بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/05/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (الجهة الثانيّة والثالثة)

كان الكلام فيما ذكره السيد السيستاني =في تقريب دلالة كلمة النهي وصيغة النهي الواردتين في كلام المولى على الحرمة، فقال: إنّ خطاب النهي الصادر من المولى مستبطنٌ للوعيد بالعقاب، ويُسمّي ذلك بالظهور الاندماجي والاستبطاني. ما هو المنشأ لاستحقاق العقاب؟

ذكر أنّه وإن كان يمكن أن يكون العقاب ناشئاً عن ربط الشخصيّة؛ يعني يجعل المولى عصيان نهيه هتكاً لحرمته ولكن هذا يناسب المجتمع الطبقي لا المجتمع القانوني، فإنّ المجتمع القانوني يناسبه أن يكون الناس مكلّفين بالقانون، فيتناسب أن يكون الوعيد بالعقاب ناشئاً عن الجزاء. والشاهد على ذلك:

1) أنّه أولاً لو كان منشأ استحقاق العقاب هتك حرمة الله سبحانه وتعالى للزم من ذلك عدم اختلاف الذنوب في مقدار العقاب.

ب) وثانيا ينافي ذلك قوله تعالى ﴿وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون‌﴾ فمن هذا العبد حتى يهتك حرمة الله سبحانه وتعالى، ما قيمة هذا العبد حتى يهتك حرمته تعالى بمخالفته لأمره ونهيه؟

[الجواب على ما ذكره السيّد السيستاني=]

ولكن الظاهر أنّ خطاب النهي الصادر من المولي لا يختلف مفهوماً عن الخطاب الذي يصدر من غيره، فنحن:

1). [أولاً]: لا نحسّ حسب وجداننا العرفي في فهم الوعيد من العقاب في خطاب النهي الصادر من المولى.

فترى أنّ الوالد ينهى ولده عن شيء والولد لا يفهم أنّه صدر من الوالد الوعيد بالعقاب، فقد يكون الوالد حنوناً لا يعاقب ولده أبداً ولكن يصدر منه النهي المولوي.

وهكذا نحن حينما ننهى المرتكب للمنكر عن المنكر، فننهاه عن ذلك نهياً ولائياً لا نهياً استدعاياً، وقد قال تعالى ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر﴾ فنحن ننشىء زجر المرتكب للمنكر عن ذلك المنكر، وقطعاً لا يستفاد منه الوعيد بالعقاب.

2) وثانياً: لا نفهم وجه إنكاره = لاختلاف مقدار العقاب بالنسبة إلى المعاصي فيما إذا كان الوعيد بالعقاب ناشئاً عن ربط الشخصية؛ فشدّة كراهة المولى لمعصيةٍ تجعل تلك المعصية هتكاً أكبر لحرمة المولى، بينما أنّ المعصيّة التي تكون أخفّ منها لضعف[لتخفيف] شرائط المولى لها تكون هتكاً لحرمة المولى بأقلّ من ذلك. وهذا يوجب اختلاف العقاب بالنسبة للمعاصي لاختلاف المعاصي شدّةً وضعفا.

3) وثالثا: ليس معنى هتك حرمته تعالى هتك الحرمة عرفاً، إساءة الأدب للمولى. هتك الفاسق قد لا يهين الله سبحانه وتعالى ودائما يقول يا ربي اغفر لي أنا مبتلى بالذنوب، لكنّه يهتك حرمة المولى عقلاً ويظلمه عقلاً؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى خالق العباد، وله حق الطاعة عليهم، حتى لو لم يتوّعد الله على معصيته لوجب على أن لا يعصى كما ورد في الحديث الشريف، لو علمنا أن الله سبحانه وتعالى لا يعاقبنا، مع ذلك ما دام لم يرّخص لنا في ارتكابه فالعقل يمنعنا عن ارتكابه حفظاً لحق المولى، فمولويته ذاتيّة والعقل يحكم بلزوم طاعته، فمن لا يُطيعه فقد ضيّع هذا الحق العقلي للمولى سبحانه وتعالى.

وهذا هو المقصود من كون العصيان ظلماً بالنسبة إليه تعالى، أي ظلم عقليّ وتضييع لحقه. وقوله تعالى ﴿وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون﴾ ظاهر في أنّهم لم يُضرّوا بنا، ما يصدر منهم من عصيان يُلحق الضرر بأنفسهم ولا يلحق ضررا بنا، هذا هو الظاهر من الآية الشريفة. وإلّا فما دام العقل يحكم بلزوم طاعته سبحانه وتعالى فمن يعصيه فقد ضيّع هذا الحق الإلهي، وهذا هو المقصود من الظلم وهتك حرمة المولى، لا أنّ من يعصي الله سبحانه وتعالى فقد أهانه وهتك حرمته بالمعنى العرفيّ.

فالإنصاف أنّ نقطة ظهور خطاب النهي بالحرمة لا تختصّ بنهي المولى، وإنّما تنشأ من ظهور خطاب النهي في عدم الترخيص بالارتكاب كما بيّناه سابقاً.

الجهة الثالثة:

ورد في الروايات تعابير مختلفة عن المناهي، فقد وردت كلمة النهي كقوله|: "أنهاكم عن الزفن –أي الرقص، وطىء الأرض بالرجل كما فُسر بكتب اللغة- والمزمار والكوبات والكوبرات"، وكثيراً ما تكون المناهي مستفادة من صيغة النهي، وقد تُستفاد من كلمة "الحرام" و"لا يحل" و"يكره" و"لا ينبغي" و"لا يصلح"، فينبغي أن نتكلم حول هذه العبارات:

[كلمة الحرام]

أمّا كلمة الحرام فلا إشكال في ظهورها في الحرمة المقابلة للكراهة، لكن هل هذا التعبير صريح في الحرمة، أو في مقام الجمع العرفي مع دليل الإباحة يمكن حمل الحرام على المكروه الجديد؟

نقل السيد الحكيم في مستمسكه بأنّهم قالوا بأنّ الحرام ليس نصّاً في الحرمة بل ظاهر فيها وعند الجمع العرفي يمكن حمل الحرام على المكروه الشديد، وهذا ماذكره السيّد الخوئي قدس سره أيضاً في بحث الآذان والإقامة؛ حيث ورد في صحيحة زرارة "إذا أُقيمت الصلاة حرُمَ الكلام على الإمام وأهل المسجد" وورد في رواية عبيد الله بن زرارة: "سألت أبي عبد الله عليه السلام: أيتكلم الرجل بعدما تقام الصلاة؟ قال: لا بأس" فقال في المستمسك أنّ المشهور حملوا الحرمة في صحيحة زرارة بقرينة رواية عبيد الله بن زرارة على الكراهة الشديدة. واختار السيد البروجردي والسيد الداماد والسيد الخوانساري ذلك كما ذكره السيّد الخوئي في الجزء الثالث عشر، صفحة 354 من الموسوعة.

ولكن الظاهر أنّ الوجدان العرفي يأبي عن قبول هذا الجمع، إذا ورد في خطاب: هذا حرام وورد في خطاب آخر "لا بأس به" فيراهما العرف متعارضين بالتعارض المستّقر، هذا لا يعني أنّ استعمال الحرام في المكروه غلط لا، حمل الحرام على المكروه الشديد ليس جمعاً عرفياً.

أمّا لفظ المكروه؛ ففيه ثلاثة أقوال:

1. القول الأول: ما اختاره السيّد الخوئي والسيد السيستاني: من ظهور كلمة الكراهة في الحرمة.

ذكر السيّد الخوئي أنّ الكراهة حسب اللغة بمعنى المبغوضيّة، كرهه أي أبغضه، فالكراهة تدلّ على منشأ الحرمة، وهو البغض.

كما ذكر السيّد السيستاني أنّ استعمال الكراهة في مقابل الحرمة استعمالٌ حديث، مصطلح حديث وفي زمان الأئمّة عليهم السلام كانوا يستعملون المكروه في الحرام، واستشهد على ذلك بصحيحة سيف التمّار: عن أبي عبد الله عليه السلام: إنّ علياً كان يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر لأنّ تمر المدينة أدونهما، ولم يكن عليّ × يكره الحلال.

التمر الجيّد إذا عُوّضَ بتمرٍ رديء، طبعاً لا يوجد شخصٌ يبيع تمره الجيّد، كيلو تمر جيّد بكيلو تمر رديء الذي قيمته أقلّ منه، وإذا أراد أن يبيع تمره الجيّد كيلو جيّد بـ 2 كيلو من التمر الرديء فهذا يصير ربا معاوضي وحرام، يقول الإمام × تبديل وسق من وسق المدينة بوسقين من وسق المدينة تبديل معاوضي وحرام: كان علي يكره ذلك ولم يكن علي يكره الحلال.

القول الثاني: ما اختاره السيّد الداماد من دلالة كلمة الكراهة على الكراهة الاصطلاحيّة؛ فقال: في عصر الإمام الباقر × والأئمّة المتأخرين^ عنه صار عند العامّة اصطلاح، يجعلون المكروه في قبال الحرام، فأوجب ذلك ظهور الروايات الصادرة من الصادقين‘ حينما قال الإمام الباقر أو قال الصادق أو إمام بعدهما ^ هذا مكروه يعني هذا ليس بحرام.

القول الثالث: هو الإجمال.

ونتكلم حول ذلك في الليلة القادمة إن شاء الله.