بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/06/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (في اجتماع الأمر والنهي)

بعدما فرغنا عن جواز اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان فيقع الكلام فيما إذا كان الواجب تعبديّاً، فقد يُمنع من صحة العبادة التي تكون مصداقاً للحرام.

فقد ذكر المشهور: أنّ العبادة في مورد اجتماع الأمر والنهي باطلةٌ في فرض العلم والعمد بل في فرض الجهل التقصيريّ.

ولكن ليس ذلك إجماعيّاً؛ لأنّ الظاهر من كلام فضل بن شاذان & المنقول في الكافي صحتها مطلقاً، حيث ذكر أنّ الرجل الذي دخل دار قومٍ بغير إذنهم فصلّى فيها فهو عاصٍ في دخوله الدار وصلاته جائزةٌ لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة، وظاهر نقل الكافي له وعدم إنكاره عليه أنّه ارتضى هذا القول.

فما ذكره السيد الخميني+من أنّ مقتضى القاعدة صحة العبادة في مورد اجتماع الأمر والنهي حتى مع العلم والعمد وإنّما نحكم ببطلان الوضوء بالماء المغصوب عالماً عامداً أو الصلاة في المكان المغصوب عالماً عامداً لأجل الإجماع، فنقول:إن كان مقتضى القاعدة صحة العبادة في مورد اجتماع الأمر والنهي ولو كان عالماً عامداً فلا موجب لرفع اليد عن مقتضى القاعدة بإجماعٍ لم يثبت، بل لو ثبت لم يكن إجماعاً تعبديّاً لاحتمال كونه مستنداً إلى وجهٍ عقليٍّ أو عقلائي ذُكر في الكلمات، والإجماع المدركي ليس كاشفاً عن رأي المعصوم بعد أن كان مستنداً أو محتمل الاستناد إلى وجهٍ وصل إلينا، فلا بدّ أن نتأمل في ذلك الوجه الذي هو مستند المجمعين.

ولأجل ذلك أفتى السيد الزنجاني = سابقاً بصحة الوضوء بالماء المغصوب أو الصلاة في المكان المغصوب ولو كان عالماً عامداً، لكنّه أخيراً عدل = إلى الاحتياط الوجوبي لأجل تشكيكه في انعقاد الإطلاق في دليل الأمر بالصلاة أو الوضوء بالنسبة إلى هذه الصلاة أو هذا الوضوء بالماء المغصوب، فليس الإشكال عنده إشكالاً ثبوتياً وإنّما إشكالٌ إثباتي إستظهاريّ.

وقد أشكلنا عليه: بأنّه لو شكّكتم في انعقاد الإطلاق في الدليل فغايته وصول النوبة إلى الأصل العملي، ومقتضى الأصل العملي البراءة عن تقيّد العبادة بأن لا تكون مصداقاً للحرام.

والسيد السيستاني= لولا الشهرة يُفتي بصحة العبادة في مورد اجتماع الأمر والنهي، بل يقول حتى لو كان النهي متعلّقاً بنفس العنوان المتعلَّق للأمر بأن كان الأمر متعلِّقاً بعنوانٍ مطلق على نحو صِرف الوجود والنهي متعلّقاً بعنوان مقيّد، كما هو مختاره في النهي عن الغصب، حيث يراه عنواناً مشيراً إلى العناوين الذاتيّة للأفعال، فتعلّق الأمر بالصلاة وتعلّق النهي بالصلاة في المكان المغصوب، وتعلّق الأمر بالوضوء ثم تعلّق النهي بالوضوء في المكان المغصوب. فهنا يقول لا مانع من مقربيّة هذا العمل الذي هو مصداقٌ للحرام لأنّه امتثالٌ للواجب أيضاً، فالعمل مبعّدٌ من حيث ومقرّبٌ من حيثٍ آخر، وليس القرب والبعد قرباً وبعداً مكانياً حتى يمتنع اجتماعهما. فالقرب والبعد إلى الله سبحانه وتعالى معنويٌ، فيمكن أن يكون الشخص حيث إنّه بصدد امتثال الأمر بالصلاة متقرّباًَ إلى الله ومن حيث اختياره لهذا الفرد –وهو الصلاة في المكان المغصوب- عاصياً، ولا مانع من اجتماع القرب بلحاظ كونه بصدد امتثال الأمر بصرف وجود الصلاة لله مع مبعديّة اختياره لهذه الحصّة المحرّمة. لكنّه في مقام الفتوى لم يفتِ بصحة الصلاة في المكان المغصوب عالماً عامداً وجاهلاً مقصِّراً، وأمّا في الوضوء فأفتى بصحة الوضوء بالماء المغصوب جاهلاً مقصِّراً فضلاً عن كونه جاهلاً قاصراً؛ لما ذكره من أنّ الوضوء موضوعٌ للحكم بالطهارة بينما أنّ الصلاة متعلّقٌ للوجوب ولأجل ذلك فرّق بينهما.

ولكن نحن أشكلنا عليه: بأنّه لو تمشّى قصد القربة من الجاهل المقصّر فلا فرق بين الموردين وإن لم يتمشَ منه قصد القربة فكذلك لا فرق بين الموردين بعد اختيار السيد = جواز اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان بل مع وحدة العنوان.

وكيف كان، تارةً ننظر إلى المسألة نظرةً عقليّةً محضة وأخرى ننظر إليها نظرةً عقلائيّة ومتشرعيّة، فبالنظرة العقليّة فكما يقول السيد الخميني + والسيد السيستاني = والسيد الزنجاني = يمكن أن يكون العمل الواحد مقرّباً ومبّعداّ من جهتين؛ فإنّ هذا المكلف تدينه ولو بتدينٍ نسبي جعله يقوم من النوم ويتوضأ ويصلّي لكن ليس تدينه بحيث يختار المكان المباح فهو يتكاسل أن يذهب إلى مكانٍ مباح، بيته متعلّقٌ للخمس أو متعلّقٌ لحق الأخوات ولم يعطِ حقهن من الميراث، فليس متديناً بالمستوى الكامل لكنّه لا يريد أن يكون تاركاً للصلاة فهو يقوم آذان الفجر ويتوضأ ويصلّي، كيف لا يكون قاصداً للقربة؟! ولكن في نفس الوقت ضعف تديّنه جعله يختار هذا الفرد الحرام –وهو الوضوء بالماء المغصوب أو الصلاة في المكان المغصوب- فأيّ مانعٍ من أن يكون سبب قربه إلى المولى أنّ الداعي الإلهي دعاه وحرّكه إلى صِرف وجود الصلاة، وسبب بعده عن الله سبحانه وتعالى أنّ الداعي الشيطاني دعاه إلى هذا الغصب؟

هذا بالنظر العقليّ ولكن لا تكفي النظرة العقليّة المحضة؛ فإنّ الخطاب المشروط بقصد القربة كقوله تعالى ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ أو ﴿أقم الصلاة لذكري﴾ حيث استُظهر منه الأمر بالصلاة لله أنّه لا بدّ أن يكون العمل صالحاً لأن يُتقرب به. فلو ضرب ابن المولى وقصد التقرّب إلى المولى، العرف يقول هذا العمل لا يصلح لأن يُتقرّب به إلى المولى، العمل الذي يكون مبعداً عن المولى والمولى يعاقب عليه ويوبخه عليه لا يصلح حسب المرتكز العقلائي والمتشرّعي لأن يُتقرّب به إلى الله ويكون عبادة لله سبحانه وتعالى، كما ورد في حديثٍ مرسل "لا يُطاع الله من حيث يُعصى". هذا حديثٌ مرسل، ولو تمّ سنده مع ذلك لا يسعنا الاستدلال به في المقام لأنّه قد يقال بأنّ الله سبحانه وتعالى هنا لا يُطاع من حيث يُعصى، يطاع من حيثٍ ويُعصى من حيثٍ آخر، يطاع من حيث إنّه صلاة ويعصى من حيث إنّه غصبٌ. لكن أذكر ذلك كمؤيد لما هو المرتكز العقلائي والمتشرّعي، فلا يبعد بطلان العبادة في فرض تنجّز الحرمة، بأن كان عالماً عامداً أو جاهلاً مقصّراً أو ناسياً مقصّرا.

فما ذكره السيد السيستاني = من أنّه لو صلّى شخصٌ فرادى في مكانٍ أُقيمت فيه الجماعة وكانت صلاته هتكاً للإمام الذي لا يجوز هتكه فصلاته صحيحة وإن كان يصدق عليها أنّها هتكٌ للمؤمن فلا يتمّ بإطلاقه.

ولعلّ السيد السيستاني = مشى وفق ما اختاره من صحة العبادة التي تكون مصداقاً للحرام وإنّما منعه من الفتوى وفق هذه القاعدة في الصلاة في المكان المغصوب لأجل اشتهار الفتوى ببطلانها، فإذا لم تكن شهرةٌ على بطلان عبادةٍ، تكون مصداقاً للحرام فيرجع السيد السيستاني = إلى مقتضى القاعدة التي اختارها، وهي صحة الصلاة التي تكون مصداقاً للحرام.

هنا ينبغي أن نتعرّض لكلام صاحب الكفاية وكلام المحقق النائيني ‚، صاحب الكفاية قال: بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي تصحّ العبادة التي تكون مصداقاً للحرام مطلقاً ولكن بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي تصحّ العبادة في فرض الجهل القصوري، لماذا؟

لأنّه في مورد اجتماع الأمر والنهي وإن سقط الأمر لوجود النهي لكن الملاك مُحرز، فالصلاة في المكان المغصوب واجدةٌ للملاك، وحيث تمشّى قصد القربة من المكلّف في فرض الجهل القصوري فنحكم بصحة الصلاة في المكان المغصوب عن جهلٍ قصوريٍّ.

فنقول: يا صاحب الكفاية:

     إن تمشّى قصد القربة من المكلف –كما هو مبناكم من أنّ العبادة مع القول بجواز اجتماع الأمر والنهي صحيحةٌ مطلقاً، ويعني ذلك تمشّي قصد القربة من المكلّف مطلقاً حتى لو كان عالماً عامداً وجاهلاً مقصّرا- فلماذا قلتم باختصاص تمشّي قصد القربة بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي من الجاهل القاصر؟ المفروض أنّكم أحرزتم الملاك وبقيت مشكلة قصد القربة من المكلّف، لماذا تقولون بناءً على القول بالامتناع باختصاص تمشّي قصد القربة من الجاهل القاصر؟

     إن كنتم تمنعون من تمشّي قصد القربة من العالم العامد والجاهل المقصّر فقولوا بذلك حتى بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي.

نعم، إذا كان مبناكم في جواز اجتماع الأمر والنهي تعدد المعنون في الخارج فتقولون بأنّ من يرى جواز اجتماع الأمر والنهي يرى المعنون الخارجي متعدداً، بخلاف من يرى امتناع اجتماع الأمر والنهي فإنّه يرى المعنون الخارجي واحداً، إن كان هذا مبناكم فلا بدّ أن نتكلم عنه لأنّ المحقق النائيني & هكذا قرّر، فقال بالتفصيل بين التركيب الاتحادي والتركيب الانضمامي، التركيب الاتحادي هو مورد وحدة المعنون والتركيب الانضمامي هو مورد تعدد المعنون، ولكن يا صاحب الكفاية أنتم ما بنيتم جواز الاجتماع على تعدد المعنون وامتناع الاجتماع على وحدة المعنون، لا.

قلتم بامتناع الاجتماع، ومن يرى جواز الاجتماع لعلّه يرى وحدة المعنون أيضاً لكن يكفيه تعدد العنوان، فيقول بكفاية تعدد العنوان ولو مع وحدة المعنون.

فإذاً نقول يا صاحب الكفاية:

     إمّا أن يتمشى قصد القربة من العالم العامد والجاهل المقصّر فلماذا بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي حكمتم ببطلان عبادتهما وقلتم بأنّه لا يتمشى قصد القربة إلّا من الجاهل القاصر وإن كان الملاك محرزاً على أيّ تقدير.

     وإن كنتم تقولون بامتناع تمشّي قصد القربة من العالم العامد والجاهل المقصّر فلماذا بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي حكمتم بصحة عبادة العالم العامد والجاهل المقصّر.

فإذاً، كلام صاحب الكفاية غير متجه، ونتكلّم عمّا قاله المحقق النائيني غداً إن شاء الله.