بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/07/12

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (أقسام النهي الكراهتي)

كان الكلام في ما ذكره صاحب الكفاية + بالنسبة إلى النهي الكراهتي عن بعض العبادات وقسّم ذلك إلى ثلاثة أقسام:

    1. القسم الأول: ما ورد النهي عن عبادةٍ بعنوانها ولم يكن لها بدلٌ.

كالنهي عن صوم يوم عاشوراء، فذكر صاحب الكفاية & أنّ النهي عن صوم يوم عاشوراء ليس ناشئاً عن مبغوضيةٍ وإنّما هو ناشىء عن محبوبية عنوان ينطبق على ترك صوم يوم عاشوراء، ومحبوبية هذا العنوان لا تنافي محبوبيّة الصوم في يوم عاشوراء.

ولكن أشكلنا عليه:

أولاً: بأنّه إذا كان ترك فعلٍ أحبُّ إلى المولى من إتيانه فلا يمكن إتيانه بداعي التقرّب إليه بعد أن كان حاله عند ترك هذا الفعل أحسن من حاله عند إتيان هذا الفعل.

وثانياً: حملُ النهي عن الصوم في يوم عاشوراء على رُجحان عنوانٍ ينطبق على ترك هذا الصوم أو على ما يلازمه خلاف الروايات؛ فإنّه توجد سبع روايات في المقام:

    1. الرواية الأولى: ما في مصباح المتهجد للشيخ الطوسي & أنّه روى عبد الله بن سنان قال:

دَخَلتُ عَلى أبي عَبدِ اللّه ِ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ × في يَومِ عاشوراءَ، ودُموعُهُ تَنحَدِرُ مِن عَينَيهِ كَاللُّؤلُؤِ المُتَساقِطِ. فَقُلتُ: يَابنَ رَسولِ اللّه! مِمَّ بُكاؤُكَ لا أبكَى اللّه ُ عَينَيكَ؟

فَقالَ لي: أوَ في غَفلَةٍ أنتَ؟ أما عَلِمتَ أنَّ الحُسَينَ بنَ عَلِيٍّ ‘أُصيبَ في مِثلِ هذَا اليَومِ؟ فَقُلتُ: يا سَيِّدي، فَما قَولُكَ في صَومِهِ؟

فَقالَ لي: صُمهُ مِن غَيرِ تَبييتٍ–يعني لا تصمه إلى الليل-، وأفطِرهُ مِن غَيرِ تَشميتٍ –أي بعد صلاة العصر أفطر من دون فرح وسرور- ، ولا تَجعَلهُ يَومَ صَومٍ كَملاً، وَليَكُن إفطارُكَ بَعدَ صَلاةِ العَصرِ بِساعَةٍ عَلى شَربَةٍ مِن ماءٍ؛ فَإِنَّهُ في مِثلِ ذلِكَ الوَقتِ مِن ذلِكَ اليَومِ تَجَلَّتِ الهَيجاءُ عَن آلِ رَسولِ اللّه|.

قد يقال بتماميّة سند هذه الرواية لأنّ الشيخ الطوسي & أسند هذه الرواية إلى عبد الله بن سنان جزماً، ولعلّه وجده في كتابه الواصل إليه بطريقٍ معتبر.

ولكن نحن لم نقبل هذه النظرية؛ لأنّنا نعلم بأنّ الشيخ الطوسي & لا يروي عن ابن سنان إلا بوسائط ولا نعرف من هم، هل هم ثقات أم لا.

    2. الرواية الثانية: رواية مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبَانٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِکِ قَالَ:سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ صَوْمِ تَاسُوعَا وَ عَاشُورَاءَ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ فَقَالَ ×: مَا هُوَ یَوْمَ صَوْمٍ وَ مَا هُوَ إِلَّا یَوْمُ حُزْنٍ وَ مُصِیبَةٍ فَمَنْ صَامَهُ أَوْ تَبَرَّکَ بِهِ حَشَرَهُ اللَّهُ مَعَ آلِ زِیَادٍ مَمْسُوخَ الْقَلْبِ مَسْخُوطاً عَلَیْهِ.

    3. الرواية الثالثة:

مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عِيسَى أَخُوهُ قَالَ: سَأَلْتُ اَلرِّضَا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَ مَا يَقُولُ اَلنَّاسُ فِيهِ فَقَالَ ×: عَنْ صَوْمِ اِبْنِ مَرْجَانَةَ تَسْأَلُنِي ذَلِكَ يَوْمٌ صَامَهُ اَلْأَدْعِيَاءُ مِنْ آلِ زِيَادٍ لِقَتْلِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وَ هُوَ يَوْمٌ يَتَشَأَّمُ بِهِ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ يَتَشَأَّمُ بِهِ أَهْلُ اَلْإِسْلاَمِ وَ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي يَتَشَأَّمُ بِهِ أَهْلُ اَلْإِسْلاَمِ لاَ يُصَامُ وَ لاَ يُتَبَرَّكُ بِهِ

    4. الرواية الرابعة: رواية نجية بن الحارث العطار قال : سألت أبا جعفر × عن صوم يوم عاشوراء ؟

فقال × : صوم متروك بنزول شهر رمضان ، والمتروك بدعة ، قال نجيّة فسألت أبا عبدالله × من بعد أبيه × عن ذلك ؟ فأجابني بمثل جواب أبيه ثم قال : أما إنه صوم يوم ما نزل به كتاب ، ولا جرت به سنة ، إلا سنة آل زياد بقتل الحسين بن علي ‘.

    5. الرواية الخامسة: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نُوحِ بْنِ شُعَيْبٍ النَّيْسَابُورِيِّ عَنْ يَاسِينَ الضَّرِيرِ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ‘ قَالا: لَا تَصُمْ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ.

    6. الرواية السادسة: رواية الكليني عن حسين بن علي الهاشمي –وهو مجهول- عن محمد بن عيسى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ زَيْدٍ النَّرْسِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ زُرَارَةَ يَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ × عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ×: مَنْ صَامَهُ كَانَ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَظَّ ابْنِ مَرْجَانَةَ وَ آلِ زِيَادٍ قَالَ قُلْتُ وَ مَا كَانَ حَظُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَالَ النَّارُ.

    7. الرواية السابعة: رواية صفوان بن يحيى، عن الحسين بن أبي غندر، عن أبيه، عن أبي عبد الله × قال: سألته عن صوم يوم عرفة؟

فقال: ذاك يومٌ قُتل فيه الحسين ×، فإنْ كنت شامتًا فصم، ثم قال: إنَّ آل أمية نذروا نذرًا إنْ قتل الحسين × أنْ يتخذوا ذلك اليوم عيدا لهم يصومون فيه شكرًاثم قال ×: إنَّ الصوم لا يكون للمصيبة، ولا يكون إلا شكرًا للسلامة، وإنَّ الحسين × أصيب يوم عاشوراء إنْ كنت فيمن أُصيب به فلا تصم، وإن كنت شامتًا ممَّن سرَّه سلامة بني أمية فصم شكرًا لله تعالى.

[تضعيف السيد الخوئي & لسند هذه الروايات والإنصاف في المسألة]

السيد الخوئي & قال هذه الروايات كلّها ضعيفة سنداً، والرواية التامّة سنداً روايةٌ واحدة ورد فيها أنّ صوم يوم عاشوراء متروك "كان صومه قبل شهر رمضان، فلما نزل شهر رمضان تُرك" ولكن لعلّ المقصود منه أنّه تُرك وجوبه بعد أن وجب صوم شهر رمضان، فنرجع إلى روايتين معتبرتين، وهما: صحيحة القدّاح "صيام يوم عاشوراء كفارة سنة" وموثقة مسعدة "صوموا العاشوراء فإنّه يكفر ذنوب سنة".

ولكن الإنصاف أنّ هذه الروايات السبعة لا يحتمل عادة كذب جميعها وعدم صدور كلّها، بل يحصل الوثوق بصدور بعضها إجمالاً، فيقع التعارض بينها وبين هاتين المعتبرتين صحيحة القداح وموثقة مسعدة، ومقتضى الصناعة حمل هاتين الروايتين على التقية خصوصاً وأنّ التعبير فيهما تعبيرٌ غير متعارف؛ صيام يوم عاشوراء كفارة سنة! كيف يجتمع ذلك مع قلّة ثواب هذا الصوم؟! فتُحمل الروايتان على التقية.

وأمّا ما صحيحة كرّام من أنّه قال × لمن نذر صوم الدهر كلّه "صم ولا تصم العيدين ولا في السفر والمرض" فيقال بأنّ الإمام × لم ينهَ ذلك المؤمن الذي نذر أن يصوم الدهر كلّه عن صوم يوم عاشوراء.

فجوابه أنّ هذه الصحيحة قابلة للتقييد، نُخرج منها صوم يوم عاشوراء.

فإذاً مقتضى الصناعة ما ذكره صاحب الحدائق والسيد الخوانساري ‚ في جامع المدارك من الالتزام بعدم مشروعية صوم يوم عاشوراء ولا أقلّ من الاحتياط كما صنعه الشيخ الوحيد'.

[تأويلٌ آخر للنهي على فرض ثبوته]

وكيف كان، إن ثبت مشروعية صوم يوم عاشوراء فحينئذٍ لا بدّ أن نؤول النهي عنه لا بالتأويل الذي اختاره صاحب الكفاية + بل بتأويلٍ آخر، وهو أن نقول:

هذا النهي إرشاد إلى قلّة ثواب صوم يوم عاشوراء عن صوم سائر الأيام؛ فإنّ الناس عادة ما كانوا يصومون تمام الأيام، لو ثبت مشروعيّة صوم يوم عاشوراء هكذا نؤول الروايات الناهية عن صوم يوم عاشوراء، ونقول الإمام أراد أن يرشد الناس إلى أنّهم حيثُ لا يصومون تمام الأيام، يختارون أيام للصوم، فلا يختاروا صوم يوم عاشوراء، يختاروا يوماً آخر ويصومون يوم آخر؛ لأنّ صوم يوم عاشوراء أقل ثواباً من صوم سائر الأيام. ولكن هذا يحتاج إلى قرينة واضحة وإلّا فمقتضى إطلاق النهي عن صوم يوم عاشوراء أنّه ليس بمشروع.

    2. القسم الثاني من النهي عن العبادات وهو: ما إذا كان النهي عن حصّة من العبادة

كالصلاة في الحمّام، صاحب الكفاية & قال:

     إمّا أن نحمل النهي عن الصلاة في الحمّام على الإرشاد إلى قلّة ثواب هذه الصلاة بالنسبة إلى الصلاة المتعارفة

     أو نحمل النهي عنها على رجحان عنوانٍ ينطبق على ترك الصلاة في الحمّام أو على ما يلازم هذه الصلاة.

فطبيعي الصلاة واجبة أو مستحبة والصلاة في الحمّام منهيٌّ عنها بنهيٍ كراهتي إمّا لأجل أنّ هذه الصلاة أقلّ ثواباً أو لأجل انطباق عنوانٍ راجحٍ على تركها، لا لأجل مبغوضيّة فعلها؛ فإنّ مبغوضيّة فعلها لا تجتمع مع صحّتها.

 

[كلام البحوث وجوابه]

ذكر في البحوث أنّ الظاهر من النهي عن الصلاة في الحمّام أنّه نهيٌ مولوي وحمله على النهي الإرشادي –أي الإرشاد إلى قلّة الثواب- خلاف ظاهر النهي الصادر من الشارع في المولويّة، كما أنّ حمل النهي عن الصلاة في الحمّام على كون المنهيّ هو الوصف لا الموصوف أي أنّ المنهي هو إتصاف الصلاة بكونها في الحمّام وبذلك يرتفع المحذور فالموصوف محبوب والوصف مبغوض، كالأمر بالقراءة والنهي عن الجهر فيها للنساء فإنّه وإن كان معقولاً لكنّه أيضاً خلاف ظاهر النهي في الحمّام في كون المنهي عنه هو نفس الصلاة في الحمّام لا وصفها.

فإذاً يتعيّن أن نقول بأنّ النهي عن الصلاة في الحمام نهي مولوي لكن لا ينشأ عن مبغوضيّة الصلاة في الحمام وإنّما ينشأ عن مفسدةٍ فيها حيث إنّ مبغوضية الصلاة في الحمّام لا تجتمع مع صحّتها بعد أن قام الدليل على صحّتها، فالقدر المتيقن هو رفع اليد عن مبغوضية الصلاة في الحمّام ولكن لا وجه لرفع اليد عن ظهور النهي عنها في النهي المولويّ.

نقول في الجواب:

    1. أولاً: النهي عن العبادة أو المعاملة ليس ظاهراً في النهي المولوي بل ظاهرٌ في الإرشاد، فلو لم تكن قرينةٌ في البين كان النهي عن العبادة والمعاملة إرشاداً إلى فسادهما، "لا تصم في السفر" أي الصوم في السفر فاسد مع أنّه حرام تكليفي، وهنا حيث قامت القرينة على صحّة الصلاة في الحمّام نقول: هذا النهي إرشاد إلى مرجوحيّة الفعل لا إلى بطلانه.

    2. وثانياً: لو فرضنا أنّ ظاهر النهي عن الصلاة في الحمّام نهي مولوي ولكن لا يتعيّن أن نرفع اليد عن ظهور هذا النهي في مبغوضيّة متعلّقه مبغوضيّةً كراهتيّة بل يمكن التحفّظ على هذا الظهور ويُرفع اليد عن ظهور الأمر بالصلاة في كون هذه الصلاة محبوبةً على وجه الإطلاق بحيث يكون هذا الفرد من الصلاة أيضاً محبوباً على تقدير ترك سائر أفراد الصلاة، هذا أيضاً ظهور، كما أنّ النهي ظاهرٌ في مبغوضيّة المتعلّق فكذلك الأمر ظاهرٌ في محبوبيّة المتعلّق، فلماذا تحفّظتم على ظهور خطاب الأمر في محبوبيّة المتعلّق ورفعتم اليد عن ظهور خطاب النهي عن مبغوضية متعلّقه؟ هذا ترجيح بلا مرجّح.

والحاصل: أنّه في هذا القسم الثاني لا مانع من الالتزام بأنّ النهي عن حصّةٍ من العبادة بعد الأمر بطبيعيّ تلك العبادة وقيام القرينة على صحّة هذه الحصّة كالصلاة في الحمّام إرشاد إلى مرجوحيّة هذه الصلاة وقلّة ثوابها وإن كان النهي عنها ظاهراً في النهي المولوي نلتزم بأنّ هذه الحصّة من العبادة منهيٌّ عنها بنهيٍ مولويٍّ كراهتي ولا مانع من إطلاق الأمر بالعبادة بالنسبة إليها بعد ترخيص المولى في التطبيق عليها.

    3. القسم الثالث: يقول صاحب الكفاية القسم الثالث ما تعلّق النهي عنه بعنوانٍ آخر.

أمر بالصلاة ونهى عن الكون في مواضع التهمة، فهنا يقول صاحب الكفاية + يمكن الالتزام بانطباق عنوانٍ راجحٍ على ترك الصلاة في أماكن التهمة، هكذا يقول صاحب الكفاية، يقول:

أولاً: الحضور في مكان التهمة ليس متحداً مع الصلاة فيه، فالتركيب بينهما تركيب انضمامي، ولو فُرض أنّ التركيب بينهما تركيب اتحادي فالظاهر أنّ صاحب الكفاية يقول يكون النهي إرشاداً إلى كون هذا الفرد من الصلاة أقلّ ثواباً.

أنا أقول: نحن التزمنا بجواز اجتماع الأمر والنهي التحريمي مع تعدد العنوان فكيف بالأمر والنهي الكراهتي مع تعدد العنوان؟ فحتى لو كان النهي متعلّقاً بما يتحدّ وجوداً مع الصلاة كالنهي عن التصرّف في دار الغير إذا كان إذنه ناشئاً عن الحياء فيقال المأخوذ حياءً كالمأخوذِ غصباً، لو استحيى فأذن يُقال بأنّه يُكره التصرّف في ماله، هنا يكون جواز الاجتماع أوضح.

ولا وجه لما ذكره السيد الخوئي & من أنّ الكراهة هنا تكون إرشاداً إلى أنّ الصلاة في هذا المكان مرجوحةٌ، يعني أقلّ ثواباً، لم يتعلّق النهي بالصلاة في هذا المكان كي يكون إرشاداً إلى قلّة الثواب، نهيٌ مولويٌ عن التصرّف في مال الغير إذا كان إذنه عن حياء، فلا وجه لحمله على الإرشاد.

لكن نقول: يا سيدنا الخوئي المانع عن إطلاق الأمر بنظركم كان هو عدم إمكان الترخيص في التطبيق على الفرد الحرام، وهذا لا يأتي في الفرد المكروه، يجوز الترخيص في التطبيق على الفرد المكروه؛ فإنّ كلّ مكروهٍ جائزٌ. وأمّا عدم إمكان اجتماع المحبوبيّة مع المبغوضيّة ولو غير الشديدة فقد أجبتم عن ذلك بنفسكم حينما ذكر المحقق النائيني أنّ الوضوء بماءٍ مملوكٍ للغير نسياناً أو اضطراراً مبغوض ولا يصلح للتقرّب، أشكلتم عليه فقلتم بأنّ المبغوضيّة لا تنافي العبادية، ما يكون منافياً للعباديّة هو مبعديّة العمل عن المولى وصدوره بوجهٍ يوجب استحقاق العقاب، الوضوء بماءٍ مغصوبٍ نسياناً مبغوض للمولى، صرّح السيد الخوئي بذلك في أبحاثه الفقهيّة ولكن يمكن التقرّب به لأنّه لم يصدر على وجه المبعدية والاستحقاق للعقاب، فهذا الفعل مبغوض ولكنه يصلح أن يكون مصداقاً لصرف وجود العبادة المحبوبة.

فهذه الصلاة التي تتحدّ مع التصرّف في مال الغير الذي أذن عن حياءٍ وقلنا بكراهة التصرّف في ماله، هذه الصلاة وإن كانت مبغوضةً ببغضٍ غير لزوميٍّ بعنوانٍ آخر، لكن لا يصدر على وجه المبعديّة عن المولى؛ لأنّ الفعل المكروه لا يبعّد المكلف عن المولى، فيصلح للعبادية ويمكن الترخيص في التطبيق بالنسبة إليه.

فما هو المانع عن جواز اجتماع الأمر والنهي في مثله حتى لو قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي التحريمي، فكيف بما قلنا بجواز الاجتماع في الأمر والنهي التحريمي مع تعدد العنوان؟

ويمكن المثال لهذا القسم الثالث بـ التكرار للعبادة أو لـ الذكر في الصلاة عن وسوسةٍ:

الاعتناء بالوسوسة على قول المشهور حرام وعلى القول الصحيح الذي اختاره السيد الخوئي مكروه؛ لأنّه ورد في صحيحة ابن سنان "وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان"، فلو أعاد الذكر في الصلاة عن وسوسةٍ أو أعادَ الصلاة عن وسوسةٍ فينطبق عنوانان على هذا الفعل، عنوان واجب أو مستحب وعنوان مكروه وهو الاعتناء بالوسوسة.

وقد صرّح صاحب العروة + أنّه إذا أعاد الذكر عن وسوسةٍ يُشكِل الصحّة، وعلّق عليه السيد الخوئي & بأنّه لا مانع من صحّة الصلاة؛ فإنّ النهي عن الاعتناء بالوسوسة وإن لم يكن يجتمع مع الأمر بهذا الذكر ولكن غايته أنّ هذا الذكر منهيٌّ عنه، والذكر المنهيُّ عنه لا يُبطل الصلاة لأنّ المبطل للصلاة هو التكلّم المنصرف إلى التكلّم بكلام الآدمي، فلا يشمل ذكر الله وإن تعلّق النهي به، لا يشمل الدعاء وإن تعلّق النهي به، كما لو دعى على مؤمنٍ في صلاته.

ولكن بناءٍ على ما قلناه قد يقال بأنّه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي، الأمر بطبيعي الذكر يجتمع مع النهي الكراهتي عن الوسوسة، وبقية الكلام في ليلة الأحد إن شاء الله.