بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/07/20

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (تنبيهات اجتماع الأمر والنهي)

كان الكلام في التنبيه السادس حيث ذكر صاحب الكفاية + أنّ دخول أيّة مسألةٍ في بحث اجتماع الأمر والنهي يتوقف على اجتماع ملاك الأمر والنهي فيها، فأنكرنا ذلك وقلنا:

أنّ البحث في اجتماع الأمر والنهي: في أنّ الأمر والنهي مع تعدد العنوان ووحدة المعنون متضادان –لا يمكن اجتماعهما- أو ليسا بمتضادين:

     فإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي؛ لعدم تضادّ الأمر والنهي مع تعدد العنوان:

انكشف بذلك ثبوت ملاك الأمر والنهي في مورد الاجتماع، كالصلاة في مكان مغصوب أو الدفن في مكان مغصوب.

     وأمّا لو قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي:

فبعد تعارضهما وسقوط خطاب الأمر في مورد الاجتماع لا يمكن استكشاف ملاك الأمر، ولأجل ذلك نقبل إشكال السيد الخوئي + على المشهور حيث جمعوا بين القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي والقول بصحّة الإتيان بالفعل الذي هو موردُ اجتماع الأمر والنهي لاستيفائه ملاك الأمر.

فذكر السيد الخوئي & أنّه من أين استكشف المشهور ثبوت ملاك الأمر بعد أنّ خطاب الأمر قد سقط في مورد الاجتماع، وإشكاله في محلّه.

التنبيه السابع

 

بناءً على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي كما هو المشهور وقع الكلام في أنّه في مورد الاجتماع هل يتعارض خطاب الأمر والنهي ويتساقطان أو أنّه يُقدّم خطاب النهي على خطاب الأمر؟

مثلاً: خطاب "صلِّ" مع خطاب "لا تغصب" في مورد الصلاة في المكان المغصوب: هل يتعارضان ويتساقطان لأنّ النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، وبناءً على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي يحصل علمٌ إجماليٌّ بكذب أحد الإطلاقين: إمّا أنّ إطلاق الأمر كاذبٌ بالنسبة إلى الصلاة في المكان المغصوب أو أنّ إطلاق الأمر عن الغصب كاذب بالنسبة إليه حيث لا يمكن اجتماعهما معاً، وبعد ذلك يرجع إلى الأصل العملي كالبراءة عن حرمة الصلاة في هذا المكان.

المشهور قالوا بلزوم تقديم خطاب النهي على خطاب الأمر في مورد وجود المندوحة، إذا أمكن الصلاة في مكانٍ مباح فيُقدّم خطاب النهي عن الغصب على إطلاق خطاب الأمر ويقيّد خطاب الأمر بالصلاة بالصلاة في مكانٍ مباح.
وقد استُدلّ لذلك بعدة وجوه:

    1. الوجه الأول: ما ذكره الشيخ الأنصاري + من أنّ خطاب النهي مطلقٌ شموليّ وخطاب الأمر مطلق بدلي؛ لأنّ خطاب النهي انحلاليٌّ، النهي عن الغصب ينحلُّ إلى نواهي متعددة بعدد أفراد الغصب ولكن خطاب الأمر بالصلاة بدليٌّ، في هذا اليوم لا يطلب منكم إلا صلاةً واحدة، صلاة صبح واحدة صلاة ظهر واحدة صلاة عصرٍ واحدة وهكذا.

فإطلاق قوله: "إذا طلع الفجر فصلِّ صلاة الصبح" مطلق بدلي، يعني تعلّق الأمر بصرف وجود صلاة الصبح في هذا اليوم، وكلّما وقع التعارض بين مطلقٍ شموليّ ومطلقٍ بدليّ فحيث إنّ خطاب المطلق الشمولي أقوى فيُقدّم بنكتة الأقوائيّة على خطاب المطلق البدلي، نظير قوله: "أكرم عالماً" حيث يتعارض مع قوله "لا تكرم الفاسق"، والتعارض بينهما بالعموم والخصوص من وجه، يتعارضان في مورد العالم الفاسق، فإطلاق "أكرم عالماً" يقتضي جواز التطبيق، يقتضي جواز اختيار إكرام العالم الفاسق في امتثال خطاب الأمر بإكرام عالمٍ، فيتعارض مع إطلاق "لا تكرم الفاسق" حيث يقتضي النهي عن إكرام العالم الفاسق، ولكن حيث إنّ خطاب "لا تكرم الفاسق" مطلق شمولي وهو أقوى دلالةً من خطاب المطلق البدلي فيقدّم عليه.

صاحب الكفاية & أنكر ذلك وقال لا وجه لتقديم خطاب المطلق الشمولي على خطاب المطلق البدلي، ولكن المحقق النائيني & حاول أن يقوّي كلام الشيخ الأنصاري & بوجوهٍ لا محصّل لها، أذكر منها وجهاً واحداً، حيث قال المحقق النائيني &:

إنّ خطاب المطلق الشموليّ كخطاب "لا تكرم الفاسق" ينحلّ إلى دلالات متعددة، يدلّ بالدلالة التضمنيّة على حرمة إكرام العالم الفاسق وينحلّ إلى دلالة تضمنيّة أخرى تدلّ على حرمة إكرام الجاهل الفاسق وهكذا، بينما أنّ خطاب "أكرم عالماً" ليس له إلّا دلالة واحدة على وجوب إكرام عالمٍ، فتقديم "لا تكرم الفاسق" على خطاب "أكرم عالماً" لا يقتضي رفع اليد عن دلالته على وجوب إكرام عالمٍ، بينما أنّ تقديم خطاب أكرم عالماً على خطاب لا تكرم الفاسق بأن نحمل خطاب لا تكرم الفاسق على أنّ المراد منه إكرام الجاهل الفاسق يعني رفع اليد عن بعض دلالات هذا الخطاب المطلق الشمولي.

فُأجيب عن ذلك بأنّ خطاب المطلق البدليّ أيضاً ينحلّ إلى دلالت متعددة، فقوله "أكرم عالماً" يدلّ بدلالةٍ ولو التزاميّة إن لم نقل أنّها دلالة تضمنيّة- يدلّ على جواز اختيار إكرام العالم الفاسق في امتثال خطاب "أكرم عالماً" كما يدلّ بدلالة أخرى على جواز اختيار إكرام العالم العادل في امتثال خطاب "أكرم عالماً"، فينحلّ خطاب "أكرم عالماً" أيضاً إلى دلالات متعددة على الترخيص في التطبيق، أي جواز اختيار أيّ فردٍ من أفراد العالم في سبيل امتثال هذا الواجب البدلي. فتقديم "لا تكرم الفاسق" أيضاً يقتضي رفع اليد عن بعض هذه الدلالات، يقتضي رفع اليد عن دلالة إطلاق "أكرم عالماً" على جواز اختيار إكرام العالم الفاسق في امتثال هذا الواجب البدلي، فلا مرجّح لتقديم خطاب "لا تكرم الفاسق" كمطلقٍ شمولي على خطاب "أكرم عالماً" كمطلقٍ بدليّ.

    2. الوجه الثاني لتقديم خطاب النهي على خطاب الأمر بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي:

ما هو الصحيح من أنّه إذا كان النهي متعلّقاً بعنوانٍ ثانوي كعنوان الغصب والخطاب المتكفل لهذا العنوان الثانوي يدلّ على حكمٍ إلزاميّ، يدلّ على تحريم الغصب، فالعرف يجمع بين هذا الخطاب وخطاب الواجب البدلي الذي يقتضي الترخيص في التطبيق على أيّ فردٍ من أفراد الصلاة مثلاً في قوله "صلّ"، العرف يجمع بين الخطابين بحمل خطاب "صلّ" على الترخيص الشأنيّ أي الترخيص في اختيار أيّ فردٍ من أفراد الصلاة لولا طرو عنوانٍ ثانويٍّ عليه، فإذا طرأ العنوان الثانوي كعنوان الغصب يرتفع الترخيص في التطبيق، وإذا ارتفع الترخيص في التطبيق على الصلاة في المكان المغصوب فبناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي يرتفع الأمر؛ لأنّ قوام الأمر بالترخيص في التطبيق، قوام إطلاق الأمر على الصلاة في المكان المغصوب بترخيص المولى في اختيار الصلاة في المكان المغصوب في سبيل امتثال الأمر بالصلاة.

ففرق بين مثل خطاب "أكرم عالماً" وخطاب "لا تكرم الفاسق" فتقع المعارضة بينهما في مورد العالم الفاسق؛ لأنّ كلّاً من العنوانين عنوان أولي، عنوان العالم عنوان أولّي، عنوان الفاسق عنوان أولّي، ولكن في خطاب "صلّ ولا تغصب" العنوان المتعلّق للنهي عنوانٌ ثانويٌّ فيقدمه العرف على الترخيص الثابت في التطبيق في خطاب الواجب البدلي الذي تعلّق بعنوانٍ أولّيّ، وهذا هو المتفاهم عرفاً في غير هذا المقام.

فإذا ورد في خطابٍ "أكل الجبن حلال" وورد في خطاب آخر "أكل ما يضرّ بالبدن حرام"، فالعرف يوفّق بينهما ويجمع بينهما ويقدّم خطاب النهي عن أكل ما يضرّ بالبدن على خطاب إباحة أكل الجبن؛ لأنّ الخطاب الدالّ على حليّة أكل الجبن خطابٌ أولّيٌّ وخطاب تحريم ما يضرّ بالبدن خطابٌ ثانويٌّ تعلّق بعنوانٍ ثانوي.

وهكذا في مثال "صلّ ولا تغصب" فإنّ الغصب عنوان ثانوي، يعني ليس عنوان الغصب منتزعاً عن ذات الفعل، ذات الفعل هو البقاء في ملك الغير، السجود في ملك الغير، هذا عنوان أولّي. هذا سجودٌ، مكثٌ، بقاءٌ، ذاك شربٌ، إذا شرب الماء أو غسلٌ إذا غسل به وجهه. ولكن إذا قيس هذا التصرّف بشيءٍ آخر وهو كونه تصرّفاً في مال الغير بغير إذنه اُنتزع منه عنوان الغصب، ولأجل ذلك يُسمّى عنوان الغصب بالعنوان الثانوي، وكلّما تعلّق النهي بعنوانٍ ثانوي فيقدّمه العرف على الترخيص الثابت بالعنوان الأولّي، سواءً كان الترخيص مدلولاً مطابقياً للخطاب كقوله "أكل الجبن حلال" أو مدلولاً التزاميّاً للخطاب كقوله "صلّ" أي يجوز لك اختيار كلّ فردٍ من أفراد الصلاة في مقام الامتثال، بل يمكننا أن ندّعي أنّ خطاب الترخيص في العنوان الأولي لا نظر له إلى العناوين الثانوية، حينما يقول المولى "أكل الجبن حلال" أصلاً لا ظهور له في كونه حلالاً حتى ولو كان مضرّاً بالبدن، حتى لو كان مغصوباً.

العرف لا يفهم من خطاب العنوان الأولّي الترخيصي حكم طرو العنوان الثانوي، لا. فلا يفهم العرف من قوله مثلا "أكل الجبن حلال" أنّه لو كان أكل الجبن مضرّاً بالبدن أو مصداقاً لغصب مال الغير أو مصداقاً لإيذاء الأبوين فلا يحرم، لا.

فبناءً على الصحيح وخلافاً لما ذكره السيد الخوئي & أصلاً لا منافاة بين خطاب الترخيص بالعنوان الأولّي مع خطاب الإلزام بالعنوان الثانوي ولو بدواً حتى يجمع العرف بينهما، فالفرق بين ما نقول وبين ما قاله السيد الخوئي&:

أنّ السيد الخوئي إذا شكّ في حكم عنوانٍ ثانوي "إيذاء الوالدين حرام" إيذاء الجد والجدة ماذا؟ ليس معلوماً حلال أم حرام، إيذاء الأخ الأكبر، إيذاء الزوج حلال أم حرام؟ إذا شككنا فيه فهذا عنوان ثانوي، فإذا كان المكلّف يريد أن يأكل الجبنة ويكون أكله للجبن مصداقاً لإيذاء الجدّ أو الزوجة أو الزوج، فيشك أنّ هذا العنوان الثانوي حرام أو حلال.

فبناء على ما يقوله السيد الخوئي & يمكن التمسك بإطلاق قوله "أكل الجبن حلال" لإثبات أنّ هذا الأكل للجبن حلالٌ حتى مع طرو هذا العنوان الثانوي كإيذاء الجد، بينما أنّه بناء ما قلناه نشكُ في الحلّيّة الفعليّة لأكل الجبن هذا الذي صار مصداقاً لإيذاء الجد، فلعلّ إيذاء الجد حرام كإيذاء الأبوين. فلا بدّ أن نجري الأصل العملي النافي والمؤمن لحرمة إيذاء الجد.

فإذاً نحن قويّنا هذا الوجه الثاني بناءً على الامتناع في اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كان النهي متعلّقاً بعنوانٍ ثانويّ.

    3. الوجه الثالث: ما يُقال من أنّنا بالاستقراء في الفقه عرفنا أنّ الشارع رجّح جانب الحرمة على جانب الوجوب، فإذا وقع التزاحم بين الحرمة والوجوب فلا بدّ من تقديم الحرمة ورعايتها. فإذا صار تزاحم بين وجوب الصلاة وحرمة الغصب فبالاستقراء عرفنا أنّ الشارع رجّح كفّة الحرمة على كفّة الوجوب وألزمنا برعاية جانب الحرمة، كيف حصل الاستقراء؟

ذكروا مثالين: المثال الأول في استظهار المرأة الحائض، إذا كانت عادة المرأة سبعة أيام –مثلاً- واستمرّ دمها بعد سبعة أيام، فإن كانت تعلم بأنّ الدم سوف ينقطع قبل مضي عشرة أيام فكلّه حيض وإذا كانت تعلم بأنّ الدم سوف يستمر إلى أكثر من عشرة أيام فما يزيد على أيام عادتها يكون استحاضة، ولكن إذا شكّت تقول لا أدري هل هذا الدم الذي زاد على سبعة أيام وهي أيام عادتي الوقتية والعددية، هل يستمر إلى أكثر من عشرة أيام أو لا؟ فأُمرت في الروايات بالاستظهار، تستظهر بيوم أو بيومين، أو ورد في بعض الروايات فلتحتط بيوم أو يومين. ما هو المقصود من الاستظهار والاحتياط؟ المقصود من ذلك ترك الصلاة لاحتمال حرمتها؛ حيث تحتمل أنّها حائض فتحتمل حرمة الصلاة بينما أنّها تحتمل أنّها مستحاضة إذا استمر الدم إلى أكثر من عشرة أيام، وتجب الصلاة على المستحاضة لكن الشارع رجّح احتمال حرمة الصلاة عليها على احتمال وجوب الصلاة عليها لو كانت مستحاضةً.

المثال الثاني: من كان عنده ماءان، علم إجمالاً بأنّ أحدهما نجس، فورد في موثّقة عمّار "يهريقهما ويتيمم" فرجّح الشارع حرمة الوضوء بالماء النجس على وجوب الوضوء بالماء الطاهر ولم يعكس، فلم يقل توضأ من أحدهما ثمّ اغسل جسدك بالماء الآخر وتوضأ به أيضاً رعايةً لوجوب الوضوء بالماء الطاهر، لا. قال "يهريقهما ويتيمم"

صاحب الكفاية يقول: من خلال مثالين حصل لكم الاستقراء وتطبقون على المقام وترجّحون جانب النهي على جانب الأمر في مورد الاجتماع؟ على أساس مثالين! هذا ليس استقراءً ولو كان استقراءً لم يفد ولم يكن حجّة ما لم يحصل منه القطع.

ثمّ دخل بعد ذلك في بحثين فقهيين، فقال أمّا بالنسبة إلى الاستظهار فإن قلنا بأنّ حرمة الصلاة على الحائض تشريعيّةٌ –يعني يجوز لها أن تصلّي من باب الاحتياط- فإذاً ليس هناك حرمةٌ ذاتيّة وتكليفيّة للصلاة حتى نقول بأنّ الشارع رجّح احتمال حرمة الصلاة في أيام الاستظهار. نعم، لو قلنا بأنّ حرمة الصلاة على الحائض حرمة تكليفيّة وذاتيّة فلا تتمكن من الاحتياط، نعم في هذا المثال الشارع رجّح احتمال الحرمة التكليفيّة على احتمال الوجوب، في هذا المثال.

وظاهر المشهور أنّهم يرون أنّ الصلاة على الحائض تحرم بحرمة تشريعيّة لا بحرمةٍ ذاتيّة، كما عليه السيد الخوئي & والسيد السيستاني '، ولأجل ذلك السيد السيستاني = في النقاء المتخلل يحتاط بالإتيان بالصلاة وترك محرّمات الحائض؛ لأنّه يرى أنّ الصلاة على الحائض لا تحرم ذاتاً وتكليفاً، تحرم تشريعاً وهذه المرأة التي تريد أن تحتاط لا ترتكب أيّ حرمةٍ تشريعية؛ لأنّها تقصد الاحتياط وأمّا مثال المائين المشتبهين فنتكلم عنه في ليلة الأحد إن شاء الله.