بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/06/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (في وجه اقتضاء النهي عن الطبيعة لترك جميع الأفراد)

كان الكلام في نكتة ظهور خطاب النهي في الانحلال، أي النهي عن مطلق الوجود. فالنهي عن الكذب ظاهر في النهي عن كل فردٍ من أفراد الكذب، بحيث لو ارتكب فرداً من الكذب تحقق منه العصيان بالنسبة إلى حرمته، ولكن يجب عليه أن ينتهي عن سائر أفراد الكذب.

[إشكال السيّد الخوئي على المحقق الأصفهاني]

السيّد الخوئي قدس سره لم يذكر أيّة نكتة لذلك، ولمّا ذكر المحقق الأصفهاني قدس سره أنّ ظاهر النهي هو قيام المفسدة بكلّ فردٍ فردٍ من أفراد المنهي عنه، أو قيام المصلحة بكلّ فردٍ من أفراد ترك الطبيعة، فأشكل عليه وقال:

أولاً: لا طريقة لنا إلى كشف ملاكات الأحكام حتى نرى أنّ المفسدة في متعلق النهي قائمة بصرف وجوده أو بمطلق وجوده، أو أنّ المصلحة قائمةٌ بكل فردٍ من أفراد ترك الطبيعة أو بمجموع تروكها أو بصرف تركها،

وثانيا: تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها مبنية على مسلك العدليّة، فلا يتمّ هذا البيان عند من لا يرى هذا المسلك.

[الجواب على إشكال السيّد الخوئي]

فنقول: يا سيدنا الخوئي، إذاً ما هو منشأ ظهور خطاب النهي عن طبيعة في أنّ كلّ فردٍ من أفراد تلك الطبيعة موضوعٌ مستقلّ للحرمة، أي ظاهر خطاب النهي في كونه عن مطلق الوجود لا عن صرف الوجود بحيث لو ارتكب فرداً من الطبيعة سقط النهي رأساً.

[نكتة ظهور النهي بالنهي الانحلالي]

ولّما نتأمل نرى أنّ النكتة لهذا الظهور:

1. غلبة انحلاليّة المفسدّة في المحرّمات العرفيّة؛ ففي المحرمات العرفيّة قلّما يوجد ما يكون المفسدة فيه قائمة بصرف وجود الطبيعة بحيث لو ارتكب صرف وجود الطبيعة تحققت المفسدة وبعد ذلك يسقط النهي رأساً. معظم النواهي العرفيّة يكون الحرام مشتملاً على المفسدة في كلّ فردٍ منه، وهذا يوجب ظهوراً عرفيّاً ولا علاقة له بمسلك العدليّة أو بأننا لا نعرف ملاكات الأحكام الشرعيّة، فهذا ظهور عرفيّ ينشأ من غلبة قيام المفسدة بكلّ فردٍ من أفراد المحرّمات العرفيّة، فهذه هي نكتة ظهور خطاب النهي بالنهي الانحلالي.

2. وهناك نكتة أخرى للانحلاليّة يشترك فيها الواجب والحرام، وهي: ظهور الخطاب في كون شيءٍ موضوعاً للحكم، أي مفروغ الوجود: "أكرم العالم"؛ العالم موضوع لوجوب الإكرام والموضوع في الخطاب انحلاليّ بخلاف المحمول، أكرم العالم يعني العالم واجب الإكرام، فكما أنّك تقول أنّ النار حارة فكلّ فردٍ من أفراد النار لا بدّ أن يكون حارّاً فكذلك حينما تقول العالم واجب الإكرام فكلّ فردٍ من أفراد العالم لا بدّ أن يكون واجب الإكرام، بينما أنّ المحمول ليس انحلاليّاً، فإذا قلت: العالم نافعٌ للبشرية؛ فكلّ عالم يلزم أن يكون نافعاً للبشريّة وإلّا لزم كذب هذا الخبر، ولكن لا يلزم أن يكون العالم نافعاً للبشريّة بشتى أنواع النفع، أن يكون نافعاً ماديّاً، نافعاً معنوياً.

فصرف وجود النفع يكفي في صدق هذه القضيّة، ولأجل ذلك يُقال بأنّ موضوع خطاب النهي أيضاً إذا كان ظاهراً في أخذه مفروض الوجود، كقوله: لا تشرب الخمر، إذا كان ظاهراً في رجوعه إلى أنّ الخمر محرّم الشرب، إذا وُجد الخمر فيحرم شربه، فهذا إذاً يكون منشأً للانحلال بلحاظ أفراد الخمر.

لكن كما ذكر السيّد الخوئي، لا قرينة في المحرّمات على كون متعلّق المتعلّق فيها موضوعاً؛ يعني لا قرينة في إرجاع لا تشرب الخمر إلى قولنا "إذا وُجد الخمر فيحرم شربه" لا، فاستظهار السيّد الصدر قدس سره ليس تامّاً. ظاهر خطاب النهي أنّ شرب الخمر حرام، سواء كان الخمر موجوداً أم لا فأنت نُهيت عن شرب الخمر.

[الثمرة في المقام]

وثمرة ذلك –كما ذكر السيّد الخوئي- أنّك لو علمت أنّك لو علمت أنّك لو أوجدت الخمر لأُلجئت إلى شربه، فالكلّ لا بدّ من أن يفتوا بالحرمة، ولا يسع لأحدٍ أن يقول قبل وجود الخمر لم يكن نهيٌ، لأنّ الخمر موضوع للنهي أي مفروض الوجوب، إذا وجد الخمر فحينئذ يحرم شربه. وبعد أن وُجد الخمر لا أتمكن من أن أجتنب عنه. فيقال في الجواب: لماذا أرجعت خطاب لا تشرب الخمر إلى أنّه إذا وجد الخمر لا تشربه، لا. يحرم عليك شرب الخمر، يعني الآن وحتى لو لم يوجد يحرم عليك شرب الخمر إذا تتمكن من شرب الخمر، نعم إذا لم تتمكن من شرب الخمر يلغو توجّه خطاب النهي إليك. أمّا لو كنت تتمكن من شرب الخمر ولو بإيجاد الخمر فالحرمّة فعليّة في حقق. وهذا الذي ذكره السيّد الخوئي تام جدا.

وكيف كان، فهناك نكتتان في الظهور في الانحلاليّة، نكتة تختص بخطاب النهي ولو لم يكن له موضوع بل كان له متعلّق فقط كقوله: "يحرم الكذب" ونكتة ثانيّة يشترك فيها خطاب الأمر والنهي وهي ظهور الخطاب في كون متعلّق المتعلّق موضوعاً، أي مفروض الوجود أي عُلّق ثبوت الأمر أو النهي على وجوده. "أكرم العالم" يعني إذا وُجد العالم فيجب إكرامه، ولا يجب عليك أن توجد العالم حتى تكرمه.

أمّا في قوله: "توضأ بالماء" الماء متعلّق المتعلّق وليس موضوعاً لوجوب الوضوء، ليس معناه إذا وُجد الماء فتوضأ. لا، يجب عليك أن تتوضأ بالماء، إذا لم يكن لديك ماء ولكن يمكنك أن تُوجد الماء من خلال إذابة الثلج فيجب عليك ذلك؛ لأنّ وجوب الوضوء بالماء فعليّ بذلك.

وقد تكون هناك نكتة أخرى تمنع من الانحلال كما في مثال أحضر الطبيب وقلّد المجتهد، فإنّه هناك نكتة أخرى تمنع من الظهور في الانحلال. فرق بين أن يُقال للطبيب: عالج الطبيب فإنّه انحلاليّ بلحاظ كل مريض، وبين أن يُقال للمريض أحضر الطبيب؛ فإنّه هناك نكتة تمنع من الظهور في الانحلال وهي كفاية احضار فردٍ ما من الطبيب، أو قوله: قلّد المجتهد؛ ليس معناه أنّ كل مجتهدٍ يجب تقليده.

[شبهةٌ وجوابها]

وصلنا إلى أنّ ظهور خطاب النهي إذا في الانحلال فلماذا السيّد الخوئي والسيّد السيستاني في بحث نذر ترك الفعل لم يُفتوا بانحلاليّة الكفارة؟ لو نذر أن لا يُدخّن، فلماذا ما أفتوا أنّه كلما دخّن فقد ارتكب محرّماً ووجبت عليه كفارة وإذا كرّر تكرّر العصيان وتكرّرت الكفارة؟ بل أفتوا أن لا يجب إلّا كفارة واحدة وقد تحقق حنث النذر بأول عصيانٍ؟

ويقول السيّد السيستاني: إذا كان مقصود الناذر التزامات متعدّدة، يلتزم بأن لا يدخّن الآن ويلتزم التزاماً آخراً أن لا يدخن بعد ساعة، فهنا يلتزم بتكرر حنث النذر وتكرر الكفارة بتكرر حنث النذر ولكن لا يدّعي ظهور نذر ترك الفعل في الالتزامات المتعددة.

فأشكلنا عليه: قلنا أليس ظاهر النهي في الانحلال؟ فيكف ما ادّعيتم ظهور نذر الترك الذي هو يشبه النهي في الانحلال وأضفنا عليه شرط ترك فعل في عقدٍ لازم، إذا اشترطت الزوجة على زوجها أن لا يدخن، فكلما دخّن خالف الشرط وعصى.

والجواب عن هذا الشبهة أنّنا نقول: النذر إسم عمليّة النذر، نحن ندّعي أنّ الانحلال في النذر بلحاظ متعلّق النذر صحيح، ولكنّ النذر إسمُ الإنشاء، إسمُ عمليّة الإنشاء وعملية الإنشاء واحدة، على وزان الوضع العام والموضوع له الخاص، وهذا لا يوجب الانحلال بلحاظ متعلّق النذر. في خطاب النهي نحن ندّعي الانحلال بوضعٍ عام وموضوع له خاص، كما أنّه إذا جاء شخصٌ وقال وضعت إسم عليٍّ للمولود في هذا اليوم، فهذا وضع عام وموضوع له خاصّ. ولكن العملية واحدة ولا تتعدد العمليات، فإذا كان شيءٌ اسمٌ للعمليّة، لعمليّة الوضع العام، وحيث إنّه ليس إلّا عمليّة واحدة فيقال بأنّه إنشاء واحد، نذر واحد، عهد واحد، يمين واحد. وإذا كان النذرُ واحداً فالعرف لا يقبل أنّ لهذا النذر الواحد كفارات متعددة ويتعدد الحنث بتعدد مخالفة النذر.

ولكن في الشرط يوجد مرتكز عقلائي فهم لا يلحظون عمليّة الشرط، لا يهتمون بوحدة علميّة الشرط ولا يفرّقون بين أن تقول الزوجة لزوجها: "اشترطت عليك أن لا تدخّن هذا اليوم واشترطت عليك أن لا تدخّن غداً، واشترط عليك أن لا تدخن بعد غد.." لا يفرّقون بين تكرر عمليّة الشرط وبين أن تقول الزوجة لزوجها: "اشترطت عليك أن لا تدخن أبداً"، فوجوب الوفاء بالشرط في النظر العقلائي لا يتبع وحدة عملية الشرط وتعددها، ولكن وجوب الوفاء بالنذر وترتب الكفارة على حنث النذر تابعٌ للتعبّد الشرعيّ، وكما ذكر الإمام الخميني قدس سره ليس هنا إلّا نذر واحد، ليس هنا إلّا عهد واحد، ليس هنا إلّا يمين واحد.

وكيف كان، نرجع إلى البحث عن ظهور خطاب النهي في الانحلال:

هذا الظهور لا يختصّ بالنواهي الاستقلاليّة، بل هذا الظهور ثابتٌ للنواهي الضمنيّة أيضاً، وهذا بحثٌ مهم في الفقه. وخالف في ذلك السيّد الخميني وتظهر ثمرة هذا البحث في موانع الصلاة؛ كلبس الثوب النجس في الصلاة. المشهور على أنّ قوله "لا تصلّ في النجس" أي إذا كان الثوب نجساً فلا تصلّ فيه ظاهرٌ في الانحلال، هذا الثوب إذا كان نجساً فلا تصلّ فيه، ذاك الثوب إذا كان نجساً فلا تصلّ فيه. فلو كنت مضطراً إلى لبس هذا الثوب النجس لا يجوز لك أن تلبس الثوب النجس الثاني، وإذا كنت مضطراً إلى الصلاة في هذا الثوب النجس الذي تنجس بقطرة بول لا يجوز لك أن تُنجّسه كلّه، هذا خلاف المتفاهم العرفي. بينما يقول السيّد الخميني لا، لا تصلّ في النجس ليس ظاهراً إلّا في صرف مانعيّة لبس الثوب النجس، فإذا كنت مضطراً إلى لبس صرف الثوب النجس في الصلاة فلا يضرّك زيادة هذا المانع، لأنّ المانع صرف وجوب لبس الثوب النجس.

ونحن نرى أنّ هذا خلاف الظاهر، كما أنّ "لا تكذب" كنهي استقلالي ظاهر في الانحلال أنّ كل فرد من أفراد الكذب منهيّ عنه، فكذلك قوله "لا تلبس الثوب النجس في الصلاة" ظاهرٌ في الانحلاليّة، يتوجّه النهيّ إلى فردٍ من أفراد الثوب النجس. وتوجد ثمرةٌ أخرى غير ثمرة الاضطرار، وهي في بحث اللباس المشكوك: لو شككت أنّ هذا الثوب المشتمل على الصوف، على هذا الصوف هو صوف صناعي صيني أو صوف حيوانيّ من حيوان محرّم الأكل، وهذا يُسمّى باللباس المشكوك. فإذا قلنا بانحلاليّة النهي الضمني، فكلّ ثوبٍ متخذٍ من أجزاء لا يؤكلّ لحمه يتوجه إليه نهيٌ عن لبسه في الصلاة. فإذا كان هذا متخذاً من صوف حيوانيّ محرّم فينبسط إليه نهيٌ عن لبس الثوب المتخذ ممّا لا يؤكل لحمه في الصلاة، فإذا شككنا أنّه من صوف صناعيّ أم من صوف حيوانيّ محرّم، فنجري البراءة عن توجّه النهي عن لبسه في الصلاة، كنهي ضمنيّ.

وبقية الكلام في الليلة القادمة إن شاء الله.