بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/06/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (في وجه اقتضاء النهي عن الطبيعة لترك جميع الأفراد)

كان الكلام في الفرق بين الأمر والنهي، حيث ذكر المشهور أنّ الأمر بالطبيعة يقتضي إيجاد الطبيعة والطبيعة توجد بوجود فرد منها، ولكنّ النهي يقتضي ترك الطبيعة وإعدامها ولا تنعدم الطبيعة إلّا بانعدام جميع أفرادها. فأشكل عليه جمعٌ من الأعلام.

[تفريق السيّد البروجردي +]

السيد البروجردي + قال: إن فسّرنا النهي بطلب الترك فلا فرق بين طلب الفعل وطلب الترك، كما أنّ طلب فعل الطبيعة يقتضي إيجادَ فردٍ منها فكذلك طلب ترك الطبيعة يقتضي تحقيق فرد من ترك الطبيعة، لا تحقيق جميع أفراد ترك الطبيعة. ولأجل ذلك يرى النهي بالزجر عن الطبيعة فقد لا يتحقق الانزجار عن الطبيعة إلا بترك جميع أفرادها.

ولكن الظاهر أنّه لا يوجد فرق بين أن نقول أنّ النهي طلب ترك الطبيعة أو أنّه الزجر عن الطبيعة، بل لا بدّ من أن نرى أنّ هذه القاعدة المعروفة وهي: أنَّ الطبيعة توجد بوجود فردٍ منها ولا تنعدمُ إلا بانعدام جميع الأفراد هل هي قاعدةٌ تامّةٌ أم لا؟

[إشكال السيّد الخوئي على القاعدة]

ذكر السيد الخوئي + أنّ هذه القاعدة ليست تامةً ولا أساس لها أبداً؛ فإنَّ الطبيعة كما لها وجودات فبإزاء كلّ فرد عدمه، طبيعة الإنسان توجد عند وجود زيد، فزيد وجود طبيعة للإنسان ونقيض هذا الوجود عدم هذا الوجود، عدم وجود إنسان في ضمنِ زيدٍ. فإذا وُجد أمرٌ فتوجد طبيعة الإنسان مرّة أخرى، فوجود عمروٍ وجود آخر لطبيعة الإنسان ونقيضه عدم هذا الوجود، فبإزاء كل وجود طبيعة يوجد عدم ذلك الوجود، وهذا هو النقيض له.

نعم، لو قبلنا مسلك الرجل الهمداني من أنّ الطبيعة موجودة في الخارج بوجود وحداني في ضمن الأفراد تمّت هذه القاعدة؛ لأنّ الطبيعة لها وجود وحداني ضمن أفرادها ولا تنعدم هذه الطبيعة إلا بانعدام جميع أفرادها، ولكن مبنى الرجل الهمداني مزيّف جدا.

[تفسير السيّد الخوئي للفرق]

ثم قال السيد الخوئي & نحن نفسر الفرق بين الأمر والنهي بشكل آخر، فنقول: هناك مناسبة بين الحكم والموضوع، في خطاب الأمر تقتضي الاكتفاء بفردٍ منها، ومناسبة بين الحكم والموضوع في خطاب النهي تقتضي انعدام جميع أفرادها، ما هي تلك المناسبة؟

يقول السيد الخوئي &: إذا كان المطلوب في خطاب الأمر بالطبيعة كشرب الماء:

أ. إيجاد جميع أفرادها، فهذا طلبٌ لغير المقدور، ليس هناك من يتمكن من إيجاد جميع أفراد طبيعة شرب الماء، فهذا ليس محتملاً.

ب. فيبقى أن نحتمل وجوب إيجاد عدد معيّن من أفراد شرُب الماء. فلو كان المراد للمولى إيجاد عدد معين من أفراد الطبيعة لكان ينبغي أن يحدّد ذلك العدد ولم يحدّده، فيتعيّن أن يكون المراد إيجاد فرد من أفراد الطبيعة.

وأمّا خطاب النهي، فإما أن يكون المقصود منها:

أ. صرف وجود ترك الطبيعة، يعني ترك الطبيعة آنا ما، ترك شرب الماء لحظة، والذي هو نقيض صرف وجود الطبيعة. هذا المعنى ليس محتملاً؛ لأنّ النهي الذي يريد أن يترك العبد لحظة ما الطبيعة له مفهوم: أنّ كلّ إنسان يتحقق منه ذلك، يترك الطبيعة المحرّمة ولو في لحظة من لحظات عمره، فهذا غير محتملٍ.

ب. ويحتمل أن يكون المقصود ترك عدد معيّن من أفراد الطبيعة، ولكن هذا غير محدّد؛ لم يحدّد الشارع هذا العدد في خطابه، فهذه المناسبة تقتضي أن يكون المقصود ترك جميع أفراد الطبيعة. فإذا قال لا تشرب الماء أو أطلب منك ترك شرب الماء فيكون المقصود هو ترك جميع أفراد شرب الماء.

وإلّا فكيف يكون نقيض الواحد متعدّداً ونقيض المتعدد واحداً، هذا غير معقول. صرف وجود الطبيعة لا يمكن أن يكون نقيضه جميع أفراد ترك الطبيعة، بل لا بدّ أن يكون نقيضه صرف وجود ترك الطبيعة ولو لحظةً، فالمتعيّن ما ذكرناه من أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الفرق بين خطاب الأمر والنهي.

[نقض ما اختاره السيّد الخوئي &]

هذا الكلام للسيّد الخوئي غير متّجه:

أوّلاً: نورد على حلّه وبيانه للفرق بين خطاب الأمر والنهي أنّ تركيزه على كون طلب جميع أفراد الطبيعة طلباً لغير المقدور، هذا هو الذي ركّز عليه السيّد الخوئي &.

فماذا يفعل السيّد الخوئي بالمستحبات الانحلاليّة: ﴿اذكروا الله﴾، أليس هذا انحلاليّاً؟ وإلّا لو شخص ذكر الله مرّة واحدة في طول حياته، هل يكتفي بذلك؟ لا؛ هذا أمر انحلاليّ ، هل هذا ليس طلب لغير المقدور؟

فإذا كان المقصود من الواجبات مثل المستحبات فلا يتوجّه عليه إشكال التكليف بغير المقدور ﴿لله على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ إذا اقتضى حج البيت كل سنة لمن استطاع، فهذا ليس تكليفاً بغير المقدور، فما ركّز عليه في بيانه للفرق بين الأمر والنهي ليس تاماً.

وأمّا إشكاله على تلك القاعدة المعروفة فهو غيرمتّجه؛ فإنّ الكلام ليس في الخارج التكويني وإنّما الكلام في الملحوظ الذهني.

الخارج التكويني كما ذكره السيّد الخوئي &، كلُّ فردٍ من الطبيعةِ طبيعةٌ، كلُّ فردٍ من الإنسانِ إنسانٌ، إذا وُجد زيد وُجدت طبيعة إنسان. ونقيض ذلك هو عدمُ هذه الطبيعة، عدم زيدٍ كطبيعة إنسان. وإذا وُجد عمرو وجد فرد آخر للطبيعة، أو قل وُجدت الطبيعة بوجود ثانٍ، ونقيض ذلك عدم وجود هذه الطبيعة، أي وجود عمرو، وهكذا.

هذا بلحاظ الخارج والواقع التكويني، ولكن ليس المقصود من القاعدة المعروفة وهي أنّ الطبيعة توجد بوجود فردٍ ما ولا تنعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد هو ذلك، المراد منها بيان الملحوظ الذهنيّ:

أي الإنسان قد يلحظ الطبيعة كوجود وحدانيّ، ولا يلحظ كثراتها، فإذا رأى وجود فردٍ منها فينسب الوجود إلى هذه الطبيعة الملحوظة كأمرٍ وحداني، فيقول الإنسان موجودٌ. حينما رأى أنّ آدم × قد وُجد.

ولكن هذا الملحوظ الوحداني لا يُنسب إليه العدم إلّا إذا رُؤيت صفحة الوجود خاليةً عنه؛ فإذا انعدمت جميع أفراد الإنسان فحينئذٍ ينسب العدم إلى هذه الطبيعة الملحوظة بلحاظٍ وحداني، فيقول الإنسان ليس بموجود، بعدما نُقر في الناقور وصعق من في السماوات والأرض، فحينئذ يقال الإنسان ليس موجود، فهذه القاعدة صحيحة بهذا اللحاظ الوحداني.

وإلّا ففي الواقع التكويني كما ذكره السيّد الخوئي& لا يوجد إنسان واحد، بل يوجد بكل فرد من الإنسان إنسانٌ ونقيضه عدم هذا الإنسان، لا عدم جميع أفراد الإنسان.

فإذاً تمّ ما ذُكرَ من أنّ خطاب الأمر بالطبيعة يختلف عن خطاب النهي عن الطبيعة. فخطاب الأمر في حدّ ذاته لا يقتضي إلّا إيجاد صِرف الوجود، إيجاد فردٍ من الطبيعة، إلّا إذا كان هناك قرينة على الخلاف، كالأمر ببر الوالدين؛ فإنّه يقتضي استدامة البّر أو فيما إذا كان في خطاب النهي شيٌ موضوعاً أي مفروض الوجود، كقول أكرم العالم؛ فإذا كان في خطاب الأمر شيءٌ موضوعاً أي مفروض الوجود يشكّل قضية شرطيّة كأكرم العالم، فإنّه بمثابة أنّه إذا وُجد عالمٌ فأكرمه، فبلحاظ أفراد العالم ينحل، أمّا بلحاظ أفراد الإكرام فلا ينحلّ، بل يجب صرف وجوب الإكرام بإزاء كل فردٍ من العالِم.

وأمّا خطاب النهي عن الطبيعة فيقتضي ترك جميع أفرادها، لكن كان ينبغي للسيد الخوئي & أن يدخل في بحث آخر، لماذا غفل عنه؟

وهو أنّ خطاب النهيّ عن الطبيعة يمكن أن يكون على نحوين:

النحو الأول: أن يكون نهياً وحدانيّاً عن الطبيعة، بحيث لو ارتكب المكلّف وأتى بفردٍ من هذه الطبيعة سقط النهي رأساً.

مثل ما يقول المولى لعبده: لا تذكر اسمي أمام الناس، مخافة أن يعرفه الناس. وجاء ودخل بين الناس مختفياً، يقول لعبده لا تذكر اسمي أمام الناس، فلو ذكر عبده اسمه مرّة واحدة لعرفه الناس، فبعد ذلك لا يفيد أن يسكت؛ لأنّه في الصيف ضيّع اللبن. فهذا نهيٌّ عن صِرف وجود التكلّم، بحيث لو خالف وتكلّم وذكر اسم مولاه مرّة واحدة سقط النهي عن ذلك رأساً.

النحو الثاني: أن يكون النهي انحلاليّاً، كما في غالب موارد النهي.

ففي هذا المثال لو كان المقصود للمولى أن لا يذكر العبد اسمه إكراماً له، فلو ذكر اسم المولى مرّة واحدة وقال يا فلان، يقول له المولى اسكت لا تذكر اسمي، احترمني. هنا لا يصحّ أن يُقال في الصيف ضيّعت اللبن، لا، كلّما يكرّر ذكر اسم المولى يرتكب معصيّةً لأنّه طلب منه أن لا يذكر اسمه احتراماً له.

وهذا هو الغالب في النواهي: لا تكذب؛ لا أنّه لو صدر منه الكذب مرّة واحدة سقط النهي رأساً، كلما يكذب يعتذر بأنّني مرّة واحدة بعد أن بلغتُ كذب عند أميّ مرّة واحدة وسقط النهي، بعد ذلك كلّما أكذب لا يضّر، هذا غير صحيح؛ لأنّ النهي عن الكذب نهيّ انحلالي عن جميع أفراد الكذب.

فيا سيّدنا الخوئي لم تذكر الفارق بين هذين النهيين، لماذا صار خطاب النهي ظاهراً في الانحلاليّة، أي في النحو الثاني؟ لم يذكر السيّد الخوئي أيّة نكتة لذلك.

[النكتة في المقام]

مجرّدُ أنّ ترك الطبيعة بترك جميع أفرادها مشتركٌ بين النحويين من النهي، سواء كان النهي عن صرف الوجود أو النهي عن مطلق الوجود أي انحلالي. وليس له وجهٌ، أي ليس لظهور خطاب النهي في النحو الثاني والذي يعترف به الكل، ليس له وجهٌ إلّا غلبة انحلاليّة المفسدة في المحرّمات العقلائيّة، فكل فردٍ من أفراد الطبيعة المحرّمة في المحرّمات العقلائيّة يوجد فيه مفسدةٌ مستقلّة، وهذا أوجب ظهور خطاب النهي في الانحلال.

[إشارةٌ إلى بحث فقهي]

لا بأس من هنا أن أدخل في بحث فقهيّ ذكره الأعلام في النذر ونحوه:

لو قال شخصٌ: "لله عليّ أن لا أدّخن" أو "والله لا أدّخن" فلو دخّن مرّة واحدة، فهل بذلك سقط النذر؟ فلو دّخن مرّة أخرى لم يرتكب محرّماً ولم يوجب ذلك كفارةً أخرى عليه؟ أو أنّ كلّ تدخين يصدر منه حرام ويوجب كفارةً مستقلّة؟

السيّد السيستاني = فصّل، قال: ما هو مقصودك حينما قلت "والله لا أدخن" –هذا يشبه خطاب النهي-؟ إن كان مقصودك التزام واحد في ترك التدخين فقد خالفت هذا الالتزام بمجرّد تدخينك مرّة واحدة، ثمّ بعد ذلك كلّما تدّخن ليس عليك شيء. وإذا كان مقصود التزامات متعددة بعدد أفراد التدخين، كأنّك قلت: ألتزم أن لا أُدّخن اليوم، ألتزم أن لا أدّخن غداً، ألتزم أن لا أدّخن بعد غدٍ. فكلما تدّخن تخالف التزاماً ويجب عليك كفارة الحنث بذلك وكلّما تخالف ترتكب محرّماً.

وحينئذ يتوجّه إشكال وهو: أنّ السيّد السيستاني لماذا فصّل "ما مقصودك" التزام واحد أم التزامات متعددة؟ بينما أنّه استظهر = من الخطابات الشرعيّة في النواهي، النواهي المتعدّدة المستقلّة بالنسبة إلى كلّ فردٍ.

أو مثلاً: إذا التزم الزوج حينما تزوّج بفتاةٍ ورأت الفتاة أنّ هذا الزوج يُدّخن، فقالت له التزم أن لا تُدّخن. فهناك لماذا يقولون بأنّه لو دخن مرّة واحدة لا يكون مسوغاً ليدخن بعد ذلك، فاليوم أجبره أصدقائه فدخّن، فبعد ذلك يأتي إلى البيت وبيده السيجارة ويدخّن. زوجته تقول له: لماذا تدخّن؟ ألم تلتزم بترك التدخين؟ فيقول: نعم أنا قلت "والله لا أدخن""لله عليّ أن لا أدخن" دخنت مرّة واحدة الفقهاء قالوا لي بعد ذلك تدخّن ما عليك شيء.

فأنا قستُ مثال الشرط بمثال النذر؛ لأنّ الشرط ظاهراً في الانحلال، فلماذا لا يكون النذر وشبهه ظاهراً في الانحلال؟

تأمّلوا في هذه الشبهة إلى الليلّة القادمة إن شاء الله.