلا صلاةً مع احتمال النجاسة لأنّه يحتمل طهارة جسده كلّه لأنّ الماء الثاني لو كان طاهراً فقد طهّر جسده بهذا الماء وتوضأ به، فلا يكون إلّا مخالفة احتماليّة للصلاة في النجس، فلا يلزم من جريان قاعدة الطهارة الترخيص في المخالفة القطعيّة.

     وأمّا الاستصحاب فقال: شيخنا أيّها المحقق الشيخ المشكيني -الشيخ أبو الحسن المشكيني أحد تلامذة صاحب الكفاية ‚– هذا الذي صورته من الاستصحاب نفس الاستصحاب في الشبهة العبائيّة الذي جاء السيد اسماعيل الصدر & إلى النجف وطرح هذه الشبهة فسُميّت بالشبهة العبائيّة، فقال: كنت أعلم بأنّ أحد طرفي العبائة نجس، إمّا الطرف الأيمن أو الطرف الأيسر، ثم غسلت الطرف الأيمن، وبعدما غسلت الطرف الأيمن ألقيت هذا الطرف الأيسر في ماءٍ قليل، فقلتم: ملاقي بعض أطراف الشبهة طاهر، هكذا ذكرتم، فحُكم بطهارة ذلك الماء القليل، ثمّ بعد أن وضعت الجانب الأيمن المغسول الذي أحلف بالعباس أنّه طاهر، إذا تجرون الاستصحاب بأنّ هذه العباءة كانت نجسةً والآن كما كانت فلا بدّ أن تحكموا بأنّ هذا الماء القليل بعد ملاقاته للطرف الطاهر الذي أحلف على طهارته بالعباس صار نجساً، وقبل ذلك كان طاهراً، فالناس يفتحون عيونهم ما هذا؟ من أين جاءت هذه المشكلة؟! إلى أن وصلت هذه الشبهة العبائية التي أول من أراد حلّها المحقق النائيني & ثم وصلت إلى السيد الخوئي &.

السيد الخوئي قال: نعم، لا يخالف نحكم بطهارة هذا ما قبل ملاقاته للطرف الأيمن المغسول وبعد أن لاقى هذا الطرف الأيمن المغسول نحكم بنجاسته، هذا تفكيك في الأحكام الظاهريّة وكم له من نظير.

السيد الصدر دافع عن جده ‚، قال جدي جاء وطرح هذه الشبهة ولم يكن يفكر بأن يلتزم أحد بنتيجة هذه الشبهة وأنتم التزمتم بها، فيقول السيد الصدر كلام المحقق المشكيني هنا في التمسك بالاستصحاب تكرارٌ للاستصحاب في الشبهة العبائية، استصحاب بقاء نجاسة النجس الواقعيّ الذي كان مردداً بين الطرف الأيمن والأيسر، إن كان في الطرف الأيمن فقد طهر وإن كان في الطرف الأيسر فلم يطهر، ونحن لا نرى جريان الاستصحاب في الشبهة العبائية، تأمّلوا في هذين الإشكالين للسيد الصدر إلى ليلة الثلاثاء.