بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/06/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (في اجتماع الأمر والنهي)

كان الكلام في اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان، فذهب المشهور إلى امتناع الاجتماع واستدلّوا عليه بعدّة وجوه:

[الوجه الأول للامتناع]

 

الوجه الأول: ما ذكره صاحب الكفاية + في طيّ أربع مقدّمات:

    1. المقدّمة الأولى: إنّ الأحكام التكليفية متضادّة في مرتبة الفعليّة.

    2. المقدّمة الثانية: إنّ الأحكام التكليفية لا تتعلق بالعناوين وإنّما تتعلّق بالمعنونات والعناوين حيثيات تعليليّة وآلة ومرآة لتعلّق الأحكام التكليفيّة بالمعنونات.

    3. المقدّمة الثالثة: إنّ تعدد العنوان لا يكشف عن تعدد المعنون.

ونتيجة هذه المقدمات الثلاث: أنّه إذا تعلّق الأمر بالصلاة وتعلّق النهي بالغصب، فحيث إنّ المعنون الخارجي لهما في مورد الصلاة في المكان المغصوب واحد فيستحيل اجتماع الأمر والنهي في هذا المورد.

ونحن قبلنا جميع هذه المقدمات الثلاث، لكن قلنا بأنّ الأمر إذا كان متعلقاً بصرف وجود الطبيعة فمعنونه واقع صرف الوجود لا هذا الفرد الذي تعلّق به النهي، فواقع صرف وجود الصلاة هو المأمور به لا هذا الفرد من الصلاة –وهو الصلاة في المكان المغصوب- فلا مانع من تعلّق الأمر بصرف وجود طبيعةٍ وتعلّق النهي بفردٍ من تلك الطبيعة بعنوانٍ آخر –كعنوان الغصب-.

    4. المقدّمة الرابعة: ما ذكره من أنّه كما يكون المعنون الخارجي واحداً وجوداً كذلك يكون واحداً ماهيّةً، وتعدد العنوان كما لا يكشف عن تعدد وجود المعنون فكذلك لا يكشف عن تعدد ماهيته، فلا يتمّ ما ذكره صاحب الفصول &؛ من أنّه بناء على أصالة الماهية فتعدد العنوان يكشف عن تعدد الماهية للمعنون في الخارج فإنّ ماهيّة الصلاة في المكان المغصوب ماهيّة واحدة وإن تعددت العناوين الانتزاعيّة منها.

وما ذكره صحيح ولكنّه ليس بمهم، فالمهم تلك المقدمات الثلاثة التي ذكره أولاً.

[كلام الشهيد الصدر +]

ذكر في البحوث أنّ تعدد العنوان يوجب امتناع اجتماع الأمر والنهي إذا كان المعنون واحداً إلا في موردٍ واحد، وهو ما إذا تعلّق الأمر بجنسٍ وتعلّق النهي بفرده، كما لو تعلّق النهي بإنحناء الخط وتعلّق الأمر برسم الخط، فإنّه هنا لا يوجد جزءٌ مشتركٌ بين متعلّق الأمر والنهي أبداً، بينما أنّه على مبنى المحقق النائيني & من أنّ تعدد العنوان المبدأي يكشف عن تعدد المعنون والعنوان الاشتقاقي المتعدد لا يكشف عن تعدد المعنون، فيرى المحقق النائيني جواز اجتماع الأمر والنهي تابعاً للمعنون، ففي العناوين المبدأية كالصلاة والغصب يرى تعدد المعنون خارجاً فيرى جواز الاجتماع، وفي العناوين الاشتقاقيّة كالعالم والعادل "أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق"، العالم والفاسق عنوانان اشتقاقيان؛ فحيث إنّ المعنون فيهما واحدٌ خارجاً فيمتنع اجتماع الأمر والنهي بنظر المحقق النائيني &.

في البحوث يقول &: نحن لا نعتبر ذلك، فوحدة المعنون خارجاً لا يمنع من جواز اجتماع الأمر والنهي إذا تعدد العنوان بشرط أن لا يوجد جزءٌ مشتركٌ بين العنوانين. ولأجل ذلك يقول في البحوث نحن كبروياً لم نختلف في النتيجة عمّا ذكره المحقق النائيني & إلّا في موردٍ واحد، وهو ما إذا تعلّق الأمر بجنسٍ وتعلّق النهي بفصله، فالفصل متحدٌ وجوداً مع الجنس ولكن بنظرنا تعدد العنوان فيهما –في الجنس والفصل- وعدم وجود جزء مشترك بينهما يوجب جواز اجتماع الأمر والنهي، فلا مانع من أن يقول المولى ارسم خطاً وينهى عن انحناء الخط.

وأمّا في غير هذا المثال فعادةً يوجد جزءٌ مشترك بين عنوان متعلّق الأمر وعنوان متعلّق النهي، فالصلاة تعني ذاتاً ثبت لها الصلاتية والغصب تعني ذاتاً ثبت لها الغصبية، فيوجد بينهما جزءٌ مشتركٌ وهو الذات، ولأجل اشتراكهما في هذا الجزء يمتنع اجتماع الأمر والنهي لما ذكره من برهانٍ تقدم بيانه والجواب عنه سابقاً.

نحن نقول:

في هذا المثال "ارسم خطاً ولا توجد الانحناء في الخط" فبالنظر العرفي الانحناء عرضٌ، والعرضُ وجوده مختلفٌ عن وجود محله بالنظر العرفي، فحتى المحقق النائيني + لا بدّ أن يقول بجواز اجتماع الأمر والنهي.

ففي هذه المسألة لا فرق بين مبنى المحقق النائيني ومبنى البحوث ‚ في لزوم القول بجواز الاجتماع، بينما أنّه في مثال الصلاة والغصب المحقق النائيني & يرى تعدد المعنون في الخارج فيرى جواز الاجتماع، وأمّا البحوث فيرى أنّ بينهما جزء مشترك وهو الذات فيرى امتناع اجتماع الأمر والنهي.

ولكن نحن أنكرنا ذلك؛ لا يوجد بين الصلاة والغصب جزءٌ مشترك.

وخلاصة الكلام: أنّ الوجه الذي اختاره صاحب الكفاية للمنع من جواز اجتماع الأمر والنهي إنّما يتمُّ في الأمر الانحلالي بطبيعةٍ والنهي الانحلالي عن طبيعةٍ أخرى وكانت النسبة بين الطبيعتين عموم وخصوص من وجه، وأمّا في الأمر بصرف وجود طبيعةٍ والنهي عن طبيعةٍ أخرى فلا مانع من اجتماعهما.

 


[الوجه الثاني للامتناع]

 

الوجه الثاني الذي ذكره السيّد الخوئي & هو:

أنّ إطلاق الأمر يتقوّم بالترخيص في التطبيق فإذا قال المولى "صلِّ"، فإطلاقه للصلاة في المكان المغصوب يعني الترخيص في تطبيق الصلاة على الصلاة في المكان المغصوب، والترخيص في التطبيق لا يجتمع مع النهي عن التطبيق، فإذا قدّمنا النهي فلا بدّ من أن نقيّد الأمر بغير هذا الفرد.

ولكن أجبنا عن ذلك: بأنّ قوام الأمر بالترخيص الحيثيّ في التطبيق لا الترخيص الفعليّ التكليفيّ في التطبيق من جميع الجهات.


[الوجه الثالث للامتناع]

 

الوجه الثالث الذي ذكره السيّد الخوئي & أيضاً، هو ما قال: من أنّه لا يمكن اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة في شيءٍ واحد، فالصلاة في المكان المغصوب لأجل كونها غصباً فتكون مبغوضةً فلا يمكن أن تكون محبوبةً وقوام الواجب بالمحبوبيّة.

أجاب في البحوث عن ذلك، فقال:

ما هو المحبوب؟ هو المقيّد، وما هو المبغوض؟ هو القيد، الصلاة المتقيّدة بكونها غصباًَ. فهذه الصلاة وإيقاعها في هذا الحال يمكن أن تكون محبوبةً؛ لأنّ المبغوض هو القيد –وهو الغصب-.

وهذا الجواب غريب من البحوث؛ لأنّ القيد:

     تارةً لا ينطبق على المقيّد –كالصلاة مع الساتر المغصوب- القيد هو التستر بالساتر المغصوب والمقيّد هو إيقاع الصلاة في هذه الحال، فلا مانع من أن تكون الصلاة محبوبةً ولأجل ذلك يمكن أن يقول المولى "لا يجوز لك أن تتستر بالساتر المغصوب ولكن لو تسترت به فيجب عليك أن تصلّي في هذه الحال"؛ لأنّ التركيب بين القيد والمقيّد انضماميٌّ وليس اتحاديّاً، القيد يختلف وجوداً عن المقيّد.

     ولكن قد يكون القيد عنواناً منطبقاً على نفس المقيّد، فالغصب منتزعٌ عن ذات هذه الصلاة في المكان المغصوب، هذه الصلاة في المكان المغصوب غصبٌ؛ لأنّ الغصب عنوان انتزاعي انتُزع من ذات هذه الصلاة بلحاظ كونها واقعةً في أرض الغير، فيتمّ كلام السيّد الخوئي من أنّ هذا الغصب مبغوضٌ فكيف يمكن أن يكون محبوباً.

 


ولكن نقول في الجواب عن السيّد الخوئي &:

بأنّه لا دليل على لزوم كون فرد الواجب محبوباً فعلياً، ما هو الدليل على لزوم ذلك؟ فقد صرّح السيّد الخوئي & نفسه في الوضوء بالماء المغصوب نسياناً أو اضطراراً أو إكراهاً أنّ هذا الوضوء مبغوض لأنّه غصبٌ، ولكن حيث سقط النهي عنه لأجل النسيان أو الجهل المركب أو الاضطرار أو الإكراه فارتفع المانع عن إطلاق الأمر؛ لأنّ المانع عن إطلاق الأمر هو النهي، فإذا ارتفع النهي وأمكن الترخيص في التطبيق فيتمُّ إطلاق الأمر بالوضوء بماءٍ مغصوب نسياناً أو جهلاً مركباً أو اضطراراً أو إكراهاً. مع أنّه يصرّح أنّ هذا الوضوء مبغوض، لماذا؟ لأنّه لو شخصٌ نسي كون هذا الماء مغصوباً فلا يجوز للغير –الملتفت- أن يقول له "توضأ من هذا الماء" لا يجوز للإنسان أن يُكره غيره على الوضوء بالماء المغصوب، مع أنّ الناسي والمُكره ليس مكلفاً لكن لا يجوز للمكلّف الآخر التسبيب إلى المبغوض للمولى. ولأجل ذلك حرّموا لصاحب البيت أن يقدّم الطعام النجس إلى الضيف، مع أنّ الضيف غافلٌ عن نجاسته ولا يكلّف بالاجتناب عن هذا الطعام النجس، لكن يقال لصاحب البيت أنت كنت ملتفتاً فلماذا ألقيته في المبغوض الإلهي؟ هذا نصُّ كلام السيّد الخوئي &.

فيا سيدنا الخوئي أنت اعترفت بأنّ المبغوضيّة لا تمنع من إطلاق الأمر بل من عباديّة الفعل ما لم يكن الإتيان بهذا المبغوض على وجه المبعديّة والاستحقاق للعقاب. لو كنتُ عالماً عامداً أو جاهلاً مقصّراً أو ناسياً مقصّراً كما لو غصبت الماء ثم نسيت، كان الفعل الصادر مني على وجه المبعديّة والاستحقاق للعقاب فلا يصلح للمقربيّة، وأمّا الناسي والجاهل والمركب والمكره والمضطر ... عمله مبغوض، ولأجل ذلك يحرم على الغير إلقاءه في هذا ا لعمل المبغوض ولكن لا يمنع ذلك من إطلاق الأمر له؛ لأنّه لا دليل على لزوم كون مصداق الواجب محبوباً بالفعل بل يكفي أن يكون مصداقاً لصرف الوجود الذي ذاك الصرف الوجود محبوبٌ للمولى، أمّا هذا الفرد قد ابتُلي بمانعٍ يمنعه من أن يكون محبوباً بالفعل.

فإذاً لم يتم أيّ وجهٍ من الوجوه الثلاثة لامتناع اجتماع الأمر والنهي، وبذلك نلتزم:

    1. بأنّه في الواجب التوصلّي لا إشكال أبداً في امتثال الواجب التوصلّي بالفرد الحرام، لو أنّ إنساناً دفن ميته في مكانٍ مغصوب، اشترى مكاناً لدفن والده ولم يخمّس هذا القبر أو لم يخمّس الثمن الشخصي الذي اشترى به هذا القبر. بعض الأشخاص يشترون لأنفسهم قبر ولا يخمّسون القبر، فُجأةً يتوفى بعض أقاربهم فيقدّمون القبر ليُدفن ذلك الميت هذا المكان متعلّق للخمس.

بناءً على رأي السيّد الخوئي & الواجب هو دفن الميت في مكانٍ مباح ولم يتحقق هذا الواجب الكفائي فيجب على الآخرين القيام بدفن الميّت في مكانٍ مباح، بينما على نظرية جواز اجتماع الأمر والنهي قد تحقق الواجب، وهو دفن الميّت في مكان وإن ارتكب الذي دفنه في هذا المكان محرّماً إلهياً وهو أنّه دفنه في مكانٍ مغصوب.

    2. وأمّا في الواجب التعبّدي فيوجد اشكال من ناحية قصد القربة، ونتكلم عن مشكلة قصد القربة في الواجب التعبّدي الذي صار مصداقاً للحرام كالوضوء بالماء المغصوب أو في مكانٍ مغصوب، نتكلم عن ذلك في الليلة القادمة إن شاء الله.