بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/06/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (في اجتماع الأمر والنهي)

كان الكلام في الوجه الذي استدلّ به صاحب الكفاية + على امتناع اجتماع الأمر والنهي، وكان يشتمل على أربع مقدمات:

المقدمة الأولى: ما ذكره من أنّ الأحكام التكليفيّة الخمسة متضادّة في مرتبة الفعليّة، فقبلنا هذه المقدّمة.

المقدّمة الثانيّة: ما ذكره من أنّ التكليف –كالوجوب والتحريم- لا يتعلّق بالعنوان وإنّما يتعلّق بالإيجاد الخارجي. فإيجاد الصلاة خارجاً هو المطلوب كما أنّ إيجاد الغصب خارجاً هو المنهيّ عنه وإلّا فعنوان الصلاة ليس واجباً لعدم تقوّم الملاك به، كما أنّ عنوان الغصب ليس محرّماً لعدم قيام المفسدة به.

فأنكر جماعة هذه المقدّمة ولكن نحن قبلناها كوجه عرفيّ، فالمحقق العراقي والسيد الخميني والسيد الصدر -رحمة الله عليهم- أنكروا هذه المقدمة الثانية، فقالوا:

بأنّ الوجوب لا يسري من العنوان إلى الخارج؛ فإنّ الوجوب نظير الحبّ، كما أنّ الحبّ يتعلّق بالعنوان فعنوان شرب الماء محبوب، متعلّق الحبّ كصفة نفسانيّة ذات إضافة هو العنوان بما يُلحظ فانياً ومرآةً إلى الخارج ولا يسري الحبّ من العنوان إلى الخارج، فإنّه لو كان الخارج هو المحبوب بالنظر العقليّ لزم أن يكون الحب قبل وجود المحبوب خارجاً بلا متعلّق وهذا مستحيل؛ لأنّ الحب لا يمكن أن يكون بلا متعلّق.

نحن أجبنا عن ذلك فقلنا:

أنّنا ندّعي السراية العرفيّة، ندّعي أنّه ما لم يُلحظ عنوان شرب الماء متحدّاً مع واقع شرب الماء والذي إذا وُجد يوجد في الخارج لا يتعلّق به الحبّ، كما أنّه إذا لُوحظ الغصب بما هو هو لا بما هو متحدٌّ مع الوجود الخارجيّ للغصب لا يتعلّق به البغض، وهذا يكفي في امتناع اجتماع الحبّ والبغض بالنسبة إلى معنونٍ واحد ولو مع تعدّد العنوان.

ولأجل ذلك نحن قبلنا هذه المقدّمة الثانية لصاحب الكفاية في الأمر الانحلالي كالأمر بالوضوء بكل ماءٍ موجودٍ في الدار، فلو كان الماء الموجود في الدار عشرة وخمسة منها مغصوبة، وقد حرّم المولى الغصب، فإذا التفت المولى كما لو سُئل فقيل له: يا أيّها المولى، هل أنت تحب أن نتوضأ من هذه المياه المملوكة للغير أو تُبغض ذلك؟

لا يمكنه أن يقول أنا أحبّ عنوان الوضوء بهذه المياه وأبغض عنوان الغصب، ولا ألتفت إلى المعنون الخارجيّ لهما وأنّه واحدٌ، هذا غير معقول. فكما أنّك في حبّ الأعيان وبغض الأعيان لو كنت تحبُّ كلّ عالم وتبغض أيّ فاسق وتلتفت أنّ في العلماء يوجد فسقة فجرة، فلو سُئلت: هل تحب هذا العالم والذي تلتفت إلى أنّه فاسق؟ لا يمكنك أن تقول: أنا لا أدير بالي إلى أنّ هذا مجمع العنوانين، أنا أحبُّ كلّ عالم وأبغض كلّ فاسق، هذا غير معقول.

فأنت حينما تُسأل هل تحب العالم ولو كان فاسقاً؟ فإمّا أن تجيب بالإطلاق، فتقول نعم، فلا يمكنك أن تقول بعد ذلك أنا أبغض كل فاسق ولو كان عالماً، فأنت تبغض هذا الشخص وتحبه في نفس الوقت! هذا غير معقول.

نعم، من يكون غافلاً عن المجمع عن العنوانين يمكنه أن يقول أنا أحب كل عالم وأبغض كل فاسق، لأنّه لا يلتفت إلى وجود عالم فاسق، لكن المهم أنّه إذا التفت لا يمكنه أن يقبل حبه لكلّ عالم وبغضه لكلّ فاسقٍ.

والكلام في الحبّ الفعليّ والبغض الفعليّ، أمّا الحبّ الحيثي ليس معناه إلا الحبّ الاقتضائي والشأني، يعني لو لم يكن فاسقاً كنت أحبه. الكلام في أنّك الآن هل تحب هذا الشخص أم لا؟ لا يمكنك أن تقول أحبّه وأبغضه معاً، فكذلك في الأفعال، فالمقدّمة الثانية لصاحب الكفاية تامّةٌ في الأمر والنهي الانحلاليّين.

 

[عمدة الإشكال على صاحب الكفاية]

ولكن كما ذكر السيّد الخوئي & محل النزاع هو الأمر المتعلّق بصرف الوجود، الأمر البدلي، الأمر بالوضوء بماءٍ، الأمر بالصلاة في مكانٍ، فمقدّمة صاحب الكفاية الثانية يمكن الجواب عنها حينئذٍ فنقول:

الملحوظ في الأمر بصرف وجود الوضو بالماء ما يحكي عنه هذا العنوان الصرف الوجوديّ لا هذا الفرد الذي هو وضوءٌ بماءٍ مغصوب، فإنّه كما قال الأعلام: "الطبيعة لا تحكي إلّا عمّا يطابقها" أو فقل "الطبيعة تحكي عمّا يطابقها ولا تحكي عمّا تنطبق عليها".

الطبيعة تحكي عمّا يطابقها يعني: طبيعة الوضوء بالماء تحكي عن معنونها ولا تحكي عن الكثرات والأفراد بعد لحاظ هذه الطبيعة كلحاظٍ وحدانيّ. فأنت حينما تحبّ الوضوء بالماء تحبّ هذا صرف الوجود، لا هذا الفرد المعنون بعنوان الغصب، فهذا عمدّة الإشكال على صاحب الكفاية.

المقدّمة الثالثة: ما ذكره صاحب الكفاية & من أنّ تعدّد العنوان لا يكشف عن تعدّد المعنون خارجاً.

فلا يصحّ أن يُدّعى أنّه كلّما تعدد العنوان فيكشف عن تعدّد الوجود الخارجيّ للمعنون فيكون التركيب انضماميّاً، إذا تعدد عنوان الصلاة وعنوان الغصب فيكشف ذلك عن وجودين في الخارج وإن كانا متلاصقين، أحدهما وجود الصلاة والآخر وجود الغصب. لا، تعدد العنوان لا يكشف عن تعدد المعنون خارجاً.

المحقق النائيني & قال: لا يتمّ هذا البيان في العناوين المبدأية، نعم في العنواين الاشتقاقيّة كالعالم والعادل تعدد العنوان الاشتقاقي لا يكشف عن تعدد المعنون لأنّ ثبوت العلم لذاتٍ حيثيّة تعليليّة لاتصاف تلك الذات بالعالم، وثبوت العدالة لتلك الذات حيثيّة تعليليّة لاتصاف تلك الذات بالعادل، فذات واحدة مصداقٌ للعالم والعادل معاً. وأمّا العناوين المبدأية -كالعلم والعدالة- تعدد العنوان فيها كاشف عن تعدد المعنون خارجاً؛ كالعلم والعدالة، البياض والحلاوة، الصلاة والغصب.

ولست أدري لماذا المحقق النائيني & في الوضوء والغصب لم يقبل أنّ التركيب بينهما تركيب انضمامي؛ فإنّ الوضوء عنوان مبدأي كالصلاة.

وعلى أيّ حال، السيّد الخوئي أشكل على المحقق النائيني فقال: العناوين المبدأية على قسمين: عناوين ذاتيّة وعناوين انتزاعية:

     العناوين الذاتيّة المبدأيّة: تعددها يكشف عن تعدد المعنون كما في مثال العلم والعدالة، البياض والحلاوة؛ فإنّه لا يُعقل انتزاع عنوانين ذاتيين عرضيين عن معنون واحد، فإنّه يعني تعدد الماهيّة لموجود واحد. نعم، انتزاع عناوين ذاتيّة، يعني أخذ عناوين ذاتيّة طوليّة لا مانع منه في المعنون الواحد، هذا جسمٌ جامدٌ أو الإنسان جسمٌ حيوانٌ ناطقٌ، فالعناوين الذاتية المبدأية العرضية -لا الطولية- دائماً تكشف عن تعدد معنوناتها.

     وأما العناوين الانتزاعيّة يمكن أن يكون منشأ انتزاعها نفس الذات التي أُخذ منها عنوان آخر، فلو كان أحد العنوانين انتزاعيّاً أو كلاهما كانا انتزاعيين فيمكن وحدة المعنون فيها.

مثلاً: أكل الطعام المملوك للغير في نهار شهر رمضان يُنتزع عن نفس الأكل عنوان الغصب؛ بملاحظة أنّه أكل لمال الغير بدون إذنه، ويتخذ منه عنوان ذاتي وهو الأكل، وينتزع منه عنوان عرضي آخر وهو الإفطار. أكل، إفطار، غصب، المعنون للجميع واحد، هذا الأكل في نهار شهر رمضان:

     أكلٌ؛ عنوان ذاتي له.

     غصبٌ؛ اُنتزع من هذا الأكل بلحاظ أنّ المأكول ملك الغير عنوان الغصب.

     إفطارٌ؛ انتزع من هذا الأكل بلحاظ أنّه في نهار شهر رمضان إفطار.

نعم، إذا اُنتزع العنوان الذاتي عن غير تلك الذات بل عن مقارناتها، هنا لا يكون المعنون واحداً كما في أكل الطعام في مكانٍ مغصوب، لا يُنتزع عن هذا الأكل عنوان الغصب لأنّ المنشأ لانتزاع عنوان الغصب الكون في هذا المكان، وهذا الكون في هذا المكان لا يتحد مع الأكل، أكل الطعام شيء والكون في هذا المكان شيء آخر. ومنشأ انتزاع الغصب هو الكون في هذا المكان لا الأكل، هنا لا يتحدّ المعنون في الأكل والغصب؛ لأنّ منشأ انتزاع الغصب هو الكون في مكانٍ مغصوب لا أكل الطعام المغصوب.

وما ذكره السيّد الخوئي & تامٌّ جداً، في غاية المتانة والدقّة؛ فالصلاة والغصب معنونهما واحد لأنّ الغصب عنوان انتزاعي. في السجود في أرض الغير منشأ انتزاع الغصب نفس السجود، نفس هذا السجود الذي هو اعتماد الجبهة على الأرض يكون منشأ الانتزاع عنوان الغصب.

نعم، القراءة حتى القيام كهيئة للمصلي حتى الركوع كهيئة للمصلي لا ينتزع منها عنوان الغصب، وإنّما يُنتزع عنوان الغصب عن مقارناتها وهو الكون في مكان مغصوب والكون في المكان المغصوب ليس متحدّاً مع الكراهة ولا مع القيام ولا مع الركوع كهيئة للمصلي ولكنّ السجود بنفسه منشأُ انتزاع عنوان الغصب، ولأجل ذلك لو كان هناك صلاةٌ لا سجود على الأرض فيها، كالصلاة الإيمائية أو الصلاة على الميت، فلا تبطل إذا كانت تلك الصلاة في مكانٍ مغصوب، أو فرضنا أنّ شخصاً حينما يريد أن يسجد يتقدم متراً ويكون في الطريق وحينما يقوم من السجود يتأخر متراً ويكون في ساحةٍ مملوكة للغير، لا تبطل صلاته.

[إشكال البحوث على السيّد الخوئي]

في البحوث أشكل على السيّد الخوئي بإشكال لا نتعقلّه،ماذا قال؟

قال &: كلام المحقق النائيني & متين وإن أخطأ في تطبيق ما ذكره على بعض الأمثلة، الصلاة والغصب ليسا عنوانين مبدأيين، العنوان المبدأي هو الصلاتيّة والغصبيّة. الصلاتية غير الغصبيّة، فلا يصحّ أن تقول: الصلاتيّة في هذا المكان غصبيّةٌ، الغصبيّةُ في هذا المكان صلاتيةٌ. نعم، الصلاة في هذا المكان غصبٌ لأنّ الصلاة عنوان اشتقاقي، ليس معنى العنوان الاشتقاقي أن يُحمل على شخصٍ، قد يكون العنوان الاشتقاقي محمولاً على فعلٍ: ضربٌ شديد؛ شديد عنوان اشتقاقي ولكن يُحمل على الضرب. صلاة يعني: ذاتٌ ثبت لها الصلاتية ما ثبت له الصلاتية، الغصب: ذاتٌ ثبت لها الغصبيّة أو ما ثبت له الغصبيّة.

ثم يقول + في البحوث:

أنا لا أوافق المحقق النائيني & في مبناه في جواز اجتماع الأمر والنهي، مبنى المحقق النائيني يختلف عمّا أقول به، المحقق النائيني يقول: تعدد المعنون الخارجي مسوّغ لجواز اجتماع الأمر والنهي، أي لا بدّ أن يكون التركيب في الخارج انضماميّاً بين الواجب والحرام. أنا لا أرى ذلك، أنا أكتفي بتعدد العنوان وإن اتحدّ المعنون خارجاً، لكن أقول: نتيجة كلامي لا تختلف عن نتيجة كلام المحقق النائيني إلّا في موردٍ واحدٍ بسيط:

المحقق النائيني & قال بجواز اجتماع الأمر والنهي مع تعدد المعنون، أنا أقول بجواز اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان المبدأي، الصلاة والغصب ليسا عنوانين مبدأيين بل هما مشتركان في جزءٍ، ما هو ذلك الجزء المشترك؟ ذاتٌ، أو فقل ما ذاتٌ ثبت لها الصلاتيّة ذات ثبت لها الغصب.

وكلما كان هناك جزء مشترك بين عنوان متعلّق الأمر وعنوان متعلّق النهي فيمتنع اجتماع الأمر والنهي لما سيذكره قريباً إن شاء الله. فالذات جزء مشترك بين العنوانين، نظير: أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق، الإكرام جزء مشترك بين العنوانين.

ما هو ذلك المورد الذي اختلف المحقق النائيني & عن السيد الصدر &؟

مثال: الأمر برسم خطٍ والنهي عن الانحناء في الخط.

يقول السيد الصدر: المعنون فيهما واحد لأنّ الانحناء فصل للخط، الفصل متحدٌ مع جنسه في الخارج، المعنون واحد ولذا المحقق النائيني يرى امتناع اجتماع الأمر والنهي لوحدة المعنون بين الجنس والفصل. أمّا أنا أرى جواز الاجتماع في هذا الفرض لعدم اشتمال هذين العنوانين أي عنوان الخط وعنوان الانحناء على جزء مشترك بخلاف عنوان المنحني، المنحني بمعنى ذاتٌ ثبت له الانحناء.

هذا الكلام للسيد الصدر في البحوث كما عرضت في خدمتكم كلامٌ لا نتعقله، لماذا لا نتعقله سيأتي وجه ذلك في الليلة القادمة إن شاء الله .