بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/05/28

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:النواهي (في البحث عن دلالة بعض التعابير على الحرمة)

[الكراهة]

كان الكلام في الأقوال الثلاثة حول كلمة "الكراهة"، وكان:

القول الأول: ما اختاره السيّد الخوئي & والسيّد السيستاني ' وجمعٌ من الأعلام من أنّ ظاهر التعبير بالكراهة الحرمة؛ فقد قال تعالى ﴿كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾ مع أنّه عدّ جملة من المحرّمات كالزنا. فذكر السيّد الخوئي & أنّ الكراهة بمعنى المبغوضيّة، فيدلّ لفظ الكراهة على كون الفعل مبغوضاً، والمبغوضيّة منشأ الحرمة.

ولكن يرد عليه: أنّ التعبير بالكراهة نظير التعبير بالحب؛ فكما أنّ التعبير بالحب لا يظهر منه الوجوب فكذلك التعبير بالكراهة لا يُفهمُ منه المبغوضيّة اللزوميّة التي هي منشأ الحرمة، فلا بدّ من الرجوع إلى الاستعمالات في عهد الأئمة ^، فنرى هل كان ظاهر التعبير بالكراهة هو الحرمة أم لا؟

[استدلال السيد السيستاني والإيراد عليه]

فاستدلّ السيد السيستاني = بمعتبرة سيف التمّار عن أبي عبد الله ×: " إنّ علياً كان يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر لأنّ تمر المدينة أدونهما، ولم يكن عليّ × يكره الحلال"، فقال هذا ظاهر في أنّ المكروه هو الحرام؛ لأنّ عليّاً × لم يكن يكره الحلال، يعني كان يكره الحرام.

يمكن الإيراد على الاستدلال بهذه المعتبرة:

أنّنا وإن كنا نقبل أنّ الكراهة في هذه المعتبرة استعمل بالكراهة اللزوميّة، وذلك لأنّ عليّاً × قطعاً كان يكره المكروهات كراهةً ولو غير لزوميّة، فعدم كراهته للحلال وإن كان مكروهاً اصطلاحيّاً يعني لم يكن يكره الحلال كراهةً لزوميّة، ولكن الاستدلال أعمّ؛ فهناك بعض الروايات تدلّ على خلاف ذلك:

أ. ففي صحيحة زرازة، قال: سألت أبا جعفر × عن الجريث، فقال × ﴿قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾ ثم قال: لم يحرم الله من شي في القرآن إلا الخنزير بعينه، ويكره كل شيء من البحر ليس له قشر، وليس بحرام، إنما هو مكروه".

هذه الصحيحة وإن حُملت على التقيّة؛ لمعارضتها لروايات معتبرة تدلّ على حرمة السمك الذي لا فلس له ولكن نستشهد بهذه الصحيحة على استعمال المكروه في قبال الحرام.

فما ذكره السيّد السيستاني = من أنّ المراد بالحرام هو ما ثبتت حرمته من الكتاب أو السنة القطعيّة الواضحة، والمكروه ما ثبتت حرمته من غير الكتاب والسنّة القطعيّة الواضحة، هذا أمرٌ لا نعرفه؛ فإنّ الظاهر من التعبير وليس بحرام إنّما هو مكروه، أنّه ليس منهياً عنه نهياً لزومياً.

ب. وقد ورد في الروايات تقسيم الأشياء بالحلال والحرام، ولم يقسّم إلى الحلال والحرام والمكروه.

ج. وفي رواية أخرى: "في امرأة أرضعت عناقا حتى فطمت وكبرت وضربها الفحل ثم وضعت أيجوز أن يؤكل لحمها ولبنها؟ فكتب عليه السلام: فعل مكروه ولا بأس به".

فإذاً لم يثبت لنا في الاستعمالات الروائيّة استعمال المكروه في المنهيّ عنه بنهيّ لزوميّ.

وأمّا القول الثاني:

وهو قول السيّد الداماد & من ظهور التعبير بالكراهة في المعنى المصطلح اليوم المقابل للحرمّة حيث صار مصطلح فقهاء العامّة في زمان الباقر والصادق ‘ تقسيم الأفعال إلى الواجب والمستحب والحرام والمكروه والمباح.


ولكن يرد عليه:

أنّ هذا الاصطلاح ممّا نراه في كتب الشيخ الطوسي، ككتاب التهذيب والاستبصار وكتاب الخلاف، ولكن نقل الغزالي في المستصفي أنّ المكروه لفظ مشترك في عرف الفقهاء بين معانٍ، أحدها المحظور –يعني الحرام- فكثيراً ما يقول الشافعي أكره كذا وهو يريد التحريم، الثاني: ما نُهي عنه نهي تنزيه.

وفي كتاب مواهب الجليل: إنّ العلماء يكرهون أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام فيما طريقه الاجتهاد، ويكتفون بقولهم أكرهه، ولا أحبه ولا بأس به وما أشبه ذلك.

فترون أنّه لم يُعرف أنّ فقهاء العامّة في زمان الأئمّة ^ اصطلحوا على استعمال المكروه فيما يقابل الحرام، وقد نقل الشيخ الطوسي & في كتاب الخلاف عن الشافعي أنّه قال: "صيد وج - وهو بلد باليمن - غير محرم، ولا مكروه. قال الشافعي: هو مكروه،) وقال أصحابه: ظاهر هذا المذهب أنه أراد بذلك كراهية تحريم".

فإذاً، الظاهر تماميّة القول الثالث وهو إجمال معنى الكراهة لاحتمال استعمالها في الجامع بين الكراهة المصطلحة والحرمة.

[إنّي أكره ذلك]

هذا إذا قال الإمام × "هذا مكروهٌ"، أو نُقل عن النبي | أو نقل عن الله سبحانه وتعالى أنّه كان يكره ذلك. أمّا إذا قال الإمام × "إنّي أكره ذلك" فيمكن أن يقال: أنّ هذا التعبير لا يناسب أن يكون الفعل حراماً إلهياً؛ لأنّ الظاهر من شأن الأئمّة ^ في عرف الناس أنّهم كانوا يبيّنون أحكام الله تعالى، فكانوا يعبّرون عنهم بالفقهاء، فإذا قال فقيه في جواب السؤال عن أكل لحم الفرس مثلاً: "أنا أكره ذلك"، فلو كان أكل لحم الفرس حراماً إلهياً فيقول الناس هذا تعبير قليل بالنسبة إلى هذا الحرام الإلهي.

وأوضح من ذلك لو قال الإمام × : "ما أحب ذلك" يعني أكرهه، إلّا إذا كان المورد من موارد التقيّة كما قال الإمام × في السؤال عن التظليل: ما يعجبني ذلك؛ فهذا لا يظهر منه الكراهة في مقابل الحرمة، فلا يكون قرينة على رفع اليد عن ظهور الروايات الناهية عن التظليل للمحرم. أمّا إذا لم يكن المقام مقام التقيّة فظاهر التعبير بأنّي "لا أحب ذلك" هو أنّ هذا مكروه وليس بحرام،. وهذا ما رأيناه من جمعٍ من الفقهاء، أنّهم التزموا بحمل "لا أحب" على الكراهة وجعله قرينةً على رفع اليد عن ظهور النهي في سائر الروايات في الحرمة.

مثلاً: ذكر في البحوث في الفقه بالنسبة إلى هذا التعبير "المرأة الطامث أشرب من فضل شرابها ولا أحب أن أتوضأ منه" أنّ هذا ظاهرٌ في الكراهة المقابلة للحرمة.

 

[لا يصلح]

التعبير الآخر وهو التعبير بـ "لا يصلح" هل هو ظاهرٌ في الحرمة أم لا؟

فهنا أيضاً ثلاثة أقوال:

القول الأول: [الكراهة في قبال الحرمة]

ما ذكره صاحب الكفاية & في شرح المكاسب، من أنّ ظاهر "لا يصلح" هو الكراهة في قبال الحرمة، وهذا ما ذكره السيد الخميني + في كتاب البيع، قال: التعبيرات الواردة فيها –أي في رواية- تناسب الكراهة مثل "لا يصلح" خصوصاً ما في صحيحة الحلبي حيث قال لايصلح له ذلك، فإنّ المفهوم منه أنّه جائز ولكنه ليس صالحاً له، وإلّا في الحكم الشرعيّ الإلزاميّ لا يُعبّر بمثله.

القول الثاني: [الحرمة]

ما اختاره السيّد الخوئي & من ظهور لا يصلح في الحرمة؛ لأنّ معنى نفي الصلاح عن فعلٍ أنّه فاسدٌ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾ أي يبقي عمل المفسدين على فساده. ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٍ﴾ أي عمل فاسد. لا يصلح يعني غير قابل ليُرتكب، ويؤيّد ما ذكره السيّد الخوئي كثرة ورود كلمة يصلح ولا يصلح في كتاب عليّ بن جعفر، ويقرب من مائة استعمال في السؤال عن الجواز، فيعبّر هل يصلح ذلك؟ فيجاب بـ: لا يصلح.

القول الثالث: هو الإجمال، فيقال بأنّ "لا يصلح" إمّا مجمل أو ظاهر في الجامع بين الكراهة والحرمة.

ونحن كنا نقويّ هذا الاحتمال الأخير، إلّا أنّ الذي منعنا من ذلك ملاحظة كتاب علي بن جعفر، فجعلنا نحتاط في مثل ذلك.

نعم، لو كان التعبير بـ "لا يصلح" في العبادات والمعاملات كان ظاهراً في الفساد ، لا يصلح أن يصلّي في وبر ما لا يؤكل لحمه مثلاً، لا يصلح أن يبيع كذا بكذا. ظاهره أنّ هذا ليس بصالحٍ، أي لا يُترتب عليه الأثر الذي يتوقع منه وهو امتثال الأمر في العبادة، وترتّب الأُثر من النقل والانتقال في المعاملات.

وهكذا لو قيل: فلان لا يصلح لكذا، ظاهره أنّه ليس بقابلٍ له.

وأمّا إذا سُئل عن حلق اللحية مثلا فأجيب: لا يصلح ذلك، فنحن نحتاط وإن كنا سابقا نقول بالقول الثالث وهو الإجمال.

[لا ينبغي]

يبقى الكلام حول التعبير بـ "لا ينبغي" ففيه أيضاً ثلاثة أقوال:

القول الأول: [الحرمة]

ما اختاره السيّد الخوئي & من ظهور كلمة لا ينبغي في الحرمة؛ وذلك لأنّه يقول ليس معنى ينبغي هو أنّه يحسن ولا ينبغي أي لا يحسن، بل هذا مصطلح حديث، المعنى اللغوي لكلمة ينبغي هو يتيسّر ذلك، ولا ينبغي يعني لا يتيسر ذلك ﴿قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ﴾ ؛ أي لا يتيّسر لنا ذلك.

﴿ قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لَّا يَنبَغِى لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِى﴾ سليمان × لا يقول رب هب لي ملكا لا يحسن أن يكون لأحد من بعدي، لا: ربي هب لي ملكاً لا يتيسر لأحدٍ من بعدي.

وقد ورد في صحيحة زرارة أنّه قال:" لا ينبغي نكاح النصرانية ولا اليهودية"، فقال زرارة من أين تحريمه، من أين تحريمه؟ فهم ممن كلمة لا ينبغي التحريم، هذا هو القول الأول.

والقول الثاني: [الكراهة]

هو ظهور كلمة ينبغي في الكراهة؛ لأنّ المعنى الظاهر منه اليوم وأصالة الثبات تقتضي أن يكون معناه في زمان الأئمّة ^ هو ذلك.

القول الثالث: هو الإجمال، أو فقل ظهور لا ينبغي في الأعم من الحرمة والكراهة.

والظاهر كما أشرنا إليه تماميّة القول الأول؛ لما ذكرنا من شواهد عليه، وإن كان بعض اللغويين فسّر "لاينبغي" بأنّه لا يحسن، ولكن من خلال هذه الاستعمالات التي أشرنا إليها لا يبعد الوثوق بأنّ ظاهر كلمة لا ينبغي أنّه لا يتيّسر ، وهذا ظاهر في الحرمة.