بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/06/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (في البحث عن دلالة بعض التعابير على الحرمة)

كان الكلام في العبارات المختلفة التي يُستظهر منها الحرمة:

تكلمنا حول جملة من تلك العبارات، بقيت عبارة "اللعن" و"البأس" و"الأمر بالكفارة" و"التصدّق عقيب فعل".

أمّا كلمة "اللعن":

فلا إشكال في عدم صراحتها في الحرمة، كما ذكر السيد الخوئي & في مصباح الفقاهة الجزء الأول ص 204، فقال: "إنّ اللعن ليس صريحاً في الحرمة حتى لا يمكن حمله على الكراهة وإنّما هو دعاء بالإبعاد المطلق عن الله سبحانه وتعالى الشامل للكراهة أيضاً".

إلّا أنّه يقع الكلام في أنّ كلمة "اللعن" هل هي ظاهرة في الحرمة أم مجملة؟

فقد ورد في كلام للسيد الخوئي & في مصباح الفقاهة الجزء الأول ص 260: "أنّ اللعن كما يجتمع مع الحرمة فكذلك يجتمع مع الكراهة أيضاً، فترجيح أحدهما على الآخر يحتاج إلى القرينة المعيّنة، ويدلّ على ذلك ورود اللعن في المكروهات في موارد عديدة، ومن تلك الموارد ما في وصية النبي| لعليّ × قال |: يا علي لعن الله ثلاثة آكل زاده وحده، وراكب الفلاة وحده والنائم في بيت وحده".

ثم قال: "اللهم إلّا أن يقال: إنّ الرواية المذكورة ضعيفة السند ولم نجد في غيرها ورود اللعن من الله على فعل المكروه، وعليه فلا بأس في ظهور ذلك في الحرمة".

فظاهر هذا الكلام الأخير: أنّه يقبل أنّ اللعن الصادر من الله سبحانه وتعالى "لعن الله" ظاهرٌ في الحرمة، أمّا كلمة "ملعون" ملعون من فعل كذا، فلا يدلّ على الحرمة.

ولكن يرد على ما ذكره السيّد الخوئي:

أنّه قد ورد في الرواية الصحيحة عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن موسى بن جعفر × قال: "لعن رسول الله |: ثلاثة الآكل زاده وحده والنائم في بيتٍ وحده والراكب في الفلاة وحده". ولا يحتمل أن يكون التعبير بـ لعن الله ظاهراً في الحرمة ولا يكون التعبير بـ لعن رسول الله ظاهراً في الحرمة؛ لا يوجد أي فرق بينهما.

بل نحن لا نستبعد أن يكون ظاهر التعبير بـ "ملعون" هو الحرمة أيضاً؛ لأنّ التعبير بـ "المعلون" ليس هو أنّه ملعون من قبل الشياطين، بل ملعون من قبل الله وأنبيائه وملائكته، واللعن هو بيان لكون هذا الشخص مبغوضاً وبعيداً عن الله سبحانه وتعالى، وظاهره الحرمة.

نحن لا ننكر استعمال كلمة النهي في المكروهات أيضاً كما أنّ النهي استعمل في المكروهات، ولكن هذا لا يمنع من ظهور كلمة النهي في الحرمة. نعم، استعمال اللعن في المكروهات ليس بنادرٍ، فقد ورد في الروايات:

- ملعون ملعون من وهب الله له مالاً فلم يتصدّق منه بشيء.

- ملعون ملعون من وضع رداءه في مصيبة غيره.

- ملعون ملعون من احتجب عن أخيه.

- ملعون من ترأس، ملعون من همّ بها، ملعون من حدّث بها نفسه.

وفي صحيحة هشام: "من استوى يوماه فهو مغبون، ومن آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون" [معاني الأخبار، ص342].

قد يكون الإنسان يوم غده أسوأ من أمسه لأنّه كان ملتزماً بالمستحبات ولكنّه ترك المستحبات، فيوم غده أسوأ من يوم أمسه، ولكن هذا ليس محرّماً.

وهكذا في روايةٍ أخرى: ملعون من ألقى كله على الناس.

- كل امرء تدبّره امرأة فهو ملعون.

- قال علي × على ما في الرواية في الدواب: لا تضربوا الوجوه ولا تلعنوها، فإنّ الله عزّ وجل لعن لاعنها.

-لا يرتدف ثلاثة على دابّة فإنّ أحدهما ملعون وهو المقدّم.

ولكن أنتم ترون أنّ هذه الاستعمالات لا تسلب ظهور كلمة اللعن في الحرمة.

[بحث استطرادي]

ثم إنّه وقع الكلام استطراداً حول لعن المؤمن، هل يجوز لعن المؤمن المتجاهر بالفسق؟

ذكر السيّد الخوئي & في منية السائل في الجواب عن سؤال جواز "لعن شارب الخمر المتجاهر حتى الموالي؟ قال: لا يجوز لعن من هومؤمنٌ". حتى لو كان متجاهراً بالفسق لا يجوز لعنه، هذا يناسب أن يكون اللعن بمعنى كون الشخص مبغوضاً ومطروداً، لا أنّه ترك المستحبات وفعل المكروهات.

 

"لا بأس"

أمّا كلمة البأس فقد ورد في روايات كثيرة،: "إذا كان كذا فلا بأس"، ومفهومه إن لم يكن كذا ففيه بأس.

وقع الكلام أنّ هذا المفهوم ظاهرٌ في الحرمة أم لا؟ ثلاثة أقوال:

القول الأول: [ظهور البأس في الحرمة]

ما اختاره جمع من الأعلام كالسيد الخوئي & والسيد السيستاني ' من ظهور هذا المفهوم في الحرمة، لا بأس بكذا إن كان كذا، يعني إن لم يكن كذا ففيه بأس وظاهره الحرمة.

القول الثاني: هو الإجمال

وهذا ما اختاره المحقق الأردبيلي & في مجمع الفائدة الجزء الأول ص 313 والمحقق القمّي & في جامع الشتاب الجزء الثاني ص 342، وهكذا صاحب الجواهر & في الجزء 23 ص 361.

القول الثالث: هو ظهور البأس في الكراهة

وهذا ما اختاره صاحب الكفاية & في حاشية المكاسب، ص 281: مضافاً إلى ظهور لا يصلح في خصوص الكراهة وكذا مفهوم لا بأس، بل ظهورهما في الكراهة أقوى من ظهور النهي في الحرمة.

هذا القول الثالث غريبٌ جدّاً؛ كيف يكون التعبير بـ أنّه إن كان كذا، إن كان زيدٌ عادلٌ فلا بأس بإكرامه، مفهومه أنّه إن لم يكن عادلاً ففيه بأسٌ كراهتي؟ إن تمّ شيء فيتم دعوى الإجمال لو لم نقبل ظهور هذا التعبير في الحرمة.

والإنصاف: أنّ الظهور الإطلاقي يقتضي الحرمة؛ لأنّ البأس إمّا:

بمعنى العذاب كما ورد في القاموس "إن كان العالم عادل فلا بأس بإكرامه، أي لا عقاب ولا عذاب في إكرامه"

أو أنّه بمعنى الشدّة كما هو المناسب مع الاشتقاقات لهذه الكلمة "البؤس والبأساء" أي لا شدّة ولا صعوبة من ناحية المولى في ذلك، إن كان عادلاً فلا بأس، أي لا شدّة ولا تضييق من الله سبحانه وتعالى في أن تكرمه، ومفهومها أنّه إذا لم يكن عادلاً ففيه إكرمه شدّة وصعوبة من الله.

ومجرّد الكراهة ليس فيه صعوبة عرفاً، الصعوبة في الإلزام.

 

"الكفارة والتصدّق"

[1. قول المشهور: الحرمة]

أمّا التعبير بـ "الكفارة والتصدّق" فالمشهور أنّه دالٌّ على الحرمة، وقد لا يوجد دليل على الحرمة إلّا ذلك، كتأخير قضاء شهر رمضان إلى أن يحلّ شهر رمضان الآتي. فالمشهور على حرمته، ولا دليل على حرمته إلّا ما ورد من وجوب التصدّق بمدٍّ من طعام على مسكين، إن كان برىء ثم توانى قبل أن يدركه الرمضان الآخر تصدّق عن كلّ يومٍ بمدٍّ من طعام على مسكين.

[2. السيدان الخوئي والسيستاني: عدم الدلالة على الحرمة]

ولكن الصحيح: أنّ استفادة المشهور الحرمة من وجوب الكفارة والتصدّق ليس واضحاً، كما ذكره السيّد الخوئي & والسيّد السيستاني '، ولذلك أشكلا في وجوب المبادرة إلى قضاء الصوم في سنة الفوت، في سنة فوت الصوم؛ لأنّه من المحتمل أنّ هذا جبرٌ للنقص الحاصل من تأخير القضاء ولا يكشف عن حرمة التأخير.

[ تفصيل السيد الداماد]

والسيّد الداماد & كان يفصّل بين التعبير بـ "التكفيير" وبين التعبير "بالتصدّق"؛ فيقول: التصدّق ليس ظاهراً بالحرمة بخلاف التكفير.

ولكن ليس له وجه: لأنّ التكفيير هو بمعنى الستر؛ ﴿أعجب الكفار نباته﴾} الكافر هو الذي يستر الأرض، الزارع حينما ينثر البذر تحت الأرض ويستره بالتراب يقولون هذا كافر، والزرّاع كفّار. التكفير هو الستر، ﴿وكفّر عنا سيئاتنا﴾ أي استر سيئاتنا. فالتكفير هو الستر، ستر النقص ولا يعني أنّ هذا حرام.

[السيّد الزنجاني: حرام لولا العذر]

السيّد الزنجاني ' مصرٌ على أنّ ظاهر التكفير والتصدّق إذا وجب أنّ هذا حرامٌ لولا العُذر؛ فلا ينافي وجوب الكفارة على من ركب السيّارة المسقفة للاضطرار؛ فإنّه لم يرتكب محرّماً ومع ذلك يجب عليه الكفارة. وجوب الكفارة لا ينافي الحليّة الفعليّة، بل يكفي فيه الحرمة الأوليّة للفعل لولا طرو الاضطرار ونحوه. وأمّا وجوب الكفارة فقطعاً فيجتمع مع الحليّة الفعليّة الناشئة من الاضطرار والنسيان ونحو ذلك.

ولكن هذا المقدار أيضاً لم يثبت لدينا؛ أن يكشف وجوب التصدّق والتكفير عن كون الفعل حراماً أوليّاً لولا العذر.

[المختار في المسألة]

الظاهر تماميّة فتوى السيّد الخوئي & والسيّد السيستاني ' بعدم تماميّة دليل بحرمة تأخير شهر رمضان إلى السنة الآتية، فإنّ دليلها هو خطاب وجوب التصدّق وهذا لا يقتضي حرمة الفعل.

 

[الجهة الرابعة: في وجه اقتضاء النهي عن الطبيعة لترك جميع الأفراد]

 

يقع الكلام في جهة أخرى من الجهات المبحوث عنها في بحث النواهي، وحاصل الكلام في هذه الجهة:

أنّ خطاب النهي يمتاز عن خطاب الأمر في أنّ الأمر بالطبيعة لا يقتضي إلّا إيجاد فردٍ منها، ﴿لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ هذا الآية الكريمة لا تقتضي أكثر من حجّة واحدة على المستطيع. بينما أنّ خطاب النهي عن الطبيعة يقتضي ترك جميع أفرادها؛ فإذا قال المولى "لا تشرب الخمر"؛ فيجب الاجتناب عن جميع أفراد شرب الخمر، ولكن لو قال اشرب الماء: فلا يقتضي من أكثر إيجاد فردٍ لشرب الماء.

وقع الكلام في نكتة الفرق بين خطاب النهي وخطاب الأمر:

فالمشهور قالوا: بأنّ هذه النكتة هي قاعدة أنّ الطبيعة توجد بوجود فردٍ ما ولا تنعدم إلّا بانعدام جميع أفرادها. إذا وُجد إنسان في الأرض فيصحّ أن نقول: الإنسان موجود، ولكن ما دام لم ينعدم جميع أفراد الإنسان في الأرص فلا يصحّ أن نقول الإنسان معدومٌ.

فخطاب الأمر يقتضي إيجاد الطبيعة، فيصدق أنّ الطبيعة موجودة بوجود منها، وخطاب النهي يقتضي إعدام الطبيعة ولا يصدق أنّ الطبيعة معدومة إلّا بانعدام جميع أفرادها.

السيّد الخوئي وفاقاً لأستاذه المحقق الأصفهاني أنكر هذه القاعدة، وقال: هذه القاعدة لا أساس لها أصلاً. فما هو منشأ إنكارهما ‚ لهذه القاعدة المعروفة؟ نتكلم عن ذلك في الليلة القادمة إن شاء الله.