بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/07/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (تنبهات اجتماع الأمر والنهي)

كان الكلام في التنبيه الرابع حيث ذكر صاحب الكفاية & أنّ ملاك النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه لا يختصّ بالوجوب أو التحريم التعيينيين العينيين، بل يشمل الإيجاب والتحريم التخييريين أو الكفائيين.

ومثّل للإيجاب والتحريم التخييريين:

بما لو أمر المولى عبده بالصلاة أو الصوم تخييراً ونهاه عن التصرّف في الدار ومجالسة الأغيار تخييراً، أي نهاه عن الجمع بينهما، وهذا هو معنى التحريم التخييريّ. فصلّى العبد في الدار وجالس الأغيار، فيقع النزاع في أنّه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في هذه الصلاة أم لا؟

فمن يرى الامتناع كنفس صاحب الكفاية + يذهب إلى امتناع اجتماعهما في المثال المذكور.

السيد الخوئي & قال: لا يجري النزاع في الإيجاب والتحريم التخييريين ولكن يجري النزاع في الإيجاب والتحريم الكفائيين أو الغيريين، وذكر في وجه ذلك:

أنّ مرجع التحريم التخييري إلى تحريم الجمع بين فعلين لأجل مفسدةٍ قائمةٍ بمجموع الفعلين، ولا منافاة بين حرمة الجمع بين فعلين ووجوب أحدهما؛ فيقول المولى لعبده: "لا تجمع بين إكرام زيدٍ وإكرام عمروٍ ولكن أكرم أحدهما". المصلحة قائمة بإكرام أحدهما، والمفسدة قائمة بإكرام مجموعهما، فلا منافاة بين قيام المصلحة بإكرام أحدهما وقيام المفسدة بإكرام مجموعهما، كما أنّه لا منافاة بينهما في مرحلة الامتثال؛ العقل يحكم بوجوب إكرام أحدهما ويمنع من إكرام كليهما معاً. فلا منافاة بين الحكمين لا بلحاظ الملاك ولا بلحاظ مرحلة الامتثال، فلا وجه لتوهّم امتناع اجتماع الأمر والنهي فيهما.

أقول: إذا تعلّق النهي بمجموع فعلين:

     فقد يكون ظاهر الخطاب: أنّ كُلاً من هذين الفعلين المقترنين بالآخر مبغوض، لا أنّ الجمع بينهما مبغوضٌ فقط، بل كلّ منهما منضماً إلى الآخر مبغوض.

     وقد يكون ظاهر النهي حرمة مجرد الجمع بين الفعلين بحيث لو أوجد أحدهما ثمّ أوجد الآخر فالمبغوض يكون هو الثاني فقط دون الأول.

وتظهر الثمرة بينهما فيما لو أوجد أحد المكلّفين الفعل الأول وكان يعلم بأنّه سوف يأتي مكلّف آخر ويضمّ إليه الفعل الثاني، فإنّه بناءً على الأول يحرم على المكلف الأول إيجاد ذلك الفعل لأنّه يعلم بانضمام شخصٍ آخر إليه فيصدر الحرام من مجموع هذين المكلّفين ويكون من التعاون على الحرام ولا يجوز التعاون على الحرام قطعاً.

مثلاً: إذا ورد النهي عن التجسيم التامّ لذوات الأرواح أو التصوير التامّ لصور ذوات الأرواح كما أفتى به السيد الخوئي & –رسم صور ذوات الأرواح لا يجوز عند السيد الخوئي-، فأنا أوجدت نصف تجسيم إنسان ولكن كنت أعلم بأنّه بعد ذلك يأتي شخصٌ آخر ويكمّل التجسيم فيصير تجسيماً تامّاً لإنسانٍ.

فبناء على الأول يستند الحرام إلّي وإلى من يأتي بعدي، فيكون من التعاون على الحرام بينما أنّه لو كان المحرّم هو الجمع بين الفعلين أو فقل إتمام التجسيم فقد صدر الحرام من الثاني وإنّما يُقال بالنسبة إليّ أنّي أعنته على الحرام، صدر مني إعانة على الحرام، وقد يكون الشخص الثاني معذوراً –يُقلّد من يفتي بجواز التجسيم أو التصوير لذوات الأرواح- فلا يكون ما صدر مني إعانةً على الإثم وإنّما هو إعانة على الحرام غير المنجّز وهو جائزٌ قطعاً، بل الإعانة على الإثم تجوز عند جمعٍ من الأعلام كالسيد الخوئي & والسيد السيستاني'.

فإذا استظهرنا من الدليل أنّه في فرض انضمام إكرام زيدٍ وعمرٍ إلى الآخر فكلّ من الإكرامين المقترنين بالآخر مبغوض، فكيف يجتمع ذلك مع محبوبية إكرام زيدٍ في هذا الفرض،؟ لا تجتمع المحبوبية والمبغوضية في شيء واحد، وكيف يرّخص المولى في تطبيق الأمر بإكرام زيد مثلاً على إكرام زيد المقترن بإكرام عمر.

فما ذكره صاحب الكفاية & هو الصحيح.

وأما في الإيجاب والتحريم الكفائيين فلا اختلاف بين صاحب الكفاية والسيد الخوئي ‚ في جريان النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي أو امتناعه في الإيجاب والتحريم الكفائيين.

لو قال المولى لأحد عبديه "ليصلِّ أحدكما" وقال "لا تتصرّفا معاً في هذه الدار"، فجاء كلاهما إلى هذه الدار وصدر منهما التصرّف فيها، فأحدهما صلّى في هذه الدار فانطبق عليه عنوان الواجب الكفائي وعنوان الحرام الكفائي، فمن يرى امتناع اجتماع الأمر والنهي يرى امتناع ذلك؛ لأنّ المولى يطلب من هذا العبد ترك التصرّف في الدار في فرضِ تصرّفِ العبد الآخر في الدار لأنّ هذا معنى التحريم الكفائي، وفي نفس الوقت يُرّخصُّ له في التصرّف الصلاتي أو أنّ هذا التصرّف الصلاتي محبوب وفي نفس الوقت مبغوض في فرض انضمامه إلى التصرّف الصادر من العبد الآخر في الدار فبناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي هنا أيضاً يمتنع اجتماع الأمر والنهي الكفائيين.

 


التنبيه الخامس

 

وقع النزاع والكلام في أنّ البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي أو امتناعه مختصٌّ بفرضِ وجود المندوحةَ في امتثال الأمر أم يشمل فرض عدم المندوحة، كما لو لم يتمكن المكلّف من الصلاة في مكانٍ مباح أو لم يتمكن من الوضوء بماءٍ مباح، فهل يجري النزاع في جواز اجتماع الأمر بالوضوء مثلاً مع النهي عن الغصب أم لا يجري؟

فقد يقال: بأنّ النزاع لا يجري هنا لأنّ اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة مستلزمٌ للتكليف بغير المقدور، كيف يطلب المولى من هذا المكلّف الذي لا يجد إلا ماءً مغصوباً أن يتوضأ ويترك الغصب؟! وهل هذا إلا تكليفٌ بغير المقدور!

صاحب الكفاية & قال: هذا ليس بمهمّ؛ فإنّ الجهة المبحوث عنها في المقام هي أنّ الأمر والنهي مع تعدد العنوان اجتماعهما ممتنعٌ بالذات للتضاد بينهما أو ممكنٌ بالذات لعدم التضادّ بينهما بعد تعدد العنوان، وكون التكليف في فرض عدم المندوحة تكليفاً بغير المقدور هذا بحثٌ آخر لا يرتبط بالمقام.

نعم، من يرى امتناع التكليف بغير المقدور فلا بدّ أن يقول بامتناع اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة ولو كان يذهب إلى جواز اجتماعهما في موارد المندوحة بنكتةِ أنّه تكليفٌ بغير المقدور. ولكنّ الجهة المبحوث عنها في المقام متمحضّةٌ في البحث عن التضادّ بين الأمر والنهي مع تعدد العنوان أو عدم تضادهما، ولا فرق في هذه الجهة المبحوث عنها بين فرض المندوحة وفرض عدم المندوحة.

وما ذكره صاحب الكفاية متينٌ جدّاً، فترى أنّ بعض الأعلام يقولون بأنّ الخطابات القانونيّة تشمل العاجز وهذا ما ذكره السيد الخميني + وأكدّ عليه وقال: القدرة شرطٌ في تنجّز التكليف لا في فعليته.

[كلام صاحب البحوث+]

في البحوث الجزء السابع ص 123ذكر &: أنّه بناءً على ما هو المختار من جواز اجتماع الأمر والنهي، ففي فرضِ عدم المندوحة لا يقع التعارض بين الخطابين بل يقع التزاحم بينهما، فإذا كان النهي أهمّ ملاكاً، لو كان تحريم الغصب أهم ملاكاً، ولم يكن لدينا إلّا ماءٌ مغصوب أو مكانٌ مغصوب حتى نصلّي فيه، فإطلاق الأمر يسقط جزماً؛ لاستلزام التكليف بغير المقدور ولكن يمكن تصوير الترتب في هذا الأمر، فيقال: إذا غصبت هذا الماء فتوضأ به، إذا غصبت هذا المكان فصلِّ فيه، وإمكان الترتب يرفع غائلة التعارض بين الخطابين ويوجب التزاحم بينهما.

[كلام المحقق النائيني +]

هذا الذي ذكره قد تعرّض له المحقق النائيني ‚ وأنكر إمكان الترتّب فيه، فقال: النهي عن الغصب إنحلاليٌّ، الغصب بالنسبة إلى هذا الماء يمكن أن يكون بنحو الوضوء به ويمكن أن يكون بنحو شربه أو صبّه في مكان، فما يكون الأمر بالوضوء معلّقاً عليه هل هو هذا الفرد من الغصب الذي هو الوضوء بهذا الماء؟ هذا طلبٌ للحاصل . أو يكون الفرد الآخر، وهو الغصب غير الوضوئي، كشرب هذا الماء؟ فيكون من طلب الضدين، إذا شربت هذا الماء فتوضأ منه.

وهذا لا يختصّ بالتركيب الاتحادّي بل يجري حتى في التركيب الانضمامي، كالصلاة في المكان المغصوب؛ فإنّ الأمر بالصلاة لو كان مترتباً على الفرد من الغصب الذي هو ملازمٌ للصلاة "إذا كنت ترتكب هذا الفرد من الصلاة الذي هو ملازم للصلاة فصلِّ" هذا طلبٌ للحاصل. وإذا كان مترتباً على غصبٍ آخر ليس ملازماً للصلاة بل ملازمٌ لشيء آخر فالأمر بالصلاة مترتباً عليه يكون من طلب الضدين.

في البحوث يريد أن يقول: ما هو المانع من ترتب الأمر بالوضوء أو الصلاة على ارتكاب جامع الغصب لا هذا الفرد من الغصب الملازم للصلاة أو المتحدّ مع الوضوء ولا على فردٍ آخر من الغصب الذي هو ضدّ الصلاة والوضوء؟ لا، إذا كنت ترتكب جامع الغصب فصلِّ.

نحن نقول: هذا معقول ثبوتاً وعقلاً، لكن في فرض التركيب الاتحادّي خلاف المرتكز العقلائي بأن يقول الشارع "إذا كنت ترتكب جامع الحرام فارتكب هذا الفرد من الحرام".

نعم، الترتب بين فعلين لا مانع منه؛ "إذا كنت ترتكب الغصب فصلِّ" إن كان الغصب متغايراً وجوداً مع الصلاة، أمّا إذا كان متحدّاً مع الصلاة كما على قول من يرى التركيب الاتحادّي بين الصلاة والغصب خلافاً لما اخترناه من كون التركيب بينهما انضمامياً لو كان ما يسجد عليه بالمباشرة مباحاً وإنّما كان الفضاء والرخام الذي تحت السجاد مغصوباً، قلنا بأن التركيب بين الصلاة والغصب هنا يكون تركيباً انضماميّاً. في التركيب الانضمامي لا مانع من أن يقول المولى "إذا كنت ترتكب جامع الغصب فصلِّ" أمّا في التركيب الاتحادّي كما في الوضوء بالماء المغصوب إذا لا تجد ماءً مباحاً فالعرف يقول أنت لا تجدُ ماءً فتيمم، أنت لا تقدر على الوضوء فتيمم، أمّا أن يقال "إذا كنت ترتكب جامع الغصب في هذا الماء فتوضأ منه" هذا الترتب لا يخطر ببال العقلاء ولا يمكن تنزيل الخطابات المطلقة عليه، فليس كلّ ترتبٍ معقول وممكن عقلاً مما يمكن تنزيل الخطاب المطلق عليه.

نعم، لو كان هناك نصٌ خاص نقبل، أمّا الإطلاق لو كان تصحيحه معلّقاً على ترتبٍ خارجٍ عن ارتكاز العقلاء فهنا يشكل تصحيح هذا الإطلاق بترتبٍ خارجٍ عن مرتكز العقلاء.

فنفصّل بين التركيب الاتحادّي فلا نقبل الترتب فيه كفكرةٍ عقلائيّة وبينما لو كان التركيب انضماميّاً.

ولأجل ذلك نُشكل على السيد الخوئي & في الغُسل في مكانٍ مغصوب إذا لم يجد مكاناً مباحاً، حيث قال بأنّ الغسل فيه باطل لأنّه ليس قادراً على الغسل وكان عليه أن يتيمم، بخلاف ما لوكان هناك مندوحة فاختار الفضاء المغصوب للغسل.

نقول: لا، حتى لو لم يجد مكاناً مباحاً للغسل لا يجب عليه أن يغتسل ولكن لو كان يرتكب جامع الغصب في هذا المكان المغصوب فلا مانعَ من أمره بأن يغتسل فيه؛ لأنّ التركيب بين الغسل وبين التصرّف في المكان المغصوب تركيب انضمامي، وأمّا في الغسل بماءٍ مغصوب نقبل أنّه لا يكون الترتب فيه عقلائياً ولأجل ذلك بنحو البتّ يصدق عليه أنّه لا يجد الماء فيجب عليه التيمم، ولو اغتسل بهذا الماء المغصوب بطل اغتساله إلّا إذا كان جاهلاً قاصراً بالغصب؛ فإنّ الجهل القصوريّ بالغصب لا يمنع من صدق القدرة على الغسل فيشمله إطلاق الدليل، هو قادر على الغسل فلا مانع من أن نحكم بصحة غسله في مورد عدم المندوحة إذا كان جاهلاً قاصراً غسله بالماء المغصوب صحيح، وأمّا غسله في الفضاء المغصوب فصحيحٌ على الإطلاق حتى لو لم يكن هناك مندوحةٌ خلافاً للسيد الخوئي حيث قال في مورد عدم المندوحة يبطل غسله في هذا المكان المغصوب.