بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/06/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (في اجتماع الأمر والنهي)

كان الكلام في الوجه الذي ذكره صاحب الكفاية & في مقام الاستدلال على امتناع اجتماع الأمر والنهي ولو مع تعدد العنوان. وكان يبتني على أربع مقدمات، وصلنا إلى المقدمة الثالثة وهي أنّ تعدد العنوان لا يكشف عن تعدد المعنون، فيمكن أن يكون هناك وجودٌ واحد معنون بعنوانين متعددين، ومن هذا القبيل الصلاة والغصب.

ودافع السيّد الخوئي & عن هذه المقدمة فقال:

إذا كان أحد العنوانين عنواناً انتزاعيّاً أو كان كلاهما عنوانين انتزاعيين فيمكن أن يكون العنوان الانتزاعي منتزعاً من الذات التي يُتخذ منها عنوانٌ آخر، كأكل مال الغير في نهار شهر رمضان؛ فإنّ عنوانه الذاتي هو الأكل ويُنتزع منه عنوانان انتزاعيان أحدهما الافطار بلحاظ وقوعه في نهار شهر رمضان وثانيهما الغصب بلحاظ كون المأكول مال الغير.

ونحنا أيّدنا السيد الخوئي & فيما ذكره وإن أشكل عليه في البحوث فقال &: الصلاة والغصب وإن كانا ينطبقان على معنونٍ واحد لكن ليس الكلام في العناوين الاشتقاقيّة، بل الكلام كما ذكره المحقق النائيني & في العناوين المبدأيّة فإنّ العناوين الاشتقاقيّة لا ريب في انطباقها على معنونٍ واحد كالعالم والعادل حيث ينطبقان على شخصٍ يكون عالماً وعادلاً، والصلاة والغصب عنوانان اشتقاقيان؛ فإنّ الصلاة بمعنى ذاتٍ ثبت لها الصلاتيّة والغصب بمعنى ذاتٍ ثبت لها الغصبيّة.

واستشهد على ذلك، فقال: لا يمكن الإشارة إلى الخارج فنقول هذا غصبيّةٌ، بل هذا غصبٌ. وتخريجه أنّ الغصبيّة من الأمور الواقعيّة التي هي أوسع من عالم الوجود التكوينيّ، فكما يُنتزع وصف الإمكان عن الإنسان ولكن مُطابق كون الإنسان ممكناً في عالم نفس الأمر وعالم الواقع. وهكذا امتناع اجتماع النقيضين، فقولنا اجتماع النقيضين ممتنع مطابق لقضيّةٍ نفس أمريّة، فعالم الواقع ونفس الأمر أوسع من عالم الوجود، عدم العنقاء ليس موجوداً ولكن له واقعيّةٌ.

فإذاً حيث لا يمكننا أن نشير إلى الخارج فنقول هذا غصبيّةٌ، فيعني ذلك أنّ الغصبيّة ليست موجودةً في الخارج وما هو الموجود في الخارج هو الغصب، واتحاد معنون الصلاة والغصب يكون من مصاديق اتحاد المعنون في العناوين الاشتقاقيّة.

وعليه فلو قال المولى: "أوجد الصلاتيّة ولا توجد الغصبيّة" فلا يكون المعنون فيهما واحداً؛ لاختلاف حيثية الصلاتية عن حيثية الغصبيّة، ولكن لو قال "صلِّ" أي أوجد ذاتاً ثبت لها الصلاتية وقال "لا تغصب" أي لا توجد ذاتاً ثبت لها الغصبيّة، فحيث إنّ هناك جزءاً مشتركاً بين متعلّق الأمر والنهي وهو عنوان الذات، فيكون من قبيل ما لو وُجد جزءٌ مشتركٌ في متعلّق الأمر والنهي، كما لو قال المولى أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق. وسيأتي من البحوث اختياره امتناع اجتماع الأمر والنهي فيه ببيان سيأتي توضيحه.

نقول في الجواب: عدم إمكان الإشارة إلى الخارج بأن نقول هذا غصبيّةٌ، لا يعني أنّ الغصبيّة ليست موجودةً في الخارج؛ لأنّ هذا المطلب لا يختصّ بالمصدر الجعلي للغصب ويأتي في كلّ مصدرٍ جعلي، لا يقال: هذا شربيةٌ، هذا أكليةٌ؛ لأنّ الأكليّة والشربيّة ونحو ذلك ليس لها وجودٌ مستقلٌ وراء وجود الأكل والشرب ونحو ذلك. فالغصبيّة كالأكليّة والشربيّة موجودة في الخارج لكن بنفس وجود الغصب، وليس لها وجودٌ منحازٌ في الخارج بحيث يشار إليه فيقال هذا غصبية كما يُشار إلى البياض فيقال هذا بياضٌ.

والحاصل: أنّ كلامنا في الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب وليس كلامنا في الأمر بحيثيّة الصلاتيّة والنهي عن حيثيّة الغصبيّة، فنتكلم عن ما ذكره في البحوث من أنّ معنى الصلاة هو الذات التي ثبت لها الصلاتيّة والغصب بمعنى الذات التي ثبت لها الغصبيّة، هذا الكلام غريب. مفهوم الغصب بسيط تصوّري، مفهوم الصلاة بسيط تصوّري، تحليل هذا المفهوم إلى أجزاء تحليليّة لا ينافي أنّ هذا بسيط تصوّري؛ فالغصب ليس إلّا بمعنىً واحد بسيط وتحليله إلى ذاتٍ ثبت لها الغصبيّة نظير تحليل الأكل إلى ذاتٍ ثبت له الأكليّة وتحليل الشرب إلى ذاتٍ ثبت له الشربيّة ونحو ذلك.

هذا مضافاً: أنّه حتى لو كان مفهوم الغصب مركباً من ذاتٍ ثبت لها الغصبيّة فهذا الجزء المشترك الذي هو مفهومٌ مبهم لا يؤثّر في امتناع اجتماع الأمر والنهي؛ لأنّ ما ذكره من أنّ الجزء المشترك بين متعلّق الأمر والنهي يوجب امتناع اجتماع الأمر والنهي يختص بالعناوين التفصيليّة كعنوان الإكرام، فنلحظ بيانه في الجزء المشترك التفصيلي كعنوان الإكرام في قولنا "أكرم عالماً" وقولنا "لا تكرم الفاسق"، فنلحظ ما هو بيان البحوث في امتناع اجتماع الأمر والنهي في مثله.

قال &: لمّا يقول الشارع "أكرم عالماً" فظاهره أنّه يحبّ إكرام عالمٍ على نحو صرف الوجود، وحبّ الجامع –كحبّ جامع إكرام العالم- يستلزم حبّ كلّ فردٍ عند ترك سائر أفراد الجامع. فأنت حينما تحبّ أن تكرم عالماً فتكرم زيداً العالم فإكرامُ زيدٍ العالم محبوبٌ لك فيما إذا لم تكرم عالماً غيره، فتقول: تحقق محبوبي هذا اليوم لأنّي أكرمت زيدٍ العالم. أو إذا أحببت شرب ماءٍ، فأخذت بيدك كأس ماء وشربته فتقول هذا كان محبوبي.

فيقول في البحوث: حبّ إكرام عالمٍ يستلزم حبّ إكرام العالم الفاسق إذا ترك المكلّف إكرام العالم العادل. فإذاً، يكون الإكرام محبوباً ضمنياً في ضمن إكرام العالم الفاسق؛ لأنّ هذا فردٌ لجامع إكرام العالم، وحبُّ الجامع يسري إلى حبّ الفرد عند ترك سائر الأفراد، والمفروض أنّ هذا الإكرام بعنوانه مبغوض؛ لأنّك تبغض إكرام الفاسق فلا يمكن أن يجتمع الحبّ والبغض في عنوانٍ واحد؛ إكرام العالم في ضمن العالم الفاسق، محبوب ضمني وفي نفس الوقت يكون مبغوضاً استقلاليّاً لانحلاليّة بغض إكرام الفاسق.

فنقول: لو تمّ هذا البيان لاختصّا في العنوان التفصيليّ كعنوان الإكرام لا المفهوم المبهم كقولنا ما ثبت له الغصبيّة، ذات ثبت له الغصبيّة ونحو ذلك. ولكن نتكلم عن هذا المثال فنقول:

    1. أولاً: قلنا بأنّ حبّ الجامع لا يسري إلى الفرد.

أنت حينما تحبّ أن تكرم عالماً فتكرم زيدٍ العالم، يمكنك أن تقول أنا لم أكن أحب إكرام زيدٍ وإنّما كنت أحب أن أكرم عالماً لكن لم أجد غيره فأكرمته، أو وجدت غيره لكن كان إكرامه سهلاً فأكرمته.

وهكذا إذا تحب أن تشرب ماءً فتفتح باب الثلاجة وتأخذ كأس ماءٍ، يمكنك أن تقول أن لا أحب أن أشرب هذا الماء وإنّما أحبّ أن أشرب ماءً، هذا مصداق المحبوب وليس محبوباً، والشاهد على ذلك أنّك لو لم تشرب الماء وكان في البيت عشر أواني فهل فات منك عشر محبوبات؟ أبداً. فحبّ إكرام عالمٍ لا يسري إلى حبّ إكرام العالم الفاسق عند ترك إكرام العالم العادل، هذا أولاً.

    2. وثانياً: لا مانع من اجتماع حبّ إكرام العالم بالنسبة إلى إكرام زيد من دون أن أحبّ إكرام الفاسق؛ لأنّك ذكرت في البحوث أنّ حبّ المقيّد لا يسري إلى حبّ القيد وإلّا لامتنع اجتماع الأمر والنهي في كلّ مكان؛ لأنّ هذا المورد الذي اجتمع فيه عنوان الواجب والحرام واجبٌ مقيّدٌ بكونه مصداقاً للحرام. فإذا سرى حبّ الواجب إلى حبّ هذا الفرد وسرى حبّ هذا الفرد المقيّد بكونه متحدّاً مع العنوان الحرام إلى قيده –وهو العنوان الحرام- لم يجتمع مع مبغوضيّة الحرام، فكيف جوزت اجتماع الأمر والنهي ولكنك تذكر مطلباً يؤدّي إلى تخريب هذا المبنى أساساً؟

    3. وثالثاً: حبّ الجامع ولو قلنا بأنّه يسري إلى الفرد عند ترك سائر الأفراد وقبلنا أنّ حبّ المقيّد يسري إلى قيده لكن حبّ الجامع إنّما يسري إلى الفرد في ما إذا لم يكن ذلك الفرد مبتلىً بالمانع عن الحب.

وهذا نظير ما ذكره في البحوث في بحث مقدمة الواجب من أن حبّ الصعود إلى السطح مثلاً يستلزم الحبّ الغيري لمقدمته إذا كانت المقدمة حلالاً، وإلّا إذا توقف الصعود إلى السطح على نصب السلّم المغصوب، يوجد مانعٌ عن سريان الحبّ إلى هذه المقدّمة المحرّمة. وقد صرّح في البحوث أنّه هنا لا يسري الحب إلى هذه المقدّمة المحرّمة لوجود مانعٍ فيه.

فحتى لو سرى حبّ الجامع إلى الفرد، سرى حبّ إكرام العالم إلى حبّ إكرام هذا الفرد من العالم إنّما يسري إليه إذا لم يكن مبتلىً بالمانع، فلو كان إكرام الفاسق مبغوضاً كان هذا مانعاً عن سريان الحب إلى إكرام هذا الفرد من العالم الذي هو فاسقٌ أيضاً.

والحاصل: أنّه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي ولو مع وجود جزء مشتركٍ بينهما، وإنّما لا نلتزم باجتماع الأمر والنهي في مثل "أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق" لأنّ الظاهر العرفيّ من قوله: "يحرم إكرام الفاسق" أنّ إكرام الفاسق فيه مفسدة تامّة ولا يشتمل على المصلحة التامّة. فهناك ظهور عرفيّ في خطاب تحريم إكرام الفاسق يمنع من إطلاق "أكرم عالماً" لإكرام العالم الفاسق وإلّا لا يوجد أيّ مانعٍ من إجتماع الأمر والنهي في مثله.

فإذاً حاصل الكلام: أنّ ما ذكره السيّد الخوئي + من أنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون إذا كان أحد العنوانين أو كلاهما انتزاعيّاً –لا ذاتيّاً- كلامٌ متين جدّاً.

ولكن نحن نناقش السيّد الخوئي & في أنّه يرى أنّ إطلاق الأمر بعنوانٍ لا يمكن اجتماعه مع النهي عن عنوانٍ آخر تكون النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، لماذا؟

لأنّ السيّد الخوئي يقول مثلاً في مثال "صلّ ولا تغصب" النهي عن الغصب إذا شمل السجود في مكانٍ مغصوب فهذا يمنع من إطلاق الأمر بالصلاة؛ لأنّ إطلاق الأمر بالصلاة يتقوم بالترخيص في التطبيق، والنهي عن اختيار هذا الفرد متهافتٌ مع الترخيص في تطبيق الأمر بالصلاة على هذا الفرد، فلا يجمتع النهي عن هذا الفرد مع الترخيص في تطبيق الأمر عليه.

فنقول في الجواب: المقوّم لإطلاق الأمر ليس هو الترخيص الفعلي في التطبيق وإنّما هو الترخيص الحيثي في التطبيق، أو فقل كما قال السيد السيستاني = الترخيص الوضعيّ في التطبيق، أي من ناحية الأمر بالصلاة أنت مرخّص في اختيار هذا الفرد، وهذا لا ينافي أن لا تكون مرخصاً في اختيار هذا الفرد لأجل انطباق عنوانٍ محرّمٍ عليه.

فنحن نقبل أنّ تعدد العنوان فيما لو كان أحد العنوانين انتزاعيّاً أو كلاهما انتزاعيّين لا يكشف عن تعدد المعنون، ولكن نقول: تعدد العنوان يكفي في الأمر البدلي بعنوانٍ مع النهي الشموليّ عن عنوانٍ آخر وإن انطبقا على معنونٍ واحد، وشمول النهي لهذا المعنون الواحد لا يمنع من شمول إطلاق الأمر بصرف الوجود له بعد أن لم يكن الإطلاق متقوماً بالترخيص التكليفي الفعلي في اختيار هذا الفرد.

وبذلك تتمّ نظرية جواز اجتماع الأمر والنهي، وبقيّة الكلام في ليلة الأحد إن شاء الله.