بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/05/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:النواهي (المراد من صيغة النهي ومادته)

كان الكلام في الأقوال حول معنى كلمة النهي وصيغة النهي:

1.القول الأول: كان هو أنّ معناهما كفّ النفس عن الفعل، وقد أشكلنا عليه.

2. القول الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية وفاقاً للمشهور قبله، من أنّ مفادهما طلب ترك الفعل.

وأُورد عليه عدّة إيرادات، ذكرنا إيرادين وأشكلنا عليهما ووصلنا إلى:

الإيراد الثالث: على القول الثاني؛ وهو ما ذكره في البحوث في خصوص صيغة النهي، فقال:

لا يمكن أن يكون معنى صيغى النهي كقوله لا تفعل طلب ترك الفعل، أو مثلاً يكون معنى لا تصلِّ طلب ترك الصلاة؛ لأنّه إن أُريد من ذلك:

أ. كون المادة في قولنا لا تصلِّ مستعملةً في معنى الترك بأن يكون لفظ الصلاة مستعملاً في ترك الصلاة مجازاً، فهذا خلاف الوجدان بلا ريب وإشكال.

ب. فينحصر أن يكون طلب الترك مستفاداً من هيئة لا تصلِّ، وهذا غير عرفي بل مخالف للأوضاع اللغويّة؛ لأنّ الهيئة تدلّ على معنى حرفيّ نسبيّ.

مثلاً: هيئة الأمر تدلّ على النسبة البعثيّة، فقولنا لا تصلِّ، هذه الهيئة لا بدّ أن تدلّ على معنىً حرفيّ نسبي، والترك مفهوم اسميّ لا بدّ أن يقع بنفسه طرفا للنسبة، ونحن لا نعهد حرفاً أو هيئةً تدلّ على المعنى النسبيّ وطرفه معاً، مضافاً إلى أنّه لو كان مفاد هئية لا تصلِّ الترك المنسوب إلى المادّة أي الصلاة فنحتاج إلى إضافةٍ بين مفهوم الترك ومفهوم الصلاة، فما هو الدالّ على هذه الإضافة؟ فهل نفس هيئة لا تصلِّ تدلّ على الطلب، أي النسبة الطلبية وطرفها وهو الترك ونسبية بين الترك والصلاة؟ هذا مما يخالفه الوجدان اللغوي. فإذا لا يصحّ أن ندّعي أنّ هيئة لا تصلّ تدلّ على طلب الترك كما لم يصح أن ندّعي أنّ مادة النهي أي الصلاة تدلّ على ترك الصلاة.

[جواب الإيراد]

نحن يمكننا أن نجيب عن هذا الإيراد فنقول: أي مانع عرفي أن توضع هيئة لإنشاء طلب ترك الفعل، توضع هيئة النهي لإنشاء طلب ترك الفعل، والشاهد على ذلك:

1. صيغة النفي "لا يصلِّ"؛ فهذه الصيغة أي صيغة النفي تدلّ على عدم تحقق الفعل، وهكذا أداة الاستفهام "هل زيدٌ قائم؟" وضعت لإنشاء الاستفهام.

2.والشاهد الآخر: أنّه توجد ألفاظٌ تدلّ أكثر من معنى المادّة والنسبة:

أ."اللابن" بمعنى بائع اللبن، فمن أين جاء البيع؟ المادة هي اللبن واستعمال المادّة في بيع اللبن خلاف الوجدان اللغوي، هكذا يُدّعى، وهيئة اللابن إذا أريد أن تدلّ على البيع فيأتي نفس إشكال البحوث عليه.

ب."التامر" بمعنى بائع التمر.

ج."قشّرته" المادّة فيه ماذا؟ القشر، ولكن قشّرته بمعنى سلبت قشره.

د."أشكيته"، بمعنى أزلت شكواه.

فلا مانع من أن تدلّ الهيئة على إنشاء معنىً إسمي، فهيئة النهي تدلّ على إنشاء طلب الترك، إنشاء طلب ترك المادة، "لا تصلّ" تدل على إنشاء طلب ترك الصلاة، هذا لا مانع منه أبداً.

والفرق بين هذه الصيغة ومفهوم طلب الترك، أنّ مفهوم طلب الترك لا يدلّ على إنشاء هذا الشيء بخلاف مفاد صيغة النهي، مفاد صيغة النهي إنشاء طلب الترك، إيجاده في عالم الإنشاء.

فإذاً لم يتم أيّ من الإيرادات الثلاث على القول الثاني.

نعم، الإنصاف: أنّ المعنى الاستعمالي لصيغة النهي حسب الوجدان اللغوي ليس هو طلب الترك، لا تفعل ظاهره ليس هو طلب شيء، بحسب مدلوله الاستعمالي، وإنّما هو بمعنى الزجر عن الفعل، الزجر الإنشائي كما سيأتي توضيحه.

3.القول الثالث: ما اختاره السيد الخوئي + من أنّ مفاد كلمة النهي وصيغة النهي اعتبار، أو فقل على الأصح: ابراز اعتبار محروميّة المخاطب من الفعل، المحروميّة على قسمين:

1). المحروميّة التكوينيّة: كما في قوله تعالى نقلاً عن أهل الجنّة حيث طلب منهم أهل النار أن يفيضوا عليهم مما أفاض الله ﴿أَفيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرينَ﴾[1] هذا تحريم تكويني، ﴿وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ‌ مِنْ قَبْل﴾[2] تحريم تكويني، هذا لا يستعمل في كلمة النهي ولا صيغة النهي.

ب). القسم الثاني من المحرومية المحروميّة الاعتباريّة: وهذا مما يستخدم فيه النهي، فحينما يقول المولى لعبده لا تفعل كذا يعني هذا إبراز اعتبار محروميّة العبد عن هذا الفعل. فإنّ السيد الخوئي يرى أنّ صيغة الأمر ومادة الأمر تدلّان على إبراز اعتبار الفعل على ذمّة المكلّف؛ "صلّ": إبراز لاعتبار الصلاة على ذمة المكلف، "لا تصلِّ" إبراز لاعتبار محروميّة المكلّف من الصلاة.

[الإيراد على هذا القول]

هذا القول غير متّجه؛ فإنّه خلاف ما نحسّه بالوجدان اللغوي والعرفي من كلمة النهي، وصيغة النهي أو النهي بإشارة اليد، حينما يشير المولى بيده إلى عبده أن لا تخرج من البيت، فهذا يعني أنّه ينشىء زجره عن ذلك، لا أنّه يبرز اعتبار محروميته عن ذلك، ونذكر لذلك شاهدين:

أ). الشاهد الأول: الوجدان العرفي يشهد بعدم اختلاف المدلول الاستعمالي بين النهي الصادر عن المولى والنهي الصادر عن غيره:

- كنهي الطبيب، يقول لمريض: "لا تأكل التُرشي [الحامض]" ولا شك أنّ الطبيب لا يعتبر أنّ هذا المريض محروماً من أكل التُرشي، لأنّه بصدد الإرشاد أنّ أكل الترشي مضرّاً بحاله، والوجدان العرفي يشهد بأنّه لا فرق بين مفاد لا تأكل الترشي الصادر من الطبيب وبين لا تأكل الترشي الصادر من الوالد بالنسبة لولده، فالمستفاد من كليهما واحد وإن كان الداعي لنهي الطبيب الإرشاد إلى مضريّة الفعل، وداعي نهي الوالد زجر الولد، الزجر المولوي له عن الفعل.

- وهكذا حينما نخاطب الله سبحانه وتعالى فنقول: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا﴾[3] المستفاد من هذا النهي لا يختلف عن النهي الصادر من المولى لعبده.

- وهكذا النهي الصادر من مساوٍ إلى مساوٍ آخر، أو النهي الموجّه إلى غير الإنسان، راكب الدابة يخاطب دابته، يقول لها "لا تمشِ"، فهل يعتبر في ذمة هذ الدابة المحرومية عن المشي، [ثمّ] رأساً يقول لولده أيضاً :لا تمشِ"، لا فرق بين مدلوليهما الاستعمالي.

وهذا يكشف أنّ المدلول الاستعمالي لخطاب النهي حتى لو كان صادراً من المولى ليس هو إبراز اعتبار محروميّة المكلّف من الفعل، ودعوى السيّد الخوئي الاشتراك اللفظي بين هذه الموارد خلاف الوجدان، السيد الخوئي يدعي أنّ المعنى الموضوع له لصيغة النهي يختلف في هذه الموارد، هذا خلاف الوجدان العرفي.

ب). الشاهد الثاني: في الكراهة يستعمل النهي، فهل النهي في المكروهات إبراز لاعتبار محروميّة المكلف عن الفعل المكروه، هذا عرفاً لا يجتمع مع ترخيصه في الفعل.

والمهم أنّ دعوى كون صيغة النهي ومادته إبراز اعتبار محروميّة المكلّف عن الفعل خلاف الوجدان العرفي.

4.القول الرابع: وهو الصحيح أنّ مفاد كلمة النهي وصيغة النهي إنشاء زجر المكلّف عن الفعل.

الزجر تارة يكون زجراً تكوينياً، يمسك بلجام دابته فيلجمها عن المشي، هذا زجر تكويني، لا يقال نهى دابته عن المشي، حينما يمسك بلجام دابته حتى لا تمشي دابته لا يقال نهاها عن المشي. والقسم الثاني الزجر الإنشائي وهو مفاد صيغة النهي ومادته، وهذا هو الموافق للوجدان اللغوي.

[إشكال وجوابه]

السيد الخوئي أشكل على هذا القول الرابع بأنّ الزجر في طول استعمال النهي في معناه، يعني حينما المولى يستعمل خطاب النهي في مدلوله ومعناه ويبرز ذلك، بعد ذلك يقول الناس زجر المولى عبده، بعدما صدر منه خطاب النهي، فليس مفاد خطاب النهي الزجر، بل الزجر عنوان ينطبق على صدور خطاب النهي من المولى، كما ذكر ذلك بالنسبة إلى الأمر، فقال: طلب الفعل لا ينطبق على معنى الأمر وإنّما ينطبق على نفس صدور خطاب الأمر من المولى، بعد ذلك يقول الناس طلب المولى من عبده كذا، فلا يمكن تحديد المعنى الاستعمال للنهي أو الأمر بذلك.

نقول: نعم، بعدما صدر النهي من المولى يقول الناس زجر عبده عن كذا ولكن هذا لا ينافي أن المستعمل فيه في كلمة النهي هو إنشاء الزجر، كما لو قال المولى لعبده أزجرك عن كذا، يستعمل هذه الكلمة ولا ينافي أنّه بعدما قال أزجرك عن كذا أنّه زجر عبده عن كذا، فالمستعمل فيه إنشاء الزجر، وينطبق الزجر ويسند الزجر إلى المولى بعدما صدر منه خطاب النهي.

فهذا القول الرابع هو الصحيح، ولا ينافي أنّ روح النهي والذي هو في نفس المولى هو تعلّق الغرض اللزومي للمولى بترك الفعل. هذا تمام الكلام في معنى كلمة النهي وصيغته، يقع الكلام في الجهة الثانية غدا إن شاء الله


[1] اعراف/سوره7، آیه50.
[2] قصص/سوره28، آیه12.
[3] بقره/سوره2، آیه286.