بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/06/19

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (في اجتماع الأمر والنهي)

 

كان الكلام في اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان، كما في قوله: "صلِّ" مع قوله "لا تغصب".

فوقع الكلام:

في أنّه لو صلّى في مكانٍ مغصوب –والذي لا إشكال في حرمته- هل تكون هذه الصلاة مصداقاً للواجب أيضاً؟ أو دفن الميت في مكانٍ مغصوب، هل هذا الدفن مع كونه محرّماً بعنوان الغصب يكون مصداق للدفن الواجب أو أنّه يمتنع أن يكون مصداقاً للواجب كما عليه السيّد الخوئي&؟

ذهب جمع من القدماء كالفضل بن شاذان & إلى جواز اجتماع الأمر والنهي، حيث نقل في الكافي في بحث الطلاق كلاماً عن الفضل بن شاذان أنّه قال: إذا صلّى الإنسان في مكانٍ مغصوب فصلاته صحيحة؛ لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة.

والكليني & لم يعلّق عليه بشيء، فظاهره أنّه يرتضي بكلامه. ومن المتأخرين ذهب المحقق النائيني والمحقق الإيرواني والسيد الخميني والسيد الصدر @ إلى جواز اجتماع الأمر والنهي وهكذا السيد السيستاني =.

ولكن ذهب جمع كثير إلى امتناع اجتماع الأمر والنهي، منهم السيد الخوئي + وفاقاً لصاحب الكفاية +. وقد اسُتدلّ للقول بالامتناع بعدّة وجوه:

الوجه الأول: ما ذكره صاحب الكفاية في ضمن أربع مقدمات:

    1. المقدمة الأولى: أنّه لا ريب في كون الأحكام الخمسة التكليفيّة متضادّةً في مرحلة الفعليّة.

صاحب الكفاية يرى أربع مراحل، أربع مراتب للحكم: مرتبة الاقتضاء، مرتبة الإنشاء، مرتبة الفعليّة، مرتبة التنجّز.

وكان ينبغي أن يعدّ مرتبة الاقتضاء مرتبة ما قبل الحكم ومرتبة التنجّز مرتبة ما بعد الحكم، فتبقى المرتبتان المتوسطتان مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعليّة.

وللفعليّة مصطلحات:

فمصطلح صاحب الكفاية &: أنّ الحكم التكليفي إذا خلا عن إرادة المولى بالنسبة إلى إتيان الواجب أو كراهة المولى بالنسبة إلى إرتكاب الحرام، فهذا الحكم بالوجوب الخالي عن إرادة المولى بفعل العبد وجوب إنشائي، كما أنّ الحرمة الخاليّة عن كراهة المولى لفعل العبد كراهة إنشائيّة، فإذا وصلت إلى مرتبة الفعليّة أي انقدحت في نفس المولى الإرادة بالنسبة إلى فعل الواجب أو الكراهة اللزوميّة بالنسبة إلى فعل الحرام، فيصير الوجوب فعلياً كما تصير الحرمة فعليّةً.

وهكذا الحلال، إذا اقترن برضا المولى بارتكاب الفعل فيكون حلالاً فعليّاً، ويقول صاحب الكفاية بعض الأحكام لا تزال في مرتبة الإنشاء، وإنّما تصير فعليّة بعد ظهور الحجّة #.

فإذاً إذا وصلت الأحكام إلى مرتبة الفعليّة يتحقق التضاد بينها، لا يمكن تعلّق الوجوب الفعليّ بشيءٍ مع تعلّق الحرمة الفعليّة به في نفس الوقت؛ لأنّ الوجوب الفعليّ يعني إرادة المولى بارتكاب الفعل وهذه لا تجتمع مع كراهة المولى اللزومية بالنسبة إلى ارتكاب ذلك الفعل.

هذه المقدمة واضحة وتامة عند الكل حتى عند من لا يرى الفعليّة بمعنى صاحب الكفاية + كالمحقق النائيني والسيد الخوئي ‚ حيث إنّ مصطلحهما في الفعليّة:

أن يتحقق موضوع الحكم في الخارج، فالحكم الإنشائي: هو الحكم المقدّر الوجود، إذا استطاع المكلّف وجب عليه الحج، فإذا وُجد مستطيع فيكون ذلك الحكم بوجوب الحج على المستطيع فعلياً بفعلية موضوعه.

وصرّح السيد الخوئي + بأن الأحكام التكليفية خاليةٌ عن إرادة المولى أو كراهته، بل هي اعتبار محض. ولكن السيد الخوئي + أيضاً يقبل تضاد الأحكام التكليفية بلحاظ مبدئها وهو الملاك، حيث لا يجتمع المصلحة التامة في فعلٍ مع المفسدة التامّة فيه، فلا يجتمع ملاك الوجوب والحرمة في فعلٍ واحد معاً.

كما يوجد تضاد بينها في مرحلة المنتهى، وهي مرحلة حكم العقل بالامتثال والتنجّز، فكيف يحكم العقل في فعلٍ واحد بتنجّز الفعل والترك معاً بمقتضى اجتماع وجوبه وحرمته؟ فيكون التضاد بين الأحكام التكليفية عند السيد الخوئي بلحاظ مرحلة المبدأ أي الملاك فيها وبلحاظ مرحلة المنتهى أي مرحلة حكم العقل بالامتثال، فهذه المقدّمة الأولى تامّة.

    2. المقدّمة الثانيّة: يقول صاحب الكفاية +: لا شبهة في أنّ متعلّق الحكم التكليفيّ ليس هو العنوان بل هو المعنون أي الوجود الخارجيّ للأفعال؛ ضرورة أنّ البعث ليس نحو إيجاد العنوان كما أنّ الزجر لا يكون عن العنوان، وإنّما يؤخذ العنوان كعنوان الصلاة وعنوان الغصب في متعلّق الأحكام آلة للحاظ متعلقاتها والإشارة إليها، فمتعلّق الوجوب هو الوجود الخارجيّ للصلاة وإلّا فالعنوان الذهنيّ للصلاة ليس فيه ملاك الإنتهاء عن الفحشاء والمنكر كي يرغّب الشارع إليه، كما أنّ المنهي عنه هو الوجود الخارجي للغصب وإلّا فعنوان الغصب ليس فيه مفسدة حتى ينهى الشارع عنه.

ولا نقصد أنّ المتعلّق للوجوب والحرمة الوجود الخارجيّ المفروغ عنه لا، ما يصلح أن يوجد في الخارج فالوجود الخارجيّ أي ما يصلح أن يوجد في الخارج وينطبق عليه عنوان الصلاة، هذا هو الذي يتعلّق به الوجوب. والوجود الخارجيّ للغصب أي ما يصلح أن يوجد وينطبق عليه عنوان الغصب هو الذي يتعلّق به النهي، وليس المقصود أنّه إذا وُجدت الصلاة في الخارج فبعد ذلك يتعلق به الأمر وإذا وُجد الغصب في الخارج فبعد ذلك يتعلق به النهي، هذا لا معنى له هذا طلب للحاصل أونهي عن الحاصل، وكلاهما غير معقولين.

فليس المقصود من تعلق الأمر بالوجود الخارجي تعلّقه بالموجود الخارجيّ بالفعل بل ما يصلح أن يوجد في الخارج، ما يكون موطن وجوده هو الخارج وإن لم يوجد بالفعل.

وهذه المقدّمة تعني سريان الحكم من العنوان إلى المعنون الخارجي، وهذه المقدّمة هي التي أنكرها جمعٌ من الأعلام كالمحقق العراقي والسيد الخميني والسيد الصدر @؛ فقالوا بأنّ الحكم لا يسري من العنوان إلى المعنون، وهذا لا ينافي أنّ الوجوب تعلّق بعنوان الصلاة بما هو مرآة إلى الخارج لا بما هو عنوانٌ متكونٌ في الذهن، كما أنّ حبّ شرب الماء في نفس الإنسان يتعلّق بعنوان شرب الماء ولا يسري إلى الخارج بنظرهم، وإن كان المحبوب -شرب الماء- هذا العنوان بما هو فانٍ في الخارج.

وقد برهنوا عليه فقالوا:

بأنّ الحب –مثلا- صفة نفسانيّة ذات إضافة، فحينما نحبّ شرب الماء إذا كان متعلّقه شرب الماء في الخارج فالمفروض أنّ شرب الماء في الخارج غير موجود، فحينئذٍ هذا الحب يكون بلا متعلّق وهذا غير معقول.

فنكشف من خلال ذلك أنّ متعلّق الحب بالنظر العقليّ هو عنوان شرب الماء وإن كان يُلحظ فانياً في معنونه. نعم، بالعرض والمجاز أي بالنظر العرفي المحبوب هو ما يكون موطن وجوده الخارج.

ولكن صاحب الكفاية + لا يرى ذلك، يقول أبداً، متعلّق الحب هو الخارج وتصوّره واسطة في ثبوت تعلّق الحب بالخارج، فالمحبوب بالذات هو الخارج وتصوّره أي تصور ذلك الخارج واسطة في الثبوت أي حيثيّة تعليلية.

ونحن نقول:

المهم هو النظر العرفيّ، ومن يناقش صاحب الكفاية & كفكرةٍ فلسفيّة المهم أنّه يجب أن يقبل فكرة صاحب الكفاية كفكرةٍ عرفيّة.

لا إشكال في أنّ المحبوب هو ما يكون موطن وجوده الخارج، المحبوب هو شرب الماء الذي يكون موطن وجوده الخارج فإنّه الذي يرفع العطش. فما دام يرى الإنسان محبوبه ما يكون موطن وجوده الخارج، فهذا يعني أنّه إنّما يتعلّق حبه به بتبع أنّه يرى أنّ موطن وجوده الخارج، كما يتعلّق بغضه بالمكروه بما أنّه يرى أنّ موطن وجود المكروه هو الخارج.

فإذاً هذه المقدّمة الثانية تامّة بالنظر العرفي وإن لم نقبلها بالنظر الفلسفيّ.

لا يقال: استخدام النظرة العرفيّة في البراهين غير متجه.

فنقول في الجواب: المهم أنّ من يتعلّق حبه بشيء إنّما يتبع ذلك نظرته العرفيّة في أنّه يرى موطن وجود ذلك الفعل الخارج وإن لم يوجد بالفعل، ويرى أنّ فيه ملاك الحب فيتعلّق حبه به. يتصوّر شرب الماء والذي موطن وجوده الخارج وإن لم يوجد بالفعل، ويرى أنّ فيه ملاك رفع العطش فيتعلّق حبّه به.

    3. المقدّمة الثالثة: يقول صاحب الكفاية & تعدد العنوان –كعنوان الصلاة والغصب- إن كان يكشف عن تعدد المعنون في الخارج فلا محذور في أن يتعلق الأمر بوجود والنهي عن وجود آخر متلاصق به، ولكن تعدد العنوان أي عنوان الصلاة والغصب، تعدد هذين العنوانين لا يكشف عن تعدد معنونهما في الخارج، فالسجود في أرض الغير معنونٌ بعنوان السجود وبعنوان الغصب، فالمعنون واحد وإن تعدد العنوانان. وحيث إنّ الوجوب يتعلّق بالمعنون من خلال عنوان الصلاة كما أنّ الحرمة تتعلّق بالمعنون من خلال عنوان الغصب فهذا المعنون الواحد يجتمع فيه الأمر والنهي، وهذا بمقتضى المقدمة الأولى ممنوعةٌ؛ لتضاد الأحكام التكليفيّة الخمسة.

هنا ذكر المحقق النائيني + أنّ هذه المقدّمة الثالثة إطلاقها ممنوعٌ؛ فإنّ العناوين على قسمين: عناوين اشتقاقيّة وعناوين مبدأية:

     العناوين الاشتقاقيّة: كعنوان العالم والعادل، لا يكشف تعددهما عن تعدد المعنون في الخارج، فزيد عالمٌ وعادلٌ. الله سبحانه وتعالى خالقٌ، هو الخالق البارئ المصوّر. عناوين اشتقاقيّة متعددة تنطبق على وجودٍ واحدٍ في الخارج.

     وأمّا العناوين المبدأيّة أي مبدأ المشتقات، كعنوان العلم والعدالة. تعدّدهما -تعدد العناوين المبدأية- يكشف عن تعدد المعنون في الخارج؛ حيث لا يصحّ أن نقول: العلم عدالة، العدالة علم، فعلم زيدٍ في الخارج غير عدالته، بياض السكر غير حلاوته، لكن إذا قلنا أبيض وحلو، السكر أبيض وحلو معاً ولكن البياض كمبدأ للعنوان الاشتقاقي يختلف معنونه عن الحلاوة، فبياض السكر غير حلاوته.

فإذاً الصلاة والغصب غير المصلّي والغاصب، المصلّي والغاصب عنوانان إشتقاقيان معنونهما واحد في الخارج. أمّا الصلاة والغصب عنوانان مبدأيان، يعني مصدران للعنوان الاشتقاقي، فالصلاة غير الغصب، فتعدد عنوان الصلاة والغصب يكشف عن تعدد المعنون في الخارج، ففي الخارج وجودان متلازمان أحدهما مصداق للصلاة والآخر مصداق للغصب، فالتركيب بينهما انضمامي، أي وجود معنون الصلاة يختلف عن وجود معنون الغصب.

ومن العجب أنّ المحقق النائيني & في عنوان الوضوء والغصب يرى أنّ معنونهما في الخارج واحد، مع أنّ الوضوء والغصب أيضاً عنوانان مبدأيان.

هنا دخل السيّد الخوئي & في بحثٍ متعمِّق، فإن شاء الله في ليلةٍ دراسيّة قادمة ننقل كلام السيّد الخوئي & وننقل إشكال البحوث عليه حتى يتضح لكم عمق كلام السيّد الخوئي وعدم ورود أي إشكالٍ عليه، تأملوا في ذلك إلى ليلةٍ قادمة.