بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/06/13

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (في اجتماع الأمر والنهي)

 

كان الكلام في اجتماع الأمر والنهي، فقلنا بأنّ الكلام يقع في مقامين:

المقام الأول: ما إذا كانت النسبة بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي العموم والخصوص المطلق

كما لو قال المولى :"صلِّ" وقال:"تحرم الصلاة في الحمام"، وكان المقصود الحرمة التكليفيّة وإلّا فلو كان المقصود الحرمة الوضعيّة كما هو الظاهر من الخطاب كان إرشاداً إلى مانعيّة الصلاة في الحمّام ولم يكن أيّ إشكال في تقييد إطلاق الأمر بالصلاة فيه. فلا بدّ أن نفرض كون الحرمة ظاهرة في الحرمة التكليفيّة. وهكذا لو قال الصلاة في الحرام وكان ظاهراً في الكراهة الاصطلاحيّة أي المبغوضية الخفيفة لا الإرشاد إلى قلّة الثواب.

فذهب جلّ الأعلام إلى امتناع الاجتماع في مثله، وذكروا لذلك وجوهاً. تكلّمنا عن الوجه الأول، وهو ما ذكره السيّد الخوئي & من أنّ الإطلاق يتقوّم بالترخيص في التطبيق؛ بحيث لو سألنا المولى: هل يجوز لنا الصلاة في الحمّام؟ فيجيب نعم يجوز ، فحينئذ يتعقّل انعقاد خطاب الأمر بالصلاة. والترخيص بالتطبيق لا يجتمع مع تحريم التطبيق، لا يجتمع مع تحريم الصلاة في الحمّام.

فأجبنا عن ذلك:

وقلنا أنّه لا دليل على أكثر من تقوّم إطلاق الأمر بالترخيص الحيثي في التطبيق، أو فقل الترخيص الوضعيّ في التطبيق، ولا دليل على تقوّمه بالترخيص التكليفي الفعلي من جميع الجهات في التطبيق؛ لأنّ الإطلاق يعني اللابشرطيّة، فيتوقف الإطلاق على كون متعلّق الأمر لا بشرط من هذه الخصوصيّة ولا يتنافى أن تكون هذه الخصوصيّة محرّمةً بنهي تكليفيّ مستقل.

الوجه الثاني: لامتناع اجتماع الأمر والنهي في مثله، ما ذكره في البحوث:

وذكر أنّه امتناع استظهاري، يعني يختصّ هذا الوجه بما لو كان خطاب الأمر والنهي خطابين لفظيين لا إذا ما ثبت أحدهما أو كلاهما بدليلٍ لبيّ.

وقال في تنظير ذلك: ظاهر خطاب الأمر بطبيعةٍ أنّ هذه الطبيعة محبوبةٌ للمولى، وهذا لا يعني أنّ الأمر لا يمكن أن ينشأ عن مصلحةٍ في الفعل من دون أن يكون الفعل محبوباً، فقد يأمر المولى باختيار الفاسد دفعاً للأفسد، واختيار الفاسد ليس محبوباً له ولكن في مقام التزاحم يكون في اختياره مصلحة. ولكن ظاهر خطاب الأمر هو كونه ناشئاً عن حب الفعل، كما أنّ ظاهر خطاب النهي كونه ناشئاً عن مبغوضيّة الفعل. فإذا تمّ ذلك، واستظهرنا من خطاب الأمر بالصلاة مثلاً أنّ الصلاة محبوبةٌ للمولى فنقول:

حُبُّ الطبيعة يستتبع حبّ كلّ فردٍ من أفراد تلك الطبيعة في فرض ترك سائر أفرادها. فلو أنّني كنت أحب طبيعي شرب الماء بنحو صرف الوجود فاخترت ماءً لشربه وشربته فالعرف لا يقبل مِني أنّ هذا لم يكن محبوباً لي، هذا يعني أنّ هذا الفرد من طبيعة شرب الماء محبوبٌ لي في فرض ترك سائر أفراد الماء. فإذاً الأمر بطبيعة الصلاة لمّا كان ظاهراً في نشوئه عن محبوبيّة الصلاة يستتبع ذلك محبوبيّة الصلاة في الحمّام في صورة ترك الصلاة في غير الحمّام. يعني إذا تركت الصلاة في غير الحمّام، وسألت المولى هل تحب أن أصليّ في الحمّام ويكون حالك عند صلاتي في الحمام أحسّن ممّا لو تركت الصلاة في غير الحمام، فيجيب نعم أنا أحب أن تصليّ في الحمّام في هذا الفرض الذي تترك الصلاة في غير الحمّام.

فكيف اجتمع ذلك مع مبغوضيّة الصلاة في الحمّام مطلقاً؛ لأنّ المبغوضية تعني أنّ حالة المولى عند تركه أحسن لا عند فعله، فلا تجتمع محبوبيّة الصلاة في الحمام في فرض ترك الصلاة في غير الحمام مع مبغوضيتها مطلقاً ولو كانت المبغوضيّة بنحو الكراهة لا الحرمة.

لكن ذكر في البحوث أنّ هذا وجهٌ مختصٌّ بما لو كان دليل الأمر والنهي خطابين لفظيين، وإلّا فلو كان دليل أحدهما أو كليهما الإجماع كدليل لبّي فلا يكون ظاهراً في أنّ الأمر ناشىء عن حب الجامع فلعلّ الأمر عن مصلحة ملزمة في الجامع من دون حبّه، أو أنّ النهي ناشئ عن مفسدةٍ ملزمةٍ في الحصّة أي الصلاة في الحمّام من دون أن تكون مبغوضة.

هذا الوجه ليس تامّاً بنظرنا؛ فإنّه يرد عليه:

    1. أولاً: أنّ كون الأمر بشيء ظاهراً في حبّ الجامع وإن كان لا يُنكر، لكن استتباع حبّ الجامع لحبّ كلّ فردٍ في فرض ترك سائر أفراد هذا الجامع خلاف الوجدان؛

فإنّني لو أحببت شرب الماء وكان أمامي عشرة أواني ممتلئة من الماء فأخذت إناءً منها وشربت يصحّ أن أقول هذا لم يكن محبوباً لي، ما كنت أحبّه كان هو طبيعيّ شرب الماء وإلّا فلا فرق بنظري بين شرب هذا الماء أو شرب سائر المياه، هذا لم يكن محبوباً لي بل هو مصداقٌ لشرب الماء المحبوب صرفُ وجوده.

ويشهد على ذلك: أنّ ما ذكره في البحوث مستلزمٌ لأمرين مخالفين للوجدان:

     أولّهما أنّني لو لم أُوفق لشُرب أيّ ماء من هذه المياه العشرة، فقد تحقق شرط محبوبيّة كلّ واحدٍ منها. كان حبّ شرب هذا الماء الأول مشروطاً بترك شرب سائر المياه وقد تحقق شرطه، فصار محبوباً فعلياً وهكذا شرب الماء الثاني والثالث إلى العاشر. فهل فات منّي عشرة محبوبات؟ هل هذا عُرفيّ؟ قطعاً ليس هذا عرفياً، لم يفُت منّي إلا محبوب واحد.

     واللازم الثاني والذي هو مخالفٌ للوجدان أيضاً، أنّه لو تحقق فرضان من هذه الطبيعة دفعةً واحدة فلم يتحقق شرط محبوبيّة أيّ منهما، أفلا تقبلون بأنّ ما شربته كان فردين في آنٍ واحد، فلم يكن هذا الفرد محبوباً لعدم تحقق شرط محبوبيته ولا الشرط الثاني محبوباً لعدم تحقق شرط محبوبيته. وإذا أردتم أن تذكروا مثالاً واضحاً لذلك شخصٌ يحب أن يأتي إليه أحد أقاربه لكي لا يبقى وحده لكراهة أن ينام الإنسان في البيت وحده، ملعون من نام وحده، فطُرق الباب فإذا إثنان من أقاربه دخلا، هو يحبّ صرف وجود أن يأتي إليه أحد أقاربه كي لا يبقى وحيداً وإلّا لا خُلق له كي يستقبل كل أقاربه. فهل تلتزمون بأنّ مجيء هذا الشخص الذي هو من أقاربه لم يكن محبوباً له؛ لعدم تحقق شرطه لأنّ شرط محبوبيّة هذا الفرد عدم تحقق سائر الأفراد. وهذا يكشف لنا أنّه أبداً الفرد ليس محبوباً فيما إذا أحبّ صرف الوجود وإنّما المحبوب هو صرف الوجود للطبيعة.

    2. الإشكال الثاني على البحوث:

أنّنا ولو التزمنا أنّ حبّ الجامع يسري إلى حبّ كل فرد من أفراده مشروطاً بترك سائر الأفراد، فهذا يختصّ بما إذا لم يكن هناك مانع عن انتشار الحب إلى الفرد. فلو كان مانعٌ في الفرد بأن كان مبغوضاً في نفسه فقطعاً لا يسري حبّ الجامع إلى هذا الفرد، وهذا ما ذكره في البحوث في المقدّمة، قال: حبّ ذي المقدمة يسري إلى المقدّمة ما لم تكن المقدّمة محرّمة في نفسها، فلو كانت المقدّمة محرّمة أو مبغوضة في نفسها فلا يسري إليها الحبّ؛ لكونها مبغوضة حسب الفرض.

    3. الإشكال الثالث: ما هو الفرق بين الخطاب اللفظي والدليل اللّبي؟

لو كان العرف لا يقبل التفكيك بين حبّ الجامع أو فق لا يقبل التفكيك بين الأمر بالجامع الكاشف عن حب الجامع وسريان الحبّ إلى كلّ فردٍ منه مشروطاً بترك سائر الأفراد، إن كان لا يقبل التفكيك بينهما يأتي في الدليل اللبي. إن كان استلزام حبّ الجامع لحبّ كل فردٍ أو إستلزام الأمر بالجامع لكون متعلّقه محبوباً مدلولاً التزاميّاً عرفيّاً للخطاب من باب الغلبة، فخطاب النهي عن الصلاة في الحمّام يُقابل هذا المدلول الالتزامي ولا يقابل أصلاً الخطاب المتضمن للأمر بالجامع، فلماذا جعلتم خطاب النهيّ عن الصلاة في الحمّام مقابلاً لأصل خطاب النهي بالجامع وقيّدتم الأمر بالجامع بأن يكون في ضمن غير الحمام، خطاب النهي يقابل ويواجه ذلك المدلول الالتزامي الكاشف عن حبّ الجامع المسري إلى حبّ كل فردٍ مشروطاً بترك سائر الأفراد.

    4. الإشكال الرابع:

حبّ الصلاة المأمور بها ولو فرضنا سريانه إلى حبّ كلّ فردٍ مشروطاً بترك سائر الأفراد فيسري إلى ما هو المعنونَ بعنوان الصلاة لا أكثر. من خلال عنوان الصلاة المولى يلحظُ أفرادها، يحبّ كلَّ فردٍ منها في فرض ترك سائر الأفراد ولا يعني حبّه للخصوصيّة وهي كون الصلاة في الحمّام. بينما أنّ النهي عن الصلاة في الحمّام يكشف عن مبغوضيّة هذا المجموع، الصلاة في الحمام. كون الصلاة في الحمام، هذا المجموع مبغوضاً يكفي فيه أن تكون هذه الخصوصيّة مبغوضةً لا ذات الصلاة في ضمنها، نظير ما لو قرأت امرأة فاتحة الكتاب في صلاتها جهراً بحيث سمع الأجانب صوتها المهيّج النوعي أو على ما قال القدماء حتى لو سمع الأجانب صوتها العادّي، فقالوا بحرمة ذلك كما في شرح اللمعة. لكن بعد ذلك قيّد الأعلام حرمة إسماعها لصوتها فيما لو كان صوتها متضمناً للخضوع واللين﴿ولا يخضعنّ بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض﴾، لو أنّ امرأةً قرأت فاتحة الكتاب في صلاتها جهراً، فهذه الخصوصيّة وهي الجهر بقرائتها مبغوضة ولكن لا يتنافى أن تكون ذات القراءة ولو ضمن هذا المجموع محبوباً. فإذاً لم يتم هذا الوجه الثاني الذي اختاره في البحوث لإثبات امتناع اجتماع الأمر بالطبيعة والنهي عن حصّة مقيّدة منها.

 

الوجه الثالث: ما قد يُقال؛

من أنّ حبّ الصلاة في مثال "صلِّ" إذا كان حبّاً مطلقاً ولا بشرط فيعني أنّ الصلاة في الحمّام من حيث إنّها صلاة تكون محبوبةً، ومن حيث كونها جزءاً من الحرام تكونُ مبغوضةً ببغضٍ ضمنيٍّ ولا يجتمع الحبّ مع البغض ولو كان البغض ضمنيّاً. مثلاً: لو أمر المولى عبده بأن يُحضر زيداً ولا يكون معه عمرٌ فالعبد أحضر زيداً وعمراً معاً، يُقال بأنّه لا يجتمع حبُّ إحضار زيدٍ بنحوٍ مطلق يشمل هذا الإحضار مع كونه في ضمن إحضارِ عمروٍ مبغوضاً. هذا الإحضار لزيدٍ كيف يكون محبوباً وفي نفس الوقت يكون مبغوض ضمني إذا أحضر زيداً وعمرو معاً وقد نهاه المولى عن ذلك. فهل هذا الوجه تامٌّ أم لا؟ سيأتي في الليلة القادمة إن شاء الله.