46/03/18
الموضوع: جدلية الفارق بين الشفاعة والشرك
كنا قد وصلنا إلى آية الكرسي في سورة البقرة الآية 255 ، ﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ...﴾
والشفاعة كما مر بنا تختلف سنخا عن الشرك ، فالشرك نمط والشفاعة نمط آخر ، وهناك من يخلط بينهما بأن يجعل الشفاعة شرك سواء من المعادين لحجج الله مثل إبليس الذي عادى آدم فيخلط بين الشفيع والشريك أو من في قلبه مرض تجاه سيد الأنبياء وتجاه أهل البيت يعبر عنه القرآن بمرض القلب ، حيث ملف عظيم في القرآن مسمى بمرض القلب أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم فمرض القلب الذي يعنيه القرآن هو الضغينة والبغض لمن أمر الله بمودتهم .
فالمقصود أن المعادين لأنبياء الله وأوصيائه ولمن أمر الله بمودتهم يخلطون بين الشفيع والشريك حيث الشفيع هو طريق و وسيلة ، وهذا من الترادف العقلي .
ربما يتساءل ما معنى الترادف العقلي وهل له منشأ في الوحي أم لا ؟
نعم له منشأ الترادف العقلي يعني وحدة المعنى ، ألم يصطلح علماء المسلمين قاطبة على التواتر المعنوي ؟ يعني المعنى متحد ، طبعا اتحاد المعنى درجات كما في الاستفاضة المعنوية حيث عندنا استفاضة لفظية واستفاضة معنوية والمعنوية درجات كما أن التواتر اللفظي والتواتر المعنوي درجات وأنواع التواتر المعنوي لا يدركه إلا الفقيه وبعض أنواع التواتر والاستفاضة المعنوية لا يدركه الفقهاء وإنما يدركه رواد وأساطين الفقهاء أو أساطين علم الكلام أو المفسرين وفوق كل ذي علم عليم .
فدعوى أن الأفهام على مستوى واحد وإلا فلا حجية هذا مناقض لمبدأ فوق كل ذي علم عليم ومبدأ الأعلمية ، فما معنى لزوم تقليد الأعلم في باب الإجتهاد والتقليد؟ يعني مستوى فهم الاعلم يختلف عن بقية الفقهاء ، فإذا قلنا أنه من تفرد بإدراك معاني من الأدلة فليست بحجة لأن بقية الفقهاء لا يدركوها فهذا غير صحيح لان هذا هو معنى الأعلم فمستويات الفهم للدين بالموازين ليست على درجة واحدة وإنما على درجات فمجتهد متجزئ ومجتهد مطلق وفقيه أو محقق أو أعلم .
فالعلم درجات كما يقول سيد الأنبياء في حجة الوداع في روايات الفريقين رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، فإذا تريد أن تسد هذا الباب إذا أنت مسلكك سد باب العلم والإجتهاد فليست القدرات الذهنية واحدة ، ربما الأعلم يطرح أدلة واستدلال ولكن معاصريه لا يصدقون ولا يذعنون لهذه الأدلة فهذا أمر على قدم وساق .
إذن فرق بين الشفيع والشريك فرق بين الوسيلة وبين الشريك فهناك فرق عقلي لابد من الالتفات إليه ففرق بين الولي والشريك الكلام الكلام وفرق بين عين الله ويد الله وجنب الله و وجه الله ولسان الله ويد الله وبين الشريك فهذه التعابير هي نفسها لسان الشفيع وهذا ناموس معرفي في باب الوحي ومن لا يفرق بين التوسل بالشفيع وبين الشريك فهو في تيه وضلال.
نعم هذه الوسيلة إن لم تكن بإذن الله فهو الشرك من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وبصراحة مبحث الشفاعة والوسيلة والتوسل والاستعاثة واللواذ تعرض له الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه منهج الرشاد لمن أراد السداد فهو يذكر ثمانية أبواب: استغاثة، استعاذة، تبرك، توسل، توجه، استقبال وربما أكثر. فيقول: حقيقة هذه الأبواب مشترك معنوي. يعني ترادف عقلي.
فهذه الإصطلاحات تفهم نتيجة التضلع في دراسة المقدمات والمطول والمغني والبلاغة والمنطق فيقول كاشف الغطاء هذه الابواب الثمانية التي استشكل فيها الوهابية وقبلهم إبليس هي السقيفة أخرى سقيفة عقائدية ونفس هذه السقيفة موجودة عند الوهابية سقيفة فكرية وموجودة عند كثير من الصوفية أو عند العرفاء أو حتى عند من يتلكأ في التوسل وفي الاستغاثة يقول كيف تقول يا محمد يا علي يا علي يا محمد انصراني فإنكما ناصران واكفياني فإنكما كافيان اذ النصر من عند الله .
نقول له لماذا تقتصر؟ اقرأ إن تنصروا الله ينصركم فحين يسند النصر إلى الله يسنده إلى المخلوق كما عندنا وينصرك بالمؤمنين أو يؤيدك بالمؤمنين ، نعم المصدر الأصلي للنصر هو الله لكن الله يجري هذا النصر على أيدي المؤمنين قاتلهم الله بأيديكم أو يقتلهم بأيديكم فالله جعل مجاري أفعاله على أيدي مخلوقاته قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فالرمي والتعذيب والنصر لا تؤمن به بشكل طولي هذا لا ينافي التوحيد المصدر الأساس هو الله لكن الله يجري ذلك بأيديكم .
المهم الشيخ جعفر كاشف الغطاء يقول هذا البحث بمعانيه الدقيقة تلكأ فيه أكابر العرفاء أو الصوفية فما يميز بين الشريك والشفيع . وأحد المؤاخدات على الصوفية هذه أو حتى بعض الفقهاء فلشفاعة مراتب منها جلية والشرك كذلك ولكن تصعد إلى مراتب خفية .
التمييز بين الشفاعة والشرك كيف هو ، الشرك فيه مراتب خفية وأخفى دائما مقولات الحق ومقولات الباطل ذات درجات درجات منها جلية ودرجات منها خفية وأخفى وقد صرح بذلك سيد الأنبياء في حديث معروف عند الفريقين الشرك في هذه الأمة كدبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء يعني ظلمة في ظلمة في ظلمة فيبين النبي أن التمييز بين مقالات ومعتقدات الحق عن معتقدات الباطل إذا كانت خفية يدق ذلك على العلماء فضلا عن عوام الناس .
فالشرك درجات والشفاعة درجات والجبر درجات والتفويض درجات وأمر بين أمرين درجات والغلو والتقصير درجات والتسليم درجات والشرك منه جلي واضح ومنه خفي ليس بواضح فكيف تميز بينه وبين الشفاعة ، فليس كل درجات الشرك بديهية أو مسلمة كما أن ليس كل درجات الشفاعة بديهية من يظن أن معتقدات الحق ومعتقدات الباطل كلها جلية في جلية هذه النظرة بليدة وهذا أساس مهم أشار له السيد اليزدي في العروة في مبحث الطهارة في الفرق بين درجات الشرك والجبر فيختلف فيه العلماء وينتقد بعضهم بعضها ، أيها جبر ؟ أيها تفويض ؟ أيها غلو ؟ أيها تسليم ؟ أيها تقصير ؟ ايها عناد ؟ فهي ذات درجات أنت تريد أن تدعي أن كل مساحات الشرك واضحة كلا هذه غير تام أو كل مساحة الشفاعة واضحة كلا أو كل مساحات التوحيد واضحة ؟ كلا أو كل مساحات الغلو واضحة لا ليست كذلك لأن بعض المساحات الواضحة متفق عليها أما المساحات المختلفة فمختلف فيها فليس كل شرك متفق عليه أنه شرك بعض يقصد بها شرك وبعض شفاعة والشفاعة أيضا كذلك بعض درجاتها جلية وبعضها خفية وكذلك الجبر .
جملة من شرح كتاب الكفاية يرون أن نظرية الاختيار عند الأخوند ليست اختيار وإنما جبر ولكن جبر خفي وليس جلي الإختيار قسم متفق عليه وقسم مختلف فيه البعض يقول هذا المعنى من الإختيار ليس إختيار هذا تفويض من الله والتمييز بين الإختيار وأمر بين أمرين والتفويض الباطل درجات ودرجاته الخفية أمر صعب مستصعب وعصي على الكبار من العلماء فضلا عن متوسطي العلم والغلو كذلك والتقصير كذلك .
عموما معتقدات الحق ومعتقدات الباطل هي درجات والدرجات منها الخفية والأخفى يتنازع فيها حتى أكابر العلماء إذن المساحة النظرية في تشخيص معارف الحق ومعارف الباطل فضلا عن الأخفى في الغموض صعب مستصعب على رواد العلم فضلا عن المتوسطي نعم لكل عالم ان يبدي برأيه ولكن فتوى لايجوز التقليد فيها وانما يجب أن تلم أنت انه ما هو الجبر وما هي درجاته ؟
فلك أن تراجع الاعلم لكن ليس معناه التقليد وإنما من باب الوقوف على رأيه ولا تقتصر عليه ولو كان أعلم زمانه بل يجب عليك أن تستقصي كلمات العلماء عبر عشرة قرون وتضم لها أدلة الوحي القرآن والسنة القطعية حتى لو كنت غير متخصص في العلوم الدينية ومن عموم المؤمنين ليس لك أن تقلد بل لازم أن تستعين بالعلماء ولا تكتفي بعالم واحد مهما كان بل تضم إلى هذا العالم قافلة العلماء وقافلة الأدلة وما يتضح لك تبني عليه وما لا يتضح لك تبقى في حالة فحص وتتبع بحسب ما يتسنى من وقت وتوفيق هذه هي الوظيفة في العقائد والمعارف .
فإذن مساحات الحق والباطل في المعارف والمعتقدات منها مساحات بديهية ومنها مساحات مختلف فيها أيضا حتى المساحات البديهية في معتقدات الحق بين العلماء أوسع منها بين عموم المؤمنين ومع ذلك بينهم مساحات مختلفة. الآن مثلاً الغلو بين متأخري الأعصار مئتين سنة الأخيرة مع قدماء الرواة اختلاف وبون شاسع في الغلو وفي الشرك وفي الجبر وفي التفويض. فالمؤمن العادي إذا يريد يشكل له نظرة ليس له أن يرجع إلى الأعلم بل ينفتح على جميع الأعلام في كل القرون.
مر بنا منع التقليد في أي مسألة دينية اعتقادية لا يعني الانقطاع عن العلماء بل يعني أنه لا يجزئك الاقتصار على عالم بل لابد أن تنفتح على العلماء ما أمكنك وزيادة على ذلك تنفتح على الروايات وعلى الآيات فإياك أن تصغي في الاعتقادات الى من ينهاك عن قراءة الروايات يعني يمنعك عن دينك نعم الأمور غير الواضحة في الروايات استعن بها بالعلماء وبمجموعهم بما أمكنك لا أنك تنقطع عن الروايات .
مر بنا ان قراءة الروايات لكل مكلف في العقائد ولو كان مستواه بسيط جدا واجب عيني وليس مستحب وكذلك قراءة القرآن لأنه وحي وهل الوحي يعطل ؟ وفي العقاد على المكلف وظيفتان وظيفة الانفتاح ما أمكنه على قافلة العلماء وأن ينفتح على الأدلة لا يكفي الانفتاح على العلماء كما لا يكفي الانفتاح على القرآن والسنة يجب أن يضم بينهما .
بل في كل ضروريات الدين كل مؤمن عليه أن يخصص يوما في الأسبوع يتفقه في الدين وهذا ليس مختص برجال الدين هذا وجوب عيني لأنه جانب عقائدي فيجتهد هل أفتوا العلماء بأن الاجتهاد في العقائد وجوب عيني؟ نعم كلهم افتوا بذلك هذا يقال عنه الاجتهاد بالاستعانة بالمتخصصين فأنا لست متخصص في الطب لكن لا يجزئني في عملية خطيرة أن أكتفي بأشهر الأطباء إذا طلعت نتائج العملية مهلكة سألام أو حاسب لا بد أن أجمع مجموع المتخصصين بقدر وسعي وألم معه ثقافات طبية واضحة وألم معه مجربين في الطب ، فمجموع الأدلة تصير ككوكتيل أدلة الثقافة التخصصية .
عندما يقال أن المؤمن والمكلف يجب عليه أن يجتهد ليس لأنه يصبح من المتخصصين وإنما يستعين بالمتخصصين وبالأدلة يضمهما معا للتكون لديه رؤية ولو بسيطة فهذا المستوى أعلى من التقليد في العقائد ، فالتقليد في العقائد غير مجزئ بأن يكتفي بكلام الأعلم أو الفقيه بينما الاجتهاد في العقائد ولو بهذا المستوى وهو مستوى الاجتهاد الثقافي تستطيع بالاستعانة بالمتخصصين وبالمعلومات يعني يجب ان يستحصل الثقافة.
افرض شخص يؤسس كهرباء في مؤسسة ضخمة هو غير متخصص. وليكن غير متخصص لكن اذا استعان بشخص مشهور في الكهرباء. وبعد ذلك طلع أن ذلك خطأ عنده فهذا يلام أنه لماذا لم تكتسب الثقافة الكهربائية؟ ولم ما تفحص عن كهربائيين متعددين كي تستمزج رؤية متوسطة مامونة؟ لذلك تستطيع أن تصطلح على هذا الاجتهاد بأنه اجتهاد ثقافي بالاستعانة بالمتخصصين والأدلة ، وهذا في كل التخصصات العقلائية .
كذلك في العقائد إذن عندما يقال لا يجزئ التقليد لا بد من الاجتهاد ليس المراد به أن يكون هو فحل من فحول المتخصصين وإنما من باب الاجتهاد الثقافي والاستعانة بمجموعة المتخصصين ومجموعة الأدلة بقدر ما يتسنى له حينئذ يكون معذورا أو يجزي ما عليه من المسؤولية فالمقصود التمييز بين الشفاعة والشرك درجات منه غامضة ومعقدة وللبحث تتمة.