بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

43/05/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: النواهي (المراد من صيغة النهي ومادته)

 

يقع الكلام في بحث النواهي في عدّة جهات:

الجهة الأولى: في معنى كلمة النهي وكذا صيغة النهي

 

فإنّه في معنى كلمة النهي وصيغة النهي هناك أربعة أقوال:

القول الأول: ما نقل عن جماعة من القدماء، من كونه: طلب كف النفس عن الفعل، ولكنّه واضح البطلان؛ إذ لا يستفاد من النهي أكثر من لزوم ترك الفعل، وإن لم يكن ترك الفعل مستنداً إلى كفّ النفس، بل تركه لأجل أنّه لا يشتهيه.

ولعلّ منشأ هذا القول أنّهم رأوا أنّ الإرادة لا تتعلّق بالعدم، فلا بدّ أن يكون متعلّق الإرادة أمراً وجودياً، فعندما يُنهى عن فعلٍ فالمطلوب هو كفّ النفس عن هذا الفعل، ولكن سيأتي أنّ هذا البيان ليس صحيحاً.

القول الثاني: ما اختاره صاحب الكفاية وفاقاً للمشهور إلى زمانه، من أنّ معنى كلمة النهي "أنهاكم عن الزفن والمزمار والكوبات والكوبرات" كلمة النهي، معنى كلمة النهي طلب ترك الفعل، كما أنّ معنى صيغة النهي هو ذلك.

وقد أُورد على هذا القول الثاني عدّة إيرادات:

1.الإيراد الأول: ما ذكره المحقق الإيرواني + من أنّ الإرادّة لا يمكن أن تتعلّق بالترك؛ لاستحالة تأثير الوجود في العدم. فكأنّه يقول طلب ترك الفعل أنّ إرادة المولى تعلّقت بعدم الفعل، عدم الفعل وهمٌ محض لا وجود له، فكيف تؤثّر فيه إرادة المولى. إرادة المولى لا بدّ من أنّ تؤثّر في نفس العبد، يعني تحدث بسبب الإرادة شيء في نفس العبد، وعدم الفعل لا وجود، له فكيف يكون معلولاً تشريعياً لإرادة المولى.

وقد ذكر السيّد الخميني + نظيرْ، فقال: لا يعقل أن يكون مفاد كلمة النهي طلب الترك، لأنّ الترك يعني عدم الفعل، والترك عدم محض فلا تقوم به المصلحة، المصلحة لا بدّ أن تقوم بشيء موجود، فإذا لم تقم مصلحةٌ بترك الفعل فكيف تتعلّق إرادة المولى بترك الفعل؟

هذا الإيراد غير متّجه:

أولاً: أيّ مانع من أن تكون مفسدة الفعل موجبةً لتعلّق إرادة المولى بترك العبد للفعل بعد أن كان ترك العبد للفعل أمراً اختيارياً؛ لأنّ الاختيار يعني إن شاء فعل وإن شاء ترك. فحينما يرى المولى في الكذب مفسدة فيريد من العبد أن يترك الكذب، فمفسدة الكذب توجب انقداح إرادة المولى لأن يترك الكذب.

والإرادة التشريعيّة للمولى ليست أسوأ حالاً من الإرادة التكوينيّة للإنسان؛ أنت عندما ترى في الكذب مفسدة فتعزم على أن تترك الكذب. فالإرادة التكوينيّة بمعنى العزم على شيءٍ، ليست الإرادة التكوينيّة دائماً بمعنى الشوق إلى وجود شيء أو صرف القدرة لإيجاد شيء حتى تتعلّق الإرادة بأمر وجودي، بل قد تكون الإرادة التكوينيّة بمعنى عزم الإنسان على شيء، فقد يعزم على فعل شيء وقد يعزم على ترك شيء لأجل مفسدة في فعله، وقد يتردد، الآن ليس مريداً لفعل شيء وليس مريداً لتركه، فهنا ثلاث إرادات: إرادة الفعل وإرادة الترك واللإرادة، لا للفعل ولا للترك.

فإرادة الإنسان التكوينيّة يمكن أن تتعلّق بالترك بمعنى العزم على الترك، وليست الإرادة التشريعيّة للمولى بأسوأ منها، فالإرادة التشريعيّة للمولى بمعنى تعلّق غرض المولى بأن لا يفعل العبد هذا القبيح، الإرادة التشريعيّة للمولى تعني تعلّق غرضه اللزومي بأن يترك العبد في المحرّمات العمل المحرّم.

فنحن ندّعي:

أنّ روح النهي؛ أي ما يوجد في نفس المولى هو إرادة الترك، يعني إرادة المولى تتعلّق بترك عبد لفعلٍ يعني أنّ غرضه اللزوم تعلّق بترك العبد لهذا الفعل، هذا هو روح النهي وهذا ما يعبّر عنه بطلب الترك.

فالإشكال الأول على المحقق الإيرواني والسيد الخميني ‚: أنّه أولاً: لا مانع من أن تكون مفسدة الفعل موجبةً بتعلّق إرادة المولى أي غرضه اللزوميّ بترك العبد لهذا الفعل، كما أنّ هذه المفسدة للفعل إرادة العبد نفسه كإرادة تكوينيّة أي عزمه على ترك الفعل.

وثانياً: المصلحة التكوينيّة لا يمكن أن تتعلّق بالعدم ولكن لا تختص الإرادة بالمصلحة التكوينيّة؛ فهناك الكثير من المصالح الاعتبارية الاجتماعيّة.

المولى يرى: أنّ في ترك المعممين للبس الملابس الفاخرة مصلحة اجتماعيّة؛ يوجب ذلك رغبة الناس في الدين، ترك سكن المعممين في بيوت فاخرة، فيه مصلحة اجتماعية؛ يوجب ذلك رغبة الناس إلى الدين، فلا مانع من قيام المصالح الاعتبارية والاجتماعية بالعدم.

فهذا الإيراد على قول صاحب الكفاية غير متّجه.

2.الإيراد الثاني: ما ذكره السيد الخوئي&، حيث قال: لا يمكن أن يكون مدلول النهي طلب الترك؛ لماذا؟ لأنّه على مسلك العدليّة الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها؛ فالنهي عن شيء لا بدّ أن ينشأ عن مفسدة في ذلك الشيء، ومفسدة ذلك الشيء هي التي تدعو المولى إلى تحريمه والنهي عنه ولا ينشأ النهي عن مصلحة في الترك حتى هذه المصلحة في الترك تدعو المولى إلى طلب الترك، السيد الخوئي لا ينكر أنه قد تقوم المصلحة بالترك، كتروكات الإحرام. يقول السيد الخوئي التعبير بتروكات الإحرام فيه مسامحة، لا بدّ أن نقول واجبات الإحرام، ما هي واجبات الإحرام؟ ترك لبس المخيط، ترك الجماع ونحو ذلك. يمكن أن تقوم المصلحة في الترك، ولكن في النهي فالنهي ينشأ عن مفسدة في الفعل، ومفسدة الفعل لا يمكن أن تدعو إلى طلب الترك وإنّما تدعو إلى النهي عن الفعل، وسيأتي أنّ السيد الخوئي يرى أنّ النهي اعتبار محروميّة المكلف عن الفعل لأجل مفسدّة في الفعل.

والجواب عن هذا الإيراد أيضاً واضحٌ؛ لأنّه لا مانع من أن تكون مفسدة الفعل هي التي توجب انقداح إرادة المولى بترك الفعل؛ ولا نعني من إرادته أنّه تعالى يعزم على ترك الفعل؛ أنّه تعالى يصرف إرادته في ترك الفعل ، أبداً. نفسّر إرادة المولى بفعل العبد أو ترك العبد أنّه تعلّق غرضه اللزومي بفعل العبد لفعل فيأمر به أو بترك عبد لفعل فينهى عن ذلك الفعل، ولو لأجل مفسدةٍ في الفعل.

فلا وجه للمنع عن كون مفسدة الفعل موجبة لتعلّق إرادة المولى بترك العبد للفعل، بمعنى تعلّق غرضه اللزومي بأن يترك العبد هذا الفعل.

إن قلت: لماذا لا تفسّر روح النهي بكراهة المولى لفعل العبد، بغض المولى لفعل البعد؟

فأقول في الجواب قد ينهى المولى عن شيءٍ ولا يكرهه، كما قد يأمر بشيء ولا يشتاق إليه، كيف يكون ذلك؟

في المولى العرفي يمكن أن نمثّل في مولى لا يكره أبداً فعلاً؛ عالم مريض في المستشفى جاءت ممرضة تريد أن تلمس جسد هذا العالم بلا كفوف وهذا العالم إنسان بعد، يتلذذ من ذلك، إذا كره ذلك فهو يعاني أمراض نفسيّة، ولكن يخاف من الله، يقول لها: لا تلمسي جسدي، لا تضعي يدك على جسدي، حرام. فلو امتنعت المممرّضة عن قبول هذا العالم فلعلّ هذا العالم يفرح، جاءت إليه لذّة محلّلة، مثلما ذكر السيد الخوئي لمّا كان في الكوفة وكان يصل إليه صوت الأغاني التي كان يستمعها الشباب في الشارع، قال أغنية حلال، كيف؟ قال هذا سماع وليس استماع، نسمع الأغنية ولا نستمعها، هذا العالم يقول أنا نهيتها عن ارتكاب المنكر، نهاها عن لمس جسده مع أنّه لا يكره ذلك. وقد يأمر المولى بشيء ولا يشتاق إليه، كما في مورد دفع الأفسد بالفاسد: شخص وقع من سطح تراه إما أن يقع على صديقك فيجرحه أو يقع على ولدك فيجرحه، فتقول له: حاول أن تقع على هذا الصديق، لأنّ حبي لولدي أكثر، مع أنك لا تشتاق إلى انجراح صديقك أبدا ولكنك دفعت الأفسد –انجراح ولدك- بالفاسد –أي الأخف بغضاً منه- فدفعت الأفسد بالفاسد، فأمرته أن يقع على صديقك وأنت لا تحب ذلك.

فروح الأمر والنهي ليس هي الشوق ولا البغض، فليس روح النهي إلّا تعلّق غرض المولى بترك العبد لفعلٍ، فما ذكره صاحب الكفايّة لا يرد عليه هذان الإيرادان.

بل ندّعي: أنّ روح النهي هو طلب الترك؛ بمعنى تعلّق غرض المولى بالترك. نعم، نخالف صاحب الكفاية في مفاد كلمة النهي؛ المدلول الاستعمالي لكلمة النهي لا يلزم أن يطابق كلمة النهي، فالمدلول الاستعمالي لكلمة النهي هو إنشاء الزجر عن الفعل كما سيأتي توضيحه غداً إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.