الأستاذ الشيخ محمد السند
بحث الأصول

46/03/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: النواهي/ اجتماع الامر والنهي /بين الدقة العقلية والعرفية او التسامح في العنوانين

 

كان الكلام في ان مسألة اجتماع الامر والنهي ومجمع متعلق الامر ومتعلق النهي هل النزاع فيه صغروي او كبروي ومر ان الميرزا النائيني اصر على ان النزاع فيه صغروي يعني انه هل هناك اتحاد ومجمع وتصادق في متعلق الامر ومتعلق النهي او ليس هناك اتحاد بالدقة العقلية. ومر ان النزاع في الحقيقة صغروي وكبروي. كبروي يعني انه بناء على الاجتماع هل يستلزم التعارض او يستلزم التزاحم من نوع جديد وهو التزاحم الاقتضائي او الملاكي.

لتنقيح الكبروي مر بنا نقطة وهي ان تنقيح النزاع في المقام هل بحسب الدقة العرفية او الدقة العقلية او بحسب التسامح العرفي؟ هذا الترديد جار في كثير من الأبواب الأصولية او الفقهية او العلوم الدينية. بالتالي اين يحكم العرف وأين يحكم العقل؟ بحث طويل وعريض ولسنا في صدده الان وبحث حساس. الان في صدد خصوص الظهور بشكل فهرسي ان الظهور بما له من القوانين والمعادلات في العلوم اللغوية هو علم معادلي، نعم ان العرف حامل لهذا العلم ووعاء او يقال ان الادراك لهذه النتائج اما ادراك بالتحليل التفصيلي كما هو موجود في علوم اللغة او ادراك بالحدس. ان العرف يحكم هنا من باب الحدس لكن ليس هذا التحكيم بقول مطلق لان الادراكات العرفية مختلفة.

الشاهد على اختلاف الادراكات ما يجري منذ الجاهلية الى يومنا هذا وهو منتدى ومسابقات اللغوية في النثر والشعر وكثير من علوم اللغة من تحكيم الناقد الادبي وهذا مرسوم من أيام الجهاهلية الى الان بل في كل اللغات هكذا مما يدل على ان الناقد الادبي له قدرة للادراك التحليلي ما لا يدركه الاخرون. وهذا ما يبين ان الادراك العرفي للعلوم اللغوية ليس على مستوى واحد والا ما خصصوا الناقد الادبي دون غيره لقدرته الخاصة إما من جانب قدرته التحليلية او من جانب حدسه والادراك الإجمالي. فنفس أبناء اللغة متفاوتون في ادراك ظهورات المعاني وليسوا متساوين. وهذا ما يؤكد ان الادراك الحدسي متفاوت. لذلك ذكر المناطقة والفلاسفة ان حدس البشر متفاوت بحسب مخزون المعلومات الموجودة لنباهة الذهن كما ان قدرة التحليل متفاوتة. هذا مما يدل على ان الواقعية هي معادلات يختزنها العرف وليس المدار والمحكّم على العرف وهو متفاوت درجاته. من ثم في زمن الجاهلية في أيام الحج وايام منى منتديات شعرية تعقد في منى سوق عكاظ ويحكم فيه احد الناقدين في الادب بل هناك مسابقات بنفس الناقدين في قوتهم وضعفهم وفي كل اللغات هكذا.

المهم ان المحصل ان الادراك الحدسي يعبؤ به ولكن ليس هو الحكم الحاكم الحصري الوحيد كما ان صناعة التحليل والتركيب يأخذ بها بالشواهد والدلائل بالتالي هناك درجات وهنا أيضا درجات والقدرة المطلقة لدى الوحي. هذه نقطة في حكمية العرف في باب الظهورات.

دائما اذكر هذا المثال ان الزمخشري ادرك معنى ثاقب في آية المودة حسب كلام السيد عبد الحسين شرف الدين لم يدركه اكثر علماء الفريقين ومعنى جدا خطير واصلا الاية مركزيا في صدده وهو محور الآية وانظر أن محور الآية لم يدركه احد. بينما الفريقين يقولون ان مفاد الآية هو افتراض مودة الآية وطبعا هذه الفريضة من اعظم فرائض الدين رغم انوف من ينكرها من الفريقين. وهذا معنى ثاني وصحيح اصل افتراض المودة وان هذه المودة اعظم شيء في الدين بعد الله ورسوله ومعنى عظيم. لكن فيه معنى آخر اعظم من هذا معنى ثالث ادركه الزمخشري مع انه ليس من أبناء اللغة العربية والسيد شرف ملك علم البلاغة استخرجه من كلام الزمخشري. ان الزمخشري في الجانب التحليلي في المعاني كفوء وعظيم كما انه في كثير من الايات يذكر معاني يغفل عنها الكثير ربما يدركه العرف ارتكازا لكنهم لا ينتبهون اليها تفصيلا. هذه نقطة لطيفة فيه ادراك اجمالي من دون الادراك التفصيلي والالتفات التفصيلي. يمكن للإنسان ان يدرك شيئا اجمالا لكن لا يلتفت اليه تفصيلا. مما يدل على تنوع ادراكات الانسان وهذا الادراك الإجمالي على درجات. فيه ادراك اجمالي جدا مركز عند الانسان شبيه ما هو موجود في هارد دسك في الحاسوب وفي عساعسها وفيه ادراك اجمالي متوسط وادراك اجمالي قريب يعني ان الادراك الإجمالي على درجات ارتكازا.

الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي وجمهرة من متكلمي عمالقة الامامية اولوا عالم الذر والطينة والاشباح بسبب ان الانسان ما يتذكر ولو كان عالما حقيقيا لقد تذكره الانسان. اذا هذه الروايات المتواترة او الايات في العوالم السابقة تحمل على معنى آخر. ان مقتضيات الادراك اودعها الله عزوجل في الانسان لا بمعنى الادراك الإجمالي بل بمعنى قدرة الادراك. نفس هذا التأويل اوله ملا صدرا الى ان وصل النوبة الى العلامة طباطبايي بنفس التأويل ونفس الدليل والحال الان في علم الحديث في العلوم الإنسانية التفتوا الى ان درجات ادراك الانسان متعددة تفصيليا واجماليا.

من يتذكر من الاخوة انه قبل عشرة أيام ماذا أكل؟ ابدا ما يتذكر وفي الصغر ما جرى بكم؟ بعض المنعطفات يتذكره الانسان. اذا ما الثمرة على ان الله عزوجل اشهدهم على انفسهم بالشهادات الثلاث وحقيقة الإسلام؟ في عالم الذر الحقيقة ثلاثية وليس في يوم الغدير. وهو الإسلام الحقيقي كما صرح بذلك الفقهاء. نعم الإسلام الصوري للمنافقين الذي يترتب عليه احكام اهل الذمة فقط لا دخل له بالإسلام الحقيقي وا لولاية كما يترتب هذه الاحكام على اهل الذمة التي لا يشترط فيها حتى الشهادتان. لكن يترتب عليهم احكام الذمة. والا القرآن حرم على الرسول ان يصلي على احد منهم مات ابدا «ولا تقم على قبره» ولا تدعو له. احكام صورة للاسلام شبيهة باحكام اهل الذمة. وهذا لا يفتهمه الانسان الا بعد ان يتتبع كلمات الفقهاء ان تسعة اقسام من الإسلام عندهم بحسب الأدلة والنصوص. الحقيقية منها واحد والبقية اما اسلام تعايشي واما صوري او غيرها. الإسلام الحقيقي فيه الشهادات الثلاث. لا ان نقول ان الولاية كيف هي من الضروريات ولم تأخذ في الإسلام. في اسلام المنافقين لم تأخذ وهو حكمه حكم اهل الذمة. في الإسلام الواقعي تأخذ الولاية. كل احكام الإسلام الحقيقي انما ترتب على الإسلام الحقيقي لا الإسلام الصوري. كلامنا في التذكر والادراك.

فادراك الانسان درجات. فالانسان وان لم يتذكر العوالم السابقة لكنها موجودة في الارتكاز والعلم الارتكازي درجات وليس درجة واحدة. لا اريد ان ادخل في هذا البحث لكنه تفيد في نظرية المعرفة والعقائد. البديهيات من اين نستلمها؟ ليس بالفحص وليس بالدليل وليس بالتجربة كما يقولها العلمانيون ويكذبون. البديهيات لم نكتسبها بالتجربة ولا بالتعليم بل مخزونة لدينا في العوالم السابقة يسمونها علما جبليا او علما فطريا.

هذا شاهد على هذا البحث وهو بحث مهم في العقائد والأصول والعلوم الدينية وهو درجات الادراك الارتكازي لدى الانسان. حتى فيه فرق بين حقيقة قاعدة الفراغ والتجاوز اشترط النائيني ان يكون الانسان ملتفتا تفصيلا حين العمل ويعلم انه كان ملتفتا تفصيلا حينئذ تجري قاعدة الفراغ والتجاوز. حملوا كلمة الذكر في الروايات على الذكر التفصيلي. بينما المراد من الرواية كما ذكر الهمداني هو الذكر الارتكازي وليس الذكر التفصيلي فتجري حتى لو انت تعلم انك كنت ناسيا تفصيلا. لكنك مثل جاهز آلي رباط متحرك تبدأ الصلاة وما تدري بعد ما قلت وعند انتهاء الصلاة تتذكر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه يسمونها النية الارتكازية والعبادة الارتكازية. المهم هذا البحث في الادراك الارتكازي شغال وفعال في المباحث الفقهية والاصولية والكلامية والتفسيرية كثيرا وهي مرتبطة بمباحث نظرية المعرفة وكثير من الشبهات الموجودة في الوسط الداخلي والعلمانيين والماديين لعدم الالتفات الى ان الانسان طبيعة ادراكه درجات الادراك التفصيلي والادراك الإجمالي وكل منهما أيضا على درجات. بالضبط مثل ما في الحاسوب الذي هو صنع على تصميم الانسان نفسه. صفحة المكتب أيضا فيه درجات من التفصيل. فيه ملف فتحته وفيه ملف لم تفتحه وعلى وشك الفتح فدرجات التفصيل مختلفة. او في الهارد دسك فيه فولدرات كثيرة. فالارتكاز أيضا على درجات. وهذه تفيد في مباحث كثيرة. حتى بحث العمد درجات عمد الانسان. لاحظ في زيارة ابي عبد الله الحسين. «قتلوك بالعمد المعتمد» يعني درجات متضاعفة من العمد. اذا العمد على درجات والإرادة التفصيلية على درجات والادراك على درجات. هذا مبحث انساني مرتبط بوظائفه ومرتبط بعلم الاخلاف والرياضات الروحية وغيرها من العلوم.

اذا الصحيح في تحكيم العرف والعقل انه في تطبيق الاحكام انه ما لم يأتي دليل في تحكيم العرف ان الأصل ان التطبيق تكويني او دقي عقلي. ان الأصل الاولي في الأبواب الفقهية ان موضوعات الاحكام ومتعلقاته يأخذ بوجوداتها التكويني وهذا تقريبا بنى عليه اكثر الفقهاء. مثلا في باب الطهارة لدينا ادلة كثيرة في النجاسات والطهارات في الوضوء والغسل انه ليس مبنيا على الدقة العقلية. «لا تعمق في الوضوء والغسل ولا في النجاسات» «كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه نجس بعينه» يعني ابن على الطهارة. في باب الطهارة والنجاسة والتطبيق الشارع رفض الدقة العقلية والتكوينية بل حكم العرف. يعني ان الدقة العرفية كافية لا الدقة العرفية المبلغة بالوسوسة والوسواس. بل دقة عرفية في مقابل التسامح العرفي.

مثلا في باب المعاملات ان آلية الانشاء عرفية والمصاديق عرفية وليس دقية عقلية. في بعض الأبواب دل الدليل على ان الدقة العرفية كافية وليس مبنيا على الدقة العقلية والتكوينية. بل بعض الأبواب في بعض المسائل الشارع أيضا سوغ البناء على التسامح العرفي أيضا. مثل «مثل كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه نجس بعينه» لابد من يقين حسي وجداني. هذا عرفا يعتبر نوعا من التسامح. لا يعتمد على الظنون العقلائية. ففي بعض المسائل ان الشارع قد يرخي العنان الى التسامح العرفي ويحصر الرعاية باليقين الحسي الخاص بعينه. مثل رؤية الهلال. صم للرؤية وافطر للرؤية. الشارع يقول القطع الحدسي لا تعتمد عليه لانه يوقعك في مشاكل. انما قناة ضيقة وبشروط مشددة يعتبر الشارع ثبوت الهلال كي لا يصير وسوسة واحتياط صعب. قول المنجمين والحسابات لا يؤول عليه. وقد يكون فيه تسامح وليكن. ان الشارع في بعض الموارد يريد ان تبني على التسامح في بقاء الاستصحاب. لا تنقض اليقين بالشك. في بعض الموارد حصر اليقين باليقين الحسي من نمط خاص. لا تكترس بالبقية. لكن اذا لم يأت دليل في باب التطبيقات في الشبهات الموضوعية على التسامح العرفي او الدقة العرفية ان الأصل في العناوين لا سيما في العناوين التكوينية هو الدقة العقلية والتكوينية.

مثلا الدم الذي يعتبر نجسا ليس الدم الذي هو في المختبر الصحي بل هو الدم العرفي. مثلا اذا غسلت الثوب وبعده بقي لون الدم فلابد من سبب اللون. لكن الشارع اعتبره طاهرا. لان الدم النجس ليس الدم المختبري والكيميايي بل هو الدم العرفي. اللون اذا ليس به جرم فهو طاهر. انما المدار على الدم العرفي.

هذا اذا ثبت في الأبواب ادلة خاصة تتبع لكن اذا لم يكن هناك ادلة خاصة ان الأصل الاولي انه يؤول على التطبيق التكويني بالدقة العقلية من ثم ليس على المسامحة العرفية والدقة العرفية.

نرجع الى النقطة الأخرى: اذا في مسألة اجتماع الامر والنهي ان الصحيح ان يبنى على الدقة العقلية والوجود التكويني ان المجمع لمتعلق الامر ومتعلق النهي متحد او ليس متحدا وجودا وماهية؟ سيأتي بحثه بشكل مفصل اكثر.

اما البحث الكبروي لو افترضنا ان المجمع لمتعلق الامر والنهي متحد وجودا وماهية هل يبنى على التعارض كما اصر عليه النائيني وكل تلاميذه او انه كما ذهب اليه المشهور شهرة عظيمة الى زمن الشيخ الانصاري وصاحب الكفاية والعراقي انهم ذهبوا الى تزاحم من نوع جديد يسمونه اقتضائيا.

قبل ان ندخل في هذا المبحث اعيد ان اذكر الاخوان انه في البحث الصغروي كضابطة فهرسية صاحب الفصول رحمة الله عليه ذهب الى ان ضابطة مسألة اجتماع الامر والنهي ان يكونا عنوانين. مثلا الصلاة والغصب. اما اذا لم يكن عنوانين في البين يكون من مسألة النهي يقتضي الفساد. هو عنوان واحد يختلفان بالاطلاق والتقييد. الذي ذكره ظريف لكن ليست هذه الضابطة مطردة بل يمكن عنوان واحد في مسألة اجتماع الامر والنهي. وسيأتي البحث مفصلا صغرويا.

نقطة: من الابتكارات التي ابتكرها الاصوليون في القرن الأخير ذكروا ان ضابطة الامتناع هو التركيب الاتحادي وضابطة الجواز هو التركيب الانضمامي.

فيه ابتكار اخر للاصوليين المتاخرين خلافا للمتقدمين وهو ان العناوين لمتعلق النهي او لمتعلق الامر ليست كلها تكوينية بل جملة منها اعتبارية عقلية او اعتبارية قانونية او غيرهما. وهذه تؤثر كثيرا في التنقيح الصغروي. هذا الصغروي شبهة حكمية لكن بالقياس الى المحمول صغروي. ضابطة مهمة جدا عند الأصوليين وهذه ذوق فقهي وليس بحثا اصوليا. هو بحث صناعية ذوقية فقهية بالامتياز. ان العناوين ليست كلها تكوينية بل بعضها اعتبارية عرفي قانوني انتزاعي أنواع من العناوين. هذا ليس فقط يفيد في مسألة الاجتماع بل يفيد في الأبواب الكثيرة ان العناوين ليس كلها تكوينية. هذا المبحث جدا مؤثر في الاستنباط في الأبواب الفقهية. ان العناوين ليس كلها تكوينية حقيقة بل كثير منها اعتبار عرفي قانوني وبعضها انتزاعي وغيرها. ولها شؤون وضوابط عجيبة.

البحث حساس وفي محله ندخل فيه بشكل مهم. هذه صناعة فقهية ذوقية متينة قويمة بامتياز.