بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/07/19

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (تنبهات اجتماع الأمر والنهي)

ذكر صاحب الكفاية & أنّ مورد البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه:

     ما إذا تحقق الملاكان للأمر والنهي في موردِ الإجتماع حتى يكون المورد بناءً على القول بالجواز محكوماً بكلا الحكمين وبناء على الامتناع محكوماً بالحكم الأقوى ملاكاً أو بحكمٍ آخر في فرض تساوي الملاكين.

     وأمّا إذا لم يكن كلا الملاكين موجوداً في المجمع فلا يكون خطاب الأمر والنهي داخلاً في مسألة الاجتماع ولا يكون مورد الاجتماع محكوماً إلّا بحكمٍ واحدٍ منهما إذا كان فيه ملاكه أو حكمٍ آخر غيرهما فيما إذا لم يكن فيه ملاك أي من الحكمين بلا فرق بين القول بجواز الاجتماع أو امتناعه.

ثم قال &: هذا بحسب مقام الثبوت وأمّا بحسب مقام الإثبات –يعني بحسب إحراز اجتماع الملاكين في مورد الاجتماع-:

فإذا أُحرز إجمالاً عدم وجود أحد الملاكين في مورد الاجتماع فيتعارض الخطابان للعلم الإجمالي بكذب أحدهما، وإن اُحتمل وجود كلا الملاكين في مورد الاجتماع فإن قام دليل خاصّ من إجماع ونحوه على ثبوت كلا الملاكين فيدخل في مسألة الاجتماع وإن لم يقم دليل خاص ولم يكن لدينا إلّا نفس خطاب الأمر والنهي فلا بدّ أن نلحظ: إن قلنا بجواز الاجتماع فنأخذ بكلا الخطابين، وإن قلنا بامتناع الاجتماع وكان مفاد كلٍّ منهما بيان الحكم الفعليّ ولم يمكن الجمع العرفي بينهما بحمل أحدهما على الحكم الشأني تعارض الخطابان حيث يمتنع اجتماع حكمين فعليين في مورد الاجتماع فيتكاذب الخطابان، ولا يثبت ملاك الأمر ولا النهي في مورد الاجتماع.

أورد المحقق النائيني والسيد الخوئي ‚ على بيان صاحب الكفاية + بأنّ دخول خطاب الأمر والنهي مع تعدد العنوان في مسألة الاجتماع لا يتوقف على وجود ملاك الأمر والنهي في مورد الاجتماع؛ لعدم توقف النزاع في مسألة الاجتماع على القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، فحتى على بناء إنكار تبعية الأحكام للملاكات يأتي هذا البحث: أنّ هل يجوز اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان في موردٍ واحد أم لا؟

والإنصاف:

    1. أنّ إشكال المحقق النائيني والسيد الخوئي ‚ في محلّه؛ فإنّ البحث في المقام في الامتناع بالذات بين وجود الأمر في المجمع ووجود النهي فيه، فيُبحث أنّهما متضادان فيمتنع اجتاعهما بالذات أو ليسا بمتضادين فيجوز ويمكن اجتماعهما بالذات، وأمّا وجود الملاك في مورد الاجتماع فهذا يعني أنّه لو لم يوجد الملاك امتنع الحكم امتناعاً بالغير كامتناع أيّ معلولٍ بانتفاء علّته، وليس الكلام هنا في الامتناع بالغير، الكلام بالامتناع بالذات في اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان، هذا أولاً.

    2. وثانياً: ما ذكره صاحب الكفاية من أنّه بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي إن كان مفاد أحد الخطابين الحكم الاقتضائي فلا تعارض بين الخطابين لأنّ الحكم الاقتضائي يجتمع مع الحكم الفعليّ المخالف له وبذلك يثبت كلا الملاكين، فنسأل: ما هو المقصود من دلالة خطاب الأمر مثلاً على الحكم الاقتضائي؟

إن كان المقصود: دلالته على ثبوت الأمر لولا المانع فالمفروض وجود المانع وهو النهي، فإذا وُجد المانع فلا أمرَ في مورد الاجتماع، ومع انتفاء الأمر كيف يُستكشف وجود الملاك؟ فإنّ الكاشف عن وجود الملاك هو الأمر، وبعد أن كان هذا الأمر اقتضائيّاً شأنيّاً أي يوجد لولا المانع، فمع وجود المانع وهو النهي ليس هذا الأمر بموجود، فلا كاشف عن الملاك، فكيف جعل المحقق الآخوند خطاب الحكم الاقتضائيّ والشأني كاشفاً عن الملاك؟!

وأمّا ما ذكره من أنّه لو كان مفاد كلا الخطابين الحكم الفعلي ولكن أمكن التوفيق العرفيّ بينهما بملاحظة مرّجحات باب التزاحم بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي تعيّن ذلك وإلّا تساقطا في مورد الاجتماع بالتعارض، فنقول:

كون أحد الخطابين كاشفاً عن ملاكٍ أقوى لا يوجب الجمع العرفي بين الخطابين، لو علمنا بأنّه لو كان الغصب محرّماً في مورد الاجتماع كان ملاكه أقوى لكن لا نعلم بكونه محرّماً، لو كان محرّماً فملاكه أقوى.

فخطاب النهي بلحاظ دلالته على حرمة مورد الاجتماع يتعارض مع خطاب الأمر بناء على القول بالامتناع، ومجرّد أنّه لو كان الغصب محرّماً كان ملاكه أقوى لا يوجب الجمع العرفي بين الخطابين، فإنّ الجمع العرفي ينشأ عن قرينية أحد الخطابين بالنسبة إلى تفسير المراد من الخطاب الآخر.

ثمّ بعد ذلك وقع الكلام بين الأعلام في أنّه هل يتمّ كلام صاحب الكفاية & من أنّه بعد تعارض خطاب الأمر والنهي في مورد الاجتماع والقول بتقديم خطاب النهي أو القول بتساقط خطاب النهي والأمر بناء على الامتناع، هل يتمّ ما ذكره صاحب الكفاية & من عدم طريقٍ لاستكشاف ملاك الأمر أم يوجد هناك طريق لاستكشاف ملاك الأمر؟

فذهب جماعةٌ كالمحقق النائيني والمحقق الأصفهاني والمحقق العراقي @ إلى إمكان استكشاف ثبوت الملاك للأمر في مورد الاجتماع وإن سقط خطاب الأمر بالنسبة إليه بناءً على القول بالامتناع.

فالمحقق العراقي & تمسّك بالدلالة الالتزاميّة لخطاب الأمر، فقال: إنّ خطاب "صلّ" مثلاً له مدلولٌ مطابقيّ وهو وجوب الصلاة الشامل للصلاة في المكان المغصوب ومدلولٌ التزاميّ وهو وفاء الصلاة في المكان المغصوب بالملاك، بعد سقوط المدلول المطابقي عن الحجيّة إمّا لتقديم خطاب النهي عليه أو لتساقطهما فيبقى الظهور الالتزامي على حجيّته؛ لعدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الحجيّة. فلو سقطت الدلالة المطابقيّة عن الحجيّة لتعارضٍ ونحوه بقيت الدلالة الالتزاميّة على حجيّتها.

فإذاً يثبت وفاء الصلاة في المكان المغصوب بالملاك، فإذا تحقق الملاك سقط الأمر لاستيفاء ملاكه.


يوجد هنا إشكال مبنائي وإشكال بنائي:

 

أمّا الإشكال المبنائي فهو:

أنّا ذكرنا في الأصول في بحث التعارض أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعةٌ للدلالة المطابقيّة ذاتاً وحجيّةً، والوجه في ذلك أحد أمرين:

    1. الأول: أنّه كما ذكر السيد الخوئي &: المدلول الالتزامي للخطاب حصّةٌ مقارنةٌ للمدلول المطابقي، فإذا دلّ الدليل على وجوب صلاة الجمعة فمدلوله الالتزامي عدم حرمتها ولكن مدلوله الالتزامي عدم الحرمة العدم المقارن للوجوب، فإذا دلّ دليلٌ آخر على عدم وجوب صلاة الجمعة وتعارض مع ذلك الدليل الدالّ على وجوبها فهذا الدليل الثاني النافي لوجوب صلاة الجمعة وإن لم يدلّ على حرمتها لإمكان مشروعيتها فلا تكون واجبةً ولا محرّمةً، لكن هذا الخطاب النافي لوجوب صلاة الجمعة ينفي ذلك المدلول الالتزامي وهو عدم الحرمة المقترن بالوجوب. يمكن أن لا تحرم صلاة الجمعة، لكن عدم الحرمة المقترن بالوجوب أيضاً طرفٌ للمعارضة؛ للدليل النافي للوجوب، الدليل النافي لوجوب صلاة الجمعة ينفي العدم للحرمة المقارن للوجوب.

    2. والأمر الثاني: أنّ الدلالة الالتزاميّة دلالةٌ تبعيّة وشهادة تبعيّة لا استقلاليّة، فحجيّتها تبعيّةٌ أيضاً ولا تكون استقلاليّةً.

توضيح ذلك:

لو أخطأ هذا المخبر في إخباره بوجوب صلاة الجمعة والذي مدلوله الالتزامي عدم حرمتها، لو أخطأ ولم تكن صلاة الجمعة واجبةً، هل صدر منه خطأان أم صدر من خطأ واحد؟ العرف ماذا يقول؟

يقول صدر منه خطأ واحد؛ لأنّه لم ينفِ حرمة صلاة الجمعة نفياً مستقلّاً وإنّما نفى حرمتها نفياً تبعياً، فإذا سألتموه هل صلاة الجمعة تحرم أو لا فيقول في الجواب أن قلت لكم صلاة الجمعة واجبةٌ فطبعاً لا تكون محرّمةً، ولأجل ذلك لو سقطت أصالة عدم الخطأ في الإخبار عن المدلول المطابقيّ فلا يكون هناك أصالة عدم خطأٍ آخر بالنسبة إلى المدلول الالتزامي؛ لأنّه لا يصدر خطآن من المخبر، خطأٌ بالنسبة إلى الدلالة المطابقيّة وخطأ بالنسبة إلى الدلالة الالتزاميّة.

هذا هو الإشكال المبنائي على القول بحجيّة الدلالة الالتزاميّة لخطاب الأمر على ثبوت الملاك في مورد الاجتماع كالصلاة في المكان المغصوب.


أمّا الإشكال البنائي:

الإشكال البنائي هو: أنّ خطاب الأمر لا يكشف عن وفاء الطبيعة بالملاك التامّ حتى في فرض انتفاء الأمر بها أو في فرض تعلّق النهي بها، خطاب الأمر بالصلاة يكشف عن ملاكٍ في الصلاة ولكن هل يكشف عن ملاكٍ مطلق فيها حتى في فرض تعلّق النهي بها؟

قطعاً لا يكشف عن ذلك، لا ينعقد ظهورٌ في خطاب الأمر بالصلاة بالنسبة إلى قيام الصلاة بالملاك حتى في فرض تعلّق النهي بها، من أين يدلّ خطاب الأمر بالصلاة على ذلك؟!

فإذاً هذا الكلام للمحقق العراقي & لا يتمّ مبنائيّاً وبنائياً.

أمّا المحقق النائيني & فهو تمسّك بإطلاق المادّة، فقال: خطاب الأمر بالصلاة تعلّق بذات الصلاة، فيكشف عن قيام الملاك بذات الصلاة لا بخصوص الصلاة في مكانٍ مباح.

إن قلتم: المحقق النائيني & أيضاً يرى حجيّة الدلالة الالتزاميّة ولو بعد سقوط الدلالة المطابقيّة عن الحجيّة فلماذا لم يتمسك بالدلالة الالتزاميّة لخطاب الأمر بالنسبة إلى كشف الملاك في مورد الاجتماع؟

نقول: المحقق النائيني & يرى أنّ عدم شمول خطاب الأمر بالصلاة للصلاة المتعلّقة للنهي ثبت بمقيّد لبيّ متصّل؛ لأنّه يرى أنّ خطاب الأمر ينصرف إلى الفرد المقدور، ينصرف إلى الحصّة المقدورة، فكأنّه قال "ائت بصلاة مقدورة" والصلاة المتعلّقة للنهي ليست صلاةً مقدورةً لأنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، وهذا ثابتٌ بمقيّد لبيّ متصّل، والدلالة الالتزاميّة بلا إشكال تابعةٌ للدلالة المطابقيّة ذاتاً، يعني لا بدّ أن ينعقد ظهور مطابقي حتى ينعقد بتبعه ظهور التزامي، فإذا قام مقيّد متصل ومنع من انعقاد ظهور المطابقي لخطاب الأمر بالصلاة بالنسبة إلى الصلاة في مورد النهي فلا ينعقد ظهور التزاميّ للخطاب في قيام الملاك بهذه الصلاة في المكان المغصوب، ولأجل ذلك التجأ المحقق النائيني إلى التمسّك بإطلاق المادّة، أي إطلاق المتعلّق، وجوابه كلمةٌ واحدة: أنّ قيد الهيئية الثابت بالمقيّد اللبيّ المتصل يوجب تضيّق المادّة قهراً كالمؤيّد اللفظي المتصّل، إذا قال المولى "إن استطعت فحج" فهل يصح أن نقول: تعلّق الأمر بطبيعي الحج يكشف عن وفاء الحجّ بالملاك ولو لم يكن عن استطاعةٍ؟ هل يتمّ هذا الكلام؟ قطعاً لا يتمّ؛ لأنّ قوله "إن استطعت فحجّ" لا يبقي مجالاً لإطلاق المادة بعد تضيّق المادة والمتعلّق قهراً بقيود الهيئة والوجوب، فالتمسّك بإطلاق المادة غير صحيح، وبقية الكلام في الليلة القادمة إن شاء الله، والحمد لله ربّ العالمين.