بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/07/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (الفرع الثاني من فروع اجتماع الأمر والنهي)

[الصلاة في المكان المغصوب]

يقع الكلام في الفرع الثاني من الفروع التي ينبغي طرحها في ذيل بحث اجتماع الأمر والنهي وهو الصلاة في المكان المغصوب.

     فعن المشهور: بطلان الصلاة في المكان المغصوب.

     ولكن ذكر الفضل بن شاذان & في كلامٍ نقله في الكافي أنّ الصلاة في المكان المغصوب صحيحةٌ، وظاهر سكوت الكليني & عن الاعتراض عليه قبوله لكلامه، وهكذا اختار ذلك المحقق القمي & في القوانين، ومن المعاصرين ذهب إلى صحة الصلاة في المكان المغصوب لولا الإجماع مثل السيّد الخميني + والسيد السيستاني =، بل أنكر السيد السيستاني ' الإجماع على ذلك ولكنه احتاط وجوباً في صحة الصلاة في المكان المغصوب.


[لفت نظر]

[المسألة من صغريات بحث اجتماع الأمر والنهي]

قبل أن أذكر تفاصيل البحث ينبغي أن ألفت نظركم إلى نكتةٍ، وهي:

أنّ السيد السيستاني = ذكر أنّ هذا البحث خارجٌ عن بحث الاجتماع وداخلٌ في بحث النهي عن العبادة؛ حيث إنّ البحث عن الاجتماع يختصُّ بما لو كان الأمر متعلّقاً بعنوانٍ والنهي متعلّقاً بعنوانٍ آخر مغاير لذلك العنوان الأول وتكون النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، ولكنّ الغصب يعني الاستيلاء على مال الغير بغير إذنه، وهذا لا ينطبق على الصلاة في المكان المغصوب، الذي ينطبق على الصلاة في المكان المغصوب عنوان التصرّف في مال الغير بدون إذنه، والتصرّف في مال الغير بدون إذنه بهذا العنوان ليس متعلّقاً للحرمة وإنّما هو عنوانٌ مشير إلى الأفعال الخارجيّة كأكل مال الغير وشرب الماء المملوك للغير والسجود في أرض الغير ونحو ذلك. فمتعلّق النهي هو حصّةٌ خاصّة من نفس الصلاة، فالصلاة واجبةٌ والصلاة في المكان المغصوب محرّمةٌ بحرمة تكليفيّة.

ولأجل ذلك يُدّعى اتفاق الفقهاء على بطلان الصلاة في المكان المغصوب مع أنّهم اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه.

فترى أنّ السيد السيستاني = أخرج البحث عن الصلاة في المكان المغصوب ونحوها كالوضوء بالماء المغصوب عن بحث اجتماع الأمر والنهي وإن قال بقولٍ مخالفٍ للمشهور وهو إمكان تعلّق الأمر بطبيعة وتعلّق النهي التكليفيّ بحصّةٍ منها، فإذا ارتكب المكلّف هذه الحصّة فقد عصى النهي ولكنه أطاع الأمر بالطبيعة، كما لو أمره المولى بشرب الماء ونهاه عن شرب الماء البارد نهياً تكليفياً لا نهياً إرشادياً إلى مانعيّة شرب الماء البارد عن امتثال الأمر بشرب الماء، أمره بشرب الماء لرفع العطش ونهاه عن شرب الماء البارد لأجل أنّه يوجب التهاب الرئة، فإذا شرب الماء البارد فقد عصى النهي وأطاع الأمر.

ولكن حيث إنّه مخالفٌ لما ادُّعي عليه الاتفاق فلا يفتي بالصحّة في مثله، فيحتاط في صحة الصلاة في المكان المغصوب عالماً عامداً أو جاهلاً مقصِّرا. ولكنّه في مثل ما لو صلّى شخصٌ فرادى في مكانٍ أُقيمت فيه جماعة وكانت صلاته هذه هتكاً للإمام، فيقول السيد السيستاني بأنّ صلاته صحيحةٌ وإن كانت صلاته مصداقاً للهتك المحرّم؛ لاختياره جواز اجتماع الأمر والنهي ولا يرى مانعاً من أن يكون هذا المكلّف متقرّباً إلى الله سبحانه وتعالى من حيث ومتبعداً عنه من حيثٍ آخر، ولكن في الصلاة في المكان المغصوب يقول هذا لا يندرج في بحث اجتماع الأمر والنهي، يندرج في بحث النهي عن العبادة.

ولكن هذا الكلام وإن رأينا أنّ البحوث ذكر نظير ذلك إلّا أنّه غير تامٍّ؛ فإنّ قوله × في معتبرة الأسدي: "لا يحلّ لأحد أن يتصرف في مال غيره بدون إذنه" ظاهرٌ في تعلّق الحرمة بعنوان التصرّف، وحمله على المرشدية إلى الأفعال الخارجيّة بعناوينها التفصيليّة خلاف الظاهر، وسند هذه الرواية معتبرٌ؛ لأنّ الصدوق يرويها عن الأسدي الجليل والثقة بأربع وسائط ثمَّ يترضى عنهم، يقول رضي الله عنهم. مضافاً إلى أنّ الترضي -ترضي الصدوق- عن شخصٍ ظاهرٌ في توثيقه له خلافاً لما يذكره السيّد الخوئي، مضافاً إلى ذلك، لا نحتمل عادةً كذب هؤلاء الأربعة كلّهم.

وأمّا موثقة سماعة : "لا يحلّ مال امرء مسلم إلا بطيبة نفسه" فالمتعلّق فيه وإن كان محذوفاً ولكن الأثر الظاهر له هو عنوان التصرّف لا خصوص الاستيلاء عليه.

فالصلاة في المكان المغصوب تندرج في بحث اجتماع الأمر والنهي؛ لأنّ الأمر تعلّق بعنوانٍ أي عنوان الصلاة والنهي تعلّق بعنوانٍ آخر وهو عنوان التصرّف في مال الغير بدون إذنه، واجتمع العنوانان في الصلاة في المكان المغصوب.

 

[ملاحظة أفعال الصلاة والتركيب فيها]

فحينئذٍ نتكلم في أنّه هل الصلاة في المكان المغصوب التركيب فيها بين الصلاة والغصب تركيب اتحادي أو انضمامي؟ يعني هناك وجود واحد ينطبق عليه عنوان الصلاة وعنوان الغصب أو أنّ هناك وجودين متلاصقين في الخارج أحدهما وجود الصلاة والآخر وجود الغصب كما ذهب إليه المحقق النائيني، فنلحظ أفعال الصلاة:

الفعل الأول: هو القراءة وأذكار الصلاة

لا ينبغي الإشكال في أن القراءة والأذكار لا ينطبق عليها عنوان التصرّف في مال الغير، ودعوى أنّ التكلّم موجبٌ لتحرّك الفم وتحرّك الهواء وهذا غصبٌ، فالجواب عنه:

    1. أولاً: هذا ليس تصرّفاً عرفياً؛ تحريك الفم ليس تصرّفاً عرفياً ممنوعاً في مال الغير.

    2. مضافاً إلى أنّه ليس عين التكلّم، تحريك الفم سبب التكلّم وليس عينه، كما أنّ تحريك الهواء ليس عين التكلّم وإنّما هو مسبب عنه.

    3. مضافاً إلى أنّ الهواء ليس ملكاً لصاحب الدار، الفضاء ملكاً له أمّا الهواء فليس ملكاً له، ولأجل ذلك لو خلّيتم مبرّدة في بيت أحد فيسحب الهواء من بيته إلى بيتكم، هذا ليس محرّماً.

الفعل الثاني للصلاة: القيام

     ذكر السيد السيستاني = أنّ العرف يرى أنّ: القيام من التصرّف في مال الغير.

     ولكنّ الظاهر كما ذكره المحقق النائيني والسيد الخوئي ‚: أنّ القيام الواجب في الصلاة ليس هو القيام في مكانٍ وإنّما هو القيام كهيئةٍ خاصة لبدن المصلّي.

فالقيام من مقولة الوضع، بينما أنّ التصرّف في مال الغير من مقولة أخرى، ولو فُرض إمكان وجود المصلّي بلا مكان لأمكن أن يُلحظ النسبة بين أعضائه وجوارحه، فيُرى أنّ رأسه فوق جسده وليس منحنياً فيقال إنّه قائمٌ. وهكذا الجلوس، وهكذا الركوع؛ فإنّ الركوع والإنحناء هيئة خاصّة في بدن المصلّي.

وما يقول السيد السيستاني = من أنّ العرف يرى أنّ هذا الركوع، هذا القيام، هذا الجلوس، تصرّفٌ في مال الغير بدون إذنه فيكون محرّماً قابلٌ للنقاش.

الفعل الثالث: الهُوي إلى الركوع

فذكر السيد الخوئي & أنّنا نقبل أنّ الهُوي إلى الركوع تحرّكٌ في فضاء ملك الغير وهذا مصداقٌ للغصب، ولكن ذكر أنّ الهوي خارج عن أفعال الصلاة وما هو فعل الصلاة هو الركوع، والهوي علّة تامّة للركوع وليس هو الركوع، ليس الهوي إلى الركوع من أفعال الصلاة، الركوع من أفعال الصلاة أمّا الهوي إلى الركوع علّة للفعل الصلاتيّ.

[كلام صاحب الأضواء &]

لكن ذكر بعضهم في كتاب الأضواء أنّ الهُوي إلى الركوع مقوّمٌ للركوع، فالواجب حينما يقول الشارع للمكلّف اركع هو أن يهوى إلى الركوع.

ولكنّه لا قرينة عليه؛ أهوى إلى الركوع ظاهرٌ في أنّ الهوي إلى الركوع غير الركوع نفسه.

نعم، لو انحصر المكان المباح بمكانٍ لا يمكن فيه الركوع الاختياري، فلو أراد المكلّف أن يركع ركوعاً اختيارياً توقف على أن يغصب مكاناً، فهنا يُقال بأنّ الأمر بالركوع على وجهٍ مطلق ليس ممكناً؛ لاستلزامه ارتكاب الحرام وعلى نحو الترتب غير معقول؛ لأنّه يكون بمنزلة أن يقال: إذا هويت إلى الركوع هوياً تاماً فاركع، وإذا هوى الشخص إلى الركوع هوياً تاماً يعني تحققت العلّة التامّة منه للركوع، وفرض تحقق العلّة التامّة للركوع يعني فرض تحقق الركوع نفسه، فكأنّ قال إذا ركعت فاركع، وهذا طلبٌ للحاصل.

ولكن ليس كلامنا الآن في مورد عدم المندوحة، يمكننا أن نفرض أنّه كان بإمكانه أن يصلّي صلاة إختيارية في مكان مباح ولكنه بسوء اختياره اختار هذا المكان للصلاة، وإذا فرغنا عن هذه المسألة نتكلم عن فرض عدم المندوحة إن شاء الله.

فإذاً الهُوي إلى الركوع ليس ركوعاً وإن قال السيد الخوئي & بأنّه مصداقٌ للغصب المحرّم.

[كلام المحقق النائيني وإنكار السيّد الخوئي عليه ]

المحقق النائيني & قال: أبداً ليس الهوي إلى الركوع مصداقاً للغصب المحرّم؛ لماذا؟ لأنّ الهُوي إلى الركوع إن كان من مقولة الأين؛ الانتقال من مكانٍ إلى مكان صح أن ندّعي أنّه مصداقٌ للتصرّف المحرّم، ولكن الهوي إلى الركوع يعني الإنحناءات المتعاقبة، الانحناء اليسير ثمّ الإنحناء الأشدّ منه ثمّ الإنحناء الذي أشدّ من الإنحناء السابق، هذه الإنحناءات تُسمّى بالهوي إلى الركوع. والانتقال من انحناء إلى انحناء أشد هذا مقدّمة للهوي إلى الركوع.

نظير ما يذكره السيد الخوئي & في كتابه الفقهي وأبحاثه الفقهيّة من أنّ المسح على الرأس والرجلين ليس مصداقاً للغصب المحرّم، خلافاً لما ذكره في الأصول. يقول لأنّ المسح عبارةٌ عن مسّ الرأس مثلاً باليد عدّة مرات متعاقبة، مسّ ابتداء الرأس ثم مسُّ متوسط الرأس ثم مسّ مؤخّر الرأس، هذه الأفراد من المسّ إذا وُجدت متعاقبةً فيُسمّى بالمسح بينما أنّه ذكر في الأصول أنّ المسح يعني إمرار اليد على الرأس، وإمرار اليد يكون من مقولة الأين، ومقولة الأين يعني التصرف في هذا المكان، الانتقال من مكانٍ إلى مكانٍ آخر.

السيد الخوئي & هنا أنكر على المحقق النائيني & ما ذكره في الهوي إلى الركوع والحقّ مع السيد الخوئي؛ فإنّ الهُويَّ إلى الركوع ليس بمعنى مجموعة انحناءات متعاقبة، يعني مجموعة أفراد لمقولة الوضع، لا. الهوي إلى الركوع موجودٌ واحد تدريجي كالحركة، وهو من مقولة الأين.

[حرمة التصرّف في ملك الغير حرمةٌ عقلائيّة لا تعبديّة محضة]

يمكن لنا أن ندعيَ شيئاً آخر، وهو أن نقول:

حتى لو كان الهوي إلى الركوع فعلاً صلاتياً –كما اختاره في كتاب الأضواء والآراء- واخترنا أنّ الهوي إلى الركوع من مقولة الأين كما هو الصحيح، مع ذلك حرمة التصرّف في مال الغير ليست حرمةً تعبديّةً محضة، حرمةٌ عقلائية فتنصرف إلى التصرّفات المعتدّ بها، فليس كلّ حركةٍ في فضاء ملك الغير تصرّفاً عرفياً ممنوعا.

أنا أذكر لكم مثال: شخصٌ أخذ –مثلاً- آلة الخياطة التي لكم ووضعها في أرض الغير بدون إذن صاحبه ولكن مفتاح الماكينة بيدكم، هذا الجهاز الذي تشتغل به المكنة بيدكم، افرضوا أن الكهرباء أيضاً لكم وأنتم خارج ذلك المكان تضغطون على هذا الجهاز فتتحرك ماكينة الخياطة وتخيّط الثوب الذي هو ملكٌ لكم أيضاً. فهل العرف يسمع من صاحب هذا البيت أن يعترض عليكم، يقول: ألست متديناً؟ كيف تتصرّف في مالي بغير إذني؟ فأنت تقول ما هو تصرّفي؟ يقول: انظر إلى ماكينة الخياطة تتحرك، تحرّك الإبرة وتحرّك الخيط كلّ ذلك إجرامٌ منك يا مجرم!

هذا ليس مقبولاً لدى العرف، فإذا يمكننا أن نقول الهوي إلى الركوع ليس مصداقاً للتصرف المحرّم في ملك الغير.

وهكذا يمكن أن نذكر مثالا آخر، وهو: أنه لو شخص أخذ السبحة في مكانٍ مغصوب من يد صديقه وحرّك السبحة، يلعب بها ويحرّكها، فصاحب البيت قال: غصب هذا المكان إمّا أنت مضطر إليه أو لو كان بسوء اختيارك فأنت محرّماً لكن ما هذا اللعب بالسبحة تحرّكها؟ حرام، تتصرّف في ملكي بدون إذني! تحريك السبحة بالفضاء.

هذا غير مقبول لدى العرف، ودليل حرمة التصرّف في مال الغير ينصرف عن هذه التصرّفات العقليّة.

والحاصل:

    1. أنّ الهوي إلى الركوع أولاً ليس فعلاً صلاتياً وإن كان مصداقاً للغصب.

    2. مضافاً إلى إمكان المناقشة في كونه غصباً محرّما.

يقع الكلام في بقية أفعال الصلاة غداً إن شاء الله.