بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/06/14

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (في اجتماع الأمر والنهي)

 

كان الكلام في اجتماع الأمر والنهي في العام والخاص المطلق، كما لو ورد الأمر بالصلاة وورد تحريم الصلاة في الحمّام تحريماً تكليفياً، أو ورد النهي الكراهتي عنه حسب الكراهة المصطلحة، لا الكراهة بمعنى أقليّة الثواب.

فذُكرت وجوه لامتناع اجتماع الأمر بالمطلق والنهي التكليفيّ عن المقيّد، بحيث لو أتى المكلّف بالمقيّد فبناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي لا يشمله إطلاق الأمر، بخلاف من يرى جواز الاجتماع فإنّه يقول بأنّ من يأتي بالمقيّد فإنّه وإن خالف النهي عن المقيّد ولكنّه وافق الأمر بالطبيعة المطلقة.

وصلنا إلى وجهٍ طُرح في المقام، وهو أنّه يقال بأنّ الأمر بالصلاة مثلاً يكشف عن حبّ جامع، فإذا كان الجامع مطلقاً فيشمل الحصّة المحرّمة وهي الصلاة في الحمّام، فيعني أنّ الصلاة في الحمّام مصداقٌ للمحبوب، بينما أنّ الصلاة في ضمن الصلاة في الحمّام مبغوض ضمنيٌّ؛ لأنّه إذا كان مركبٌ محرّماً فكلّ جزء منه يكون مبغوضاً ضمناً ولا تجتمع المحبوبيّة مع المبغوضيّة، ولو كانت المبغوضيّة ضمنيةً كما لو أحبّ الإنسان ورود زيدٍ إلى بيته ولكنّه كان يُبغضُ أن يأتي زيدٌ مع عمرٍ، فأتى زيدٌ مع عمرٍ، فلا يمكن أن يكون هذا المجيء لزيدٍ محبوباً وفي نفس الوقت يكون مبغوضاً ولو ببغضٍ ضمنيٍّ.

أجاب عنه في البحوث: بأنّنا لا نتعقّل المبغوضيّة الضمنيّة؛

إذا كان مركبٌ مبغوضاً للمولى فلا يسري البغض إلى أجزائه، لماذا؟ لأنّه إذا سرى إلى جزءٍ من هذا المركّب فإن كان يقتضي ترك هذا الجزء رأساً فهذا يوجب زيادة الفرع على الأصل؛ لأنّ البغض الاستقلالي للمركب لا يقتضي إلّا انتفاء أحد أجزائه لأنّ المبغوض هو المجموع، وينتفي المجموع بانتفاء أحد الأجزاء، فالبغض الاستقلاليّ للمجموع لا يقتضي إلّا ترك أحد الأجزاء فكيف ينبثّ منه بغضٌ ضمنيّ منه ويقتضي ترك هذا الجزء على أيّ تقدير؟ وإن كان هذا البُغض يقتضي ترك الجزء فلا معنى له.

هذا البيان للبحوث والذي هو يعني انكار البغض الضمني رأساً بخلاف الحب الضمنيّ، فإنّ حبّ إيجاد مركّب يقتضي إيجاد كل جزءٍ من أجزاءه ضمناً ولكنه يُنكر البغض الضمني، إذا كان الحرام مجموع مركّب، بحيث ينتفي هذا الحرام بانتفاء أحد أجزاءه.

هذا الكلام ليس بمتّجه؛ فإنّه يتعقّل الحبّ الضمني يُتعقّل البغض الضمنيّ، فإنّه كما لا يُفسّر الحبّ الضمنيّ بأنّ هذا الجزء للواجب محبوبٌ على أيّ تقدير، بل هذا الجزء محبوبٌ في ضمن الكل، فلو أُتي به وحده قد لا يكون محبوباً بل يكون مبغوضاً.

مثلاً: السعيُ بين الصفا والمروة، محبوبٌ ضمنيٌّ في ضمن العمرة أو الحجّ ولكنّه لو أتى شخصٌ بالسعي بين الصفا والمروة لا في ضمن عمرةٍ ولا في ضمن حجٍّ فهذا بدعةٌ؛ لأنّ السعي بين الصفا والمروة يختلف عن الطواف، الطواف بالبيت عبادةٌ ولو كان مستقلاً عن الحجّ والعمرة بخلاف السعي، فالسعي محبوب ضمنيٌّ بمعنى أنّه إذا أُتي به في ضمن العمرة أو الحج يكون محبوباً وأمّا إذا أُوتي به وحده لا يكون محبوباً بل يكون مبغوضاً، فهكذا المبغوض الضمنيّ، يمكن أن يكون المجموع مبغوضاً استقلاليّاً ويكون كلّ جزءاً منه مبغوضاً ضمنيّاً بمعنى أنّه في فرض اجتماعه مع سائر أجزاء المركّب يكون مبغوضاً، ولأجل ذلك المبغوض الضمنيّ لا يقتضي ترك هذا الجزء برأسه، يقتضي ترك هذا الجزء المنضمّ إليه سائر أجزاء المركب الحرام.

لكن توجد ثمرةٌ للقول بالحرمة الضمنيّة لكلِّ أجزاء المركّب الحرام، أذكرُ ذلك في ضمن مثالٍ فقهي: لو أنّ إنساناً أخذ الثلج وصوّر نصف جسد الإنسان إلى ظهره وتركه، ولكن يعلم بأنّه لو صوّر إنساناً من ثلج إلى نصف جسده فسيأتي شخصٌ آخر ويكمّل هذا التصوير والتمثيل فيصير مجسّم إنسان كامل من الثلج، وهذا حرام إمّا فتوىً كما عليه المشهور أو احتياطاً كما عليه كثيرٌ من الأعلام، ومنهم السيّد السيستاني =.

فإن قلنا بمقالة البحوث من أنّ المجموع والمركّب إذا كان محرّماً فيكون الحرام هو إيجاد الجزء الأخير منه؛ لأنّه به يتحقق المركّب الحرام فالشخص الأول ارتكب محرّماً.

تقولون أعان على الإثم؟ نقول:

    1. أولاً: الإعانة على الإثم لا تحرم عند جمعٍ من الفقهاء كالمحقق الإيرواني & والسيّد الخوئي & والسيّد السيستاني =.

    2. وثانياً: لعلّ الشخص الثاني معذور، ليس كلّ حرامٍ إثماً، الإثم هو الحرام المنجّز، لعلّ الشخص الثاني يقلّد من يرى جواز تمثيل الإنسان. فالشخص الأول لم يتحقق منه إعانة على الإثم، بينما أنّه على فرض استظهار أنّ الحرام هو تصوير الإنسان الكامل فهذا الحرام يتحقق بتحقق أول جزءٍ على نحو المركّب التدريجي، فيستند تحقق هذا التمثال إلى هذين الشخصين، فيكون من التعاون على الحرام. والشخص الأول صدر منه الحرام، لا أنّه أعان على الحرام، صدر منه الحرام لا باستقلالٍ بل مع تعاونٍ مع غيره. نعم، لا ضرورة لتعلّق البغض الضمنيّ، إذا كان المركّب محرّماً لا ضرورة أن يتعلّق البغض الضمنيّ بكل جزءٍ من أجزائه ولو في فرض الانضمام إلى سائر الأجزاء.

فإذاً إذا أردنا أن نرّد هذا الوجه لامتناع اجتماع الأمر والنهي فنقول:

    1. أولاً: لا دليل على أنّ بُغض الصلاة في الحمّام يوجب تعلّق البغض الضمنيّ بالصلاة في ضمن هذا المركّب، لا ضرورة تقتضي ذلك، لا أنّه لا يمكن ذلك.

    2. وثانياً: هذه الحصّة المحرّمة افرض ليست محبوبةً، ولكن لا يوجد مانعٌ أن تكون هذه الحصّة مصداقاً للطبيعة المحبوب صرف وجودها، المولى يحبّ صرف وجود الصلاة. إذا حقّقت هذا الصرف الوجود المحبوب في ضمن فردٍ غير محبوب، في ضمن فردٍ مبغوض، فقد تحقق بذلك محبوب المولى.

مثلاً: المولى يحب أن يُدفن الميّت في مكان لكي لا يفسد جسده ويتأذّى منه الناس أو تأكله السباع، وفي نفس الوقت يُبغض دفن الميّت في مكانٍ مغصوب أو في مقابر الكفّار، فإذا دُفن الميّت في مكان مغصوب أو في مقابل الكفّار فقد تحقق محبوب المولى وهو صرف وجود دفن الميّت واستُوفي ملاك ذلك الواجب، ولكن تحقق مبغوض المولى أيضاً بدفن الميّت في هذا المكان، هذا الدفن ليس محبوباً ولكنه مصداقاً لصرف الوجود وصرف الوجود محبوبٌ.

أو مثلاً: أمر المولى عبده بأن يغسل وجهه، فالعبد غسل وجهه بماءٍ مملوكٍ للغير وقد نهاه المولى عنه وقال: أحرّم عليك أن تغسل وجهك بماء مملوك للغير لأنّه تصرّف في مال الغير بغيرِ إذنه، فإذا غسل العبد وجهه بهذا الماء المملوك للغير، هذا الفرد ليس محبوباً ولكنّه مصداقٌ لما هو محبوبٌ صرف وجوده وهو غسل الوجه. لم يفوّت العبد ملاك غسل الوجه على المولى، لم يفوّت العبد ذلك المحبوب على المولى ولكنّه حصّل ذلك المحبوب في ضمن فردٍ مبغوض. أيّ إشكالٍ فيه؟

الوجّه الأخير لامتناع اجتماع الأمر والنهي للأمر بالمطلق والنهي عن المقيّد:

وجهٌ استظهاريّ، وهو أنّه لمّا كان العنوانُ واحداً، عنوان الصلاة، عنوان الصلاة في الحمام عنوان واحد أُضيف إلى عنوان الصلاة قيداً فأصبح الصلاة في الحمّام ولكنّ العنوان واحد، فالعرف يأبى عن قبول أنّ هذا العنوان مأمور به وهذا العنوان مع قيدٍ زائد منهيّ عنه، فاجتماع الأمر والنهي في مثله خلاف مرتكز العرف.

وإن شئتَ قلت: الظاهر من تحريم المقيّد أنّ هذا المقيّد فيه مفسدةٌ تامّة ولا يوجد فيه مصلحةٌ تامّة، فحتّى لو سقط النهي عن هذا المقيّد لاضطرار ونحوه فمع ذلك فُهم مع أصل هذا الخطاب أنّ هذا المقيّد وإن سقط نهيه لأجل الاضطرار ونحوه لا يوجد فيه مصلحةٌ تامّة، بينما أنّه في مثال الصلاة والغصب من يرى امتناع الاجتماع كالسيّد الخوئي & يقول كلّما سقط النهي عن الغصب لاضطرارٍ ونحوه فيأتي دور الأمر، فالصلاة في المكان المغصوب إذا كان غصبه عن اضطرار أو إكراه لأنّه سقط النهي عنه فإطلاق الأمر بالصلاة يشمله، لأنّ تحريم الغصب ليس له مدلول التزامي عرفيّ وهو أنّ الصلاة في المكان المغصوب تشتمل على مفسدة تامّة ولا توجد فيها مصلحة تامّة. ولأجل ذلك حيث يسقط النهي عن الغصب يأتي دور الأمر بالصلاة.

ولكن فيما لو كان العنوان واحداً كعنوان الصلاة والصلاة في الحمّام، فحتى لو سقط النهيّ عن المقيّد لاضطرارٍ ونحوه فالعرف يأبى عن قبول شمول الاطلاق له، ولأجل ذلك نلتزم بامتناع اجتماع الأمر والنهي في الأمر بالمطلق والنهي عن المقيّد امتناعاً عرفياً لا امتناعاً عقليّاً.

وهذا استظهار عرفي، فإذا قامت قرينة على الخلاف كما في مثال أمر المولى عبده بشرب ماء وعُرف أنّه لأجل رفع العطش ونهاه عن شرب الماء البارد وعلم أنّه لأجل أن لا تلتهب رئته، فلا مانع من الإلتزام باجتماع الأمر والنهي، اشرب ماءً ولا تشرب الماء البارد، لا أنّه إذا شرب الماء البارد لم يتحقق محبوب المولى ويستوفي ملاكه لا، تحقق محبوب المولى فمحبوب المولى صرف وجود شرب الماء وتحقق هذا المحبوب في هذا الفرد المبغضوض، فيختلف عن مثلما لو أمر المولى عبده أن يسقيه ماءً نظيفاً فسقاه ماءً غير نظيف وارتفع عطش المولى، لكنّ المولى قال له اعترف، ما هذا الماء الذي رائحته كريهة وأسقيتني إياه؟ فيقول العبد لا بأس آتي بماء ثاني معطّر، فيقول المولى لا يفيد هذا بعد، فتحقق ملاك رفع العطش بما ليس محبوباً ولا مصداق لصرف وجود المحبوب؛ لأنّ المحبوب كان أن يسقيه ماءً نظيفاً. ولكن في المثال الأمر بشرب الماء لأجل رفع العطش والنهي عن شرب الماء البارد لأجل أن لا تلتهب رئة العبد لا مقيّد لإطلاق الأمر وإن كان هذا الفرد مبغوضاً فحبّ الجامع لا يسري إليه لوجود مانع فيه ولكنّه مصداقٌ للوجود المحبوب.

هذا تمام الكلام في الأمر بالمطلق والنهي عن المقيّد، وترى أنّ قولنا بجواز الاجتماع للأمر والنهيّ عقلاً وامتناعه عرفاً كنكتةٍ إستظهاريّة يختصّ بما إذا كان الأمر بالمطلق على نحو صرف الوجود، وأمّا إذا كان على نحو مطلق الوجود، أمر انحلالي "اذكر الله" فهذا أمر انحلاليّ، فإذا نُهي العبد عن حصّة من ذكر الله فيحرم عليك ذكر الله رياءً، فهنا نلتزم بامتناع اجتماع الأمر والنهي عقلاً. كلّ البحث في جواز اجتماع الأمر والنهي في فرض كون الأمر على نحو صرف الوجود.

ولكن توجد عبارة في البحوث تدلّ على عدم اختصاص جواز الاجتماع بفرض كون الأمر على نحو صرف الوجود، بل حتى لو كان الأمر بنحو مطلق الوجود وكان الأمر انحلاليّا فمهما تعدّد عنوان متعلّق الأمر مع عنوان متعلّق النهي يجوز الاجتماع، سواء كان الأمر على نحو صرف الوجود أو على نحو الانحلال، ومعنى ذك التزام البحوث بنتيجة غريبةٍ جدّاً؛ أنّه إذا كان الأمر انحلاليّا ولو كان الأمر استحبابيّاً "يستحب ذكر الله على كل حال" واجتمع مع عنوان محرّم كمخالفة التقيّة الخوفية، فيجتمع البحوث في اجتماع الأمر والنهي في هذا الذكر الذي يكون مخالفاً للتقيّة، تأملّوا في هذا المطلب إلى الليلة القادمة إن شاء الله.