بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/07/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (تتمة الفرع الثاني من فروع اجتماع الأمر والنهي)

كان الكلام في الصلاة في المكان المغصوب، حيث نُقل عن المشهور بطلان الصلاة في المكان المغصوب عالماً عامداً أو جاهلاً مقصّرا.

فرأينا كان ينبغي لنا أن نرى أنّ التركيب بين الصلاة والغصب تركيب اتحادي أو انضمامي؟ فتكلّمنا عن القراءة والذكر، فرأينا أنّ التركيب بينها وبين الغصب تركيب انضمامي، يعني لا يتحدّ وجود الغصب مع وجود القراءة. كما أنّ القيام في المكان المغصوب وإن كان غصباً لكنّ القيام الواجب في الصلاة هو هيئةٌ لبدنِ المصلّي ومن مقولة الوضع فليس متحدّاً مع الغصب المحرّم، وهكذا الركوع والجلو

[الفعل الرابع: الاستقرار]

وصلنا إلى الفعل الرابع من الصلاة وهو الاستقرار الواجب في أفعال الصلاة. حيث ذكر المحقق الأصفهاني + بأنّ الاستقرار حال الصلاة متحدٌّ مع الغصب؛ فإنّ الاستقرار هو التمّكن من المكان.

ولكن هذا الكلام ليس صحيحاً؛ فإنّه لو وجب الاستقرار في مكانٍ تمّ ما ذكره المحقق الأصفهاني + لكنّ الواجب في الصلاة استقرار البدن، ولأجل ذلك لو ركب الإنسان طائرةً فبدنه مستقرٌ وإن كان لا يستقرُّ في مكانٍ لأنّ الطائرة تتحرّك.

[الفعل الخامس: السجود]

أمّا الفعل الخامس الصلاتي وهو السجود:

     فقد ذكر جماعةٌ كالسيّد الخوئي + أنّه متحدٌ مع الغصب؛ لأنّ السجود عبارةٌ عن الاعتماد على الأرض، والاعتماد على الأرض تصرّفٌ في الأرض عُرفاً، فاختلف السجود عن الركوع؛ الركوع هيئةٌ في بدن المصلّي بينما أنّ السجود ليس مجرّدَ هيئة في بدن المصلّي لأنّ الواجب هو السجود على الأرض، أي وضع الجبهة والمواضع الواجبة –المواضع التي يجب وضعها على الأرض- معتمداً على الأرض ولا تكفي مماسّتها مع الأرض. نعم، لو قلنا بأنّ السجود عبارةٌ عن مجرّد مماسّة الجبهة وسائر مواضع السجود مع الأرض لم يكن السجود غصباً.

     السيّد السيستاني ' قال: السجود لا يتقوم بالاعتماد على الأرض ويكفي فيه الممّاسة مع الأرض.

وما ذكره هو الصحيح؛ فإنّه لو عُلِّق الإنسان بحبلٍ على السقف وجرَّ نفسه حتى التصق بالأرض ساجداً بحيث لو انخسفت الأرض تحته لم يتأثر من ذلك، فهو معتمدٌ على السقف وليس معتمداً على الأرض ولكن التصقت جبهته بالأرض، ألا يُقال إنّه ساجد؟ قطعاً يقال إنّه ساجد، ولو شُك في صدق عنوان السجود عليه فيمكن إجراء البراءة عن وجوب الاعتماد على الأرض ولا أقلَّ من إمكان إجراء البراءة عن شرطيّةِ إباحةِ المكان؛ لأنَّ إباحةَ المكان على ما قاله السيد الخوئي & تابعةٌ لتقوّم السجودِ بالاعتماد على الأرض.

[الإشكالات على مختار السيد الخوئي &]

    1. فإذاً الإشكالُ الأول على السيّد الخوئي &: أنَّ السجود لا يتقوّم عرفاً بالاعتماد على الأرض كما ذكره السيد السيستاني ' بل يكفي فيه الالتصاق بالأرض على هيئة السجود.

    2. وثانياً: لا أثر لهذا البحث في المقام؛ أمّا على رأي السيد السيستاني =: السجود في مكانٍ فعلٌ من الأفعال ويصدق عليه التصرّف في المكان المغصوب، كالقيام والركوع.

ولكن نحن أشكلنا عليه وقلنا بأنّه: لو تأمّل العرف أو بُيّنَ له واقع المطلب يقبل أنّ ما كان من مقولة الوضع فلا يتحدُّ مع مقولة الأين والغصب من مقولة الأين، فإنّ كان السجود من مقولة الوضع لا يتحدّ عرفاً مع الغصب.

ج. ولكن نحن نقول شئياً آخر، نقول:

إن كان ما يَسجُد عليه بالمباشرة مغصوباً –كالسجاد والتربة- فحتى لو قلنا بأنّ السجود يكفي فيه المُماسّة، فنفس هذه المماسّة مع الشيء المغصوب غصبٌ.

لو ألصقت يدك بكتابٍ مملوكٍ للغير، بثوب الغير، وهو غير راضٍ بذلك نفس هذا الإلصاق غصبٌ وتصرّفٌ في مال الغير بدون إذنه.

وإن كان ما يسجد عليه المكلّف بالمباشرة مباحاً، كان السجاد مباحاً التربة كانت مباحةً إلّا أنّ الُرخام الذي تحت السجاد مغصوب، العرف لا يرى أنّ هذا الذي جلس على هذا السجاد تصرّف في مال الغير بدون إذنه.

لو شخصٌ بنى بيته من رُخامٍ مغصوب، وألقى عليه سجاد، ألقى عليه كراسي، فجاء إليكم ودعاكم إلى بيته وأنتم ذهبتم إلى بيته ولم تمشوا على نفس الرُخام، وضعتم رِجلكم على السجاد وجلستم على الكرسي أو على السجاد. إذا صاحب الرخام اتّصل بكم وقال: شيخنا ما هذا؟ لماذا فعلتم هكذا معي، أنا لا أرضى أن يتصرّف أحدٌ في مالي بدون إذني، فتقولون له: أنا لم أتصرّف في مالك، أنا وضعت قدمي على السجاد والسجاد ملك لصاحب البيت، أنا جلست على الكرسي والكرسي ملك لصاحب البيت.

مجرّد إلقاء الثقل بالواسطة على مال الغير لا يُعدّ غصباً، لو أنّ شخصاً بنى الطابق الأول بآجر مغصوب، بنى الجدار من آجر مغصوب أو من اسمنتٍ مغصوب، ولكنّ الأرض ملكٌ له السقف، لا، مباح، وبنى طابق ثاني عليه من مواد بنائية مباحة، فحينما يجلس في الطابق الثاني العرف يقول له أنت تتصرّف في مال الغير بدون إذنه لمجرّد أنّك تعتمد على سقفٍ، ذاك السقف معتمدٌ على جدارٍ مغصوب! هذا ليس عرفياً.

فإذاً الظاهر أنّ السجود تركيبه مع الغصب تركيب انضمامي، ومقتضى الصناعة صحة الصلاة في المكان المغصوب وإن كان عالماً عامداً أو جاهلاً مقصّرا، لكن حيث اُدعيّ الإجماع على بطلان الصلاة في المكان المغصوب عالماً عامداً أو جاهلاً مقصّراً فنحن نحتاط لزوماً في ذلك.

[الحكم في صورة الجهل القصوري]

هذا كلّه في فرض العلم والعمد والجهل التقصيري، أمّا إذا كان المكلّف جاهلاً قاصراً: أنتم اشتريتم بيتاً وشككتم هل هذا البيت ملك البائع أو أنّ البائع غصبه من إخوته وأخواته ولم يعطهم سهم الإرث، أجريتم قاعدة اليد واشتريتم هذا البيت وصلّيتم فيه عدّة سنوات، كلّ تلك الصلوات كانت في حالة التردد والشك، يعني أنتم حين الصلاة كنتم جاهل ملتفت لا جاهل مركب أي غافل، جاهل ملتفت ولكن جاهل ملتفت معذور. بعد عشر سنين مثلاً ثبت لديكم أنّ هذا البيت كان ملك الورثة والبيع لم يكن صحيحاً.

     [القول الأول:الحكم بالبطلان]

إذا سألتم السيد الخوئي & سيدنا نطلع من هذا البيت أو نحصّل موافقة سائر الورثة نعطيهم شيء يتوافقون، ماذا نفعل بتلك الصلوات التي صليناها عشرين سنة، كم صلّينا فيها صلاة استئجارية؟

يقول السيد الخوئي &: كل تلك الصلوات باطلة؛ لأنّ النهي عن الغصب لم يسقط في حقك وأنت جاهلٌ متردد.

     إن كنت جاهلاً مركباً غير ملتفتٍ: سقط النهي واقعاً عن الغصب بالنسبة إليك؛ لأنّ بقاء النهي في حق الجاهل المركب والناسي لا أثر له، لغوٌ.

     وأمّا الجاهل المتردد: أثر بقاء النهي بالنسبة إليه حسن الاحتياط، وثبوت النهي واقعاً يمنع من إطلاق الأمر بالنسبة إليه.

من الذي يخلّصكم من فتوى السيد الخوئي ببطلان كل تلك الصلوات؟

[سؤال: قاعدة اليد التي أجريناها أنّ صاحب البيت ..]

قاعدة اليد حكم ظاهري والآن انكشف لكم أنّه كان غاصباً لم يعطِ سهم الإرث لإخوته وأخواته، فالبيع كان باطلاً وأنتم دائماً كنتم تشكون وتجرون قاعدة اليد في حال الصلاة، فكل تلك الصلوات باطلة عند السيد الخوئي &.


     [القول الثاني: الحكم بالصحّة] لكن نحن نقول:

    1. أولاً: الحمد لله الذي هدانا للقول بجواز اجتماع الأمر والنهي، فنحكم بصحة تلك الصلوات من باب اجتماع الأمر والنهي، والجهل القصوري يمنع من كون العمل مبعداً عن المولى وموجباً لاستحقاق العقاب وإن كان العمل مبغوضاً لكنّه ليس مبعداً عن المولى، وكما ذكر السيد الخوئي & في بعض المجالات أنّ المبغوضيّة لا تمنع من المقربيّة، والذي يمنع من المقربية هو كون العمل مبعداً وموجباً لاستحقاق العقاب.

    2. وثانياً: نقول يا سيدنا الخوئي، المانع –على نظركم- عن إطلاق الأمر هو عدم الترخيص في التطبيق لثبوت النهي وإلّا لو ثبت الترخيص في التطبيق لم يكن هناك مانعٌ من إطلاق الأمر.

هنا يوجد ترخيص بملاك الجهل؛ كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام. ما هو الفارق بين أن يثبت الترخيص بمناط الحرج والاضطرار ونحو ذلك أو يثبت الترخيص بمناط الجهل؟

هذا التعبير بأنّ الترخيص بمناط الجهل ترخيص ظاهري والترخيص بمناط الحرج ترخيص واقعي هذا غير صحيح إلا إذا أُريد به أنّ موضوع الترخيص بمناط الجهل هو الجهل فإذا ارتفع الجهل ارتفع الترخيص، ولكن هذا ترخيصٌ واقعيٌّ بمناط مصلحة التسهيل في مورد الجهل.

هذا الترخيص ليس كذباً، كذب يعني الشارع لم يرخّص قال أنّه كذب؟! لا، رخّص لكن بمناط الجهل ولأجل ذلك سُميّ بأنّه ترخيص ظاهري وإلّا يوجد فيه واقعُ الترخيص بمناط ولو بنكتة مصلحة التسهيل، فإذا ثبت الترخيص في الارتكاب لا يوجد مانعٌ عن إطلاق الأمر بالنسبة إلى هذا الفرض.

    3. وثالثاً: نحن نقول كما قال شيخنا الأستاذ الشيخ التبريزي +: حديث "لا تعاد" يجري في حق هذا المكلّف.

السيّد الخوئي & يقول بعد أنّ صار إباحة المكان من شرائط السجود فالإخلال بشرائط السجود إخلالٌ بالسجود عرفاً، الإخلالُ بشرائط السجود يمنع من جريان حديث لا تعاد لأنّ المستثنى من حديث "لا تعاد" السجود المأمور به، ولأجل ذلك يقول السيد الخوئي لو سجد شخص على مكان نجس جاهلاً أو ناسياً ثم انكشف له أنّ المكان كان نجساً، التربة كانت نجسةً، الرخام كان نجساً، يجب عليه إعادة الصلاة لأنّه أخلّ بشرائط السجود ولا يشمله حديث "لا تعاد".

بينما أنّ السيد السيستاني = والشيخ التبريزي + يقولان ونحن نقول تبعاً لهما:

المستثنى من حديث "لا تعاد" السجود العرفي وهذا لم يُخل بالسجود العرفي، أتى بالسجود العرفي، لم يأتِ بشرطه الثابت بحكم العقل وهو إباحة المكان فيمكن للشارع أن يجعل هذا السجود مسقطاً للواجب وإن لم يكن بنفسه واجباً؛ لامتناع اجتماع الأمر والنهي، ولكن يمكن أن يكون مسقطاً للواجب، محصّلاً لملاك الواجب ومسقطاً لأمره فيُحكم بصحة هذه الصلاة.