الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

45/10/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الالفاظ/مبحث الأوامر/نسخ الوجوب وبقاء الجواز

 

كان الكلام في مسألة أن الوجوب إذا نسخ هل يبقى بعض مفاده وهو الجواز بالمعنى الاعم او الجواز بالمعنى الأخص ام لا؟

استدلال متاخري الاعصار من زاوية المنسوخ

ذهب بعض الاعلام من المتقدمين الى بقاء الجواز وذهب جملة من المتأخرين الى العدم واستدلوا عليه بأن النسخ للوجوب لا دلالة فيه على بقاء ابعاضه بل هو يرتفع برمته جملة وبقاء شيء منه يحتاج الى الشواهد والقرائن.

واستدل على ذلك بان الوجوب إما انتزاع عقلي وانما الذي ينشأه المولى هو نسبة طلبية وهذا الاعتبار بسيط وغير قابل للتبعض وليس كالمركبات الخارجية القابلة لان تنفصل عن بعضها البعض بل هذه ماهيات عرضية والماهيات العرضية وجوداتها بسيطة فإما ان تبقى او ترتفع. أما ان تتفكك وتنحل الى ابعاض فهذا تكوينا غير متصور. اذا بالنسبة الى المنسوخ ليس فيه تفكيك.

استدلال متاخري الاعصار من زاوية النسخ

وتبعيض لكن بالنسبة الى النسخ انه صورة وظهورا واثباتا رفع ولكن ثبوتا هو دفع وليس رفعا.

ماذا الفرق بين الرفع والدفع؟ الرفع يعني ان الوجوب كانما موجود في منطقة النسخ وله اقتضاء الوجود لكن الناسخ يرفعه فيقولون ان هذا بحسب الدلالة الاثباتية والظاهر الصوري اما بحسب الواقع فالنسخ هو دفع يعني يكشف انه لا وجود للمنسوخ في منطقة النسخ. كما هو الحال في التخصيص انه عند متاخري الاعصار حقيقته صورة كانما رفع وممانع لكن حقيقة وثبوتا هو كاشف عن عدم وجود العموم في منطقة التخصيص. فهو محو العموم. يعني في الحقيقة دفع وليس رفعا ثبوتا ولا فرق بين التخصيص والنسخ الا ان النسخ تخصيص ازماني في الافراد والتخصيص تخصيص افرادي في الطبيعة والا هما لبّاً شيء واحد. اذا من ناحية النسخ يقتضي عدم وجود شيء للمنسوخ.

هذا اجمال كلام الاعلام واستدلالهم.

نقد مبنى متاخري الاعصار من ناحية المنسوخ

لكن هذه الشواهد التي ذكروها قابلة للخدشة.

أولا من جهة انه هل الاعتبار بسيط او المعتبر بسيط؟ ما المراد من البسيط؟ هل مرادهم ان الوجود الاعتباري بسيط او ماهية المعتبر بسيطة؟ هذه كلها لا تقتضي عدم التفكيك. مثل الألوان اذا تنعدم شدة اللون فتبقى خفة اللون وكذلك الكيفيات المختلفة في البشرة. باب الكيفيات والألوان وغيرها من الموارد قابلة لتصوير تفاوت الشدة والضعف وهذا نوع من التفكيك. فالوجوب الزام لكن الرجحان درجة مخففة بغض النظر عن الاستحباب.

عند السيد اليزدي تعبير وصناعة أصولية فقهية وكذلك في كلمات الأصوليين ان الجامع بين المستحب والوجوب هو الرجحان لكن المراد هو الرجحان المقسمي لا القسمي. يعني الرجحان لا بشرط وهو جامع بين المستحب وبين الواجب. المستحب رجحان مع الاذن في الترخيص اما الوجوب فهو رجحان من دون الترخيص في الترك.

المقصود ان الرجحان اللابشرط جامع بين الوجوب و المندوب والسيد اليزدي يستثمر هذا الجامع في تصحيح جملة من موارد العبادات كالحج. فيه كلام انه لو كان الانسان مستطيعا للحج لكنه لا علم له باستطاعته للحج واتى بحج مندوب لجهل بالموضوع او جهل للحكم. هل يصح حجه المندوب عن الحج الواجب؟ والحال انه في الصلاة لا يجزئ. اذا نوى صلاة نافلة لا تجزئ عن الصلاة الواجبة. في الحج قال كثير من الاعلام انه يجزئ عن الحج مع انه حج مندوبة مباينة عن الواجب. يقول يجزئ لانه قصد الجامع بين الوجوب والاستحباب وقصد الجامع مجزئ ويقع على كلا الطرفين.

كذلك في الصوم على مقتضى القاعدة مع ان النص موجود. لو نوى صوما مندوبا في شهر رمضان لغفلة او جهل يقع صوم شهر رمضان ويجزئ. المهم ان الجامع حلال المشاكل عند الاعلام. كذلك في الغسل بناء على تباين الاغسال وبناء على تباين آثار الاغسال ولو لا نتبنى هذا المبنى.

في موارد عديدة في خلل الحج وخلل الصوم وخلل الاغسال والخمس وغيرها هذا الجامع حلال المشاكل. اذا التفكيك قابل للتصوير من جهة المعتبر وتعلق القصد به وكذلك من جهة الوجود لان وجود الاعراض قابل لكونه ذو مراتب شدة وضعفا. اذا من ناحية المنسوخ هذه الشواهد التي ذكروها مردودة.

نقد مبناهم من ناحية النسخ

نظريتان في النسخ

السيد الخوئي في كتاب البيان التزم بنظرية النسخ عند القدماء وقال هذا النسخ عند متاخري الاعصار ليس نسخا. يعني بعبارة ثالثة ان النسخ والتخصيص عند القدماء عند الفريقين يختلفان عن النسخ والتخصيص عند متاخري الاعصار عند الفريقين. سبق ان اوضحناها وسيأتي اليوم.

جهة الاشتراك وجهة الافتراق بين المبنيين في حقيقة النسخ

هاتان النظريتان في النسخ أيضا بينهما جامع في النسخ او قل بينهما جهة مشتركة وهذه من خواص النسخ على كلا النظريتين.

أولا ما هو التباين بين نظريتي النسخ؟ في موارد من منطقة النسخ عند القدماء ان الناسخ ليس دفعا بل رفع او قل تجميد. يعني في نظرية القدماء في النسخ او التخصيص للعام وجود واقتضاء ملاكي في منطقة المنسوخ والتخصيص حتى بعد النسخ والتخصيص. فملاكه اقتضائي لكنه مجمد. والمفعّل هو الخاص او الناسخ.

نكتة معترضة: نوعان، التخصيص بالرفع والتخصيص باثبات الحكم المضاد

هنا نكتة مهمة: اذا نسخ الوجوب هل نسخ بناسخ او نسخ باثبات حكم آخر؟ بعبارة أخرى: تارة المخصص يثبت لا وجود لحكم العام وتارة المخصص علاوة على ذلك يقول ان هنا في منطقة التخصيص حكم آخر كالحرمة. فالتخصيص تارة لسانه نفي العام وكذلك النسخ وتارة التخصيص والمخصص والنسخ لسانه اثبات حكم مضاد.

وبعبارة أخرى: هناك فرق بين التخصيص والمخصص. تارة دليل مخصص وتارة حكم مخصص. الحكم المخصص يعني علاوة على نفي العام هناك حكم مخصص او حكم ناسخ في منطقة التخصيص او منطقة النسخ.

ففي منطقة التخصيص ومنطقة النسخ تارة نفي العام وتارة نفي العام واثبات حكم آخر. بينهما فرق.

طبعا عند القدماء عندهم تفصيل ويقولون انه اذا كان نفيا فقط فيبقى معنى الجواز والرجحان وانما يرفع الالزام. سواء نفي المخصص او نفي الناسخ اما اذا كان يثبت الحكم المضاد فلا يبقى المنسوخ والحكم العام.

نرجع الى اختلاف نظرية النسخ والتخصيص عند القدماء وعند متاخري الاعصار

فالنسخ عند المتقدمين تجميد للمنسوخ لا انه نفي وامحاء له. واما النسخ عند متاخري الاعصار فهو يكشف ان المنسوخ صورة كان عاما وباقيا لكن المنسوخ حقيقة لا وجود له فيكون دفعا وليس رفعا. وكذلك التخصيص لان التخصيص والنسخ شاكلة واحدة ويختلفان بحسب الافراد الزمانية والافراد العرضية.

بقاء الرجحان على مبنى القدماء في النسخ

حينئذ ان لم يكن الخاص او الناسخ يثبت الحكم المضاد فمن الواضح اذا انه رفع العزيمة وليس رفع الرجحان لان الاقتضاء موجود ووجود الاقتضاء يعني ان الملاك موجود ووجوده يثبت بقاء الرجحان. هذا التفصيل موجود عند القدماء ولا بأس به سواء في الناسخ او المخصص.

اما اذا يثبت الحكم المضاد فالكلام الكلام. حتى اذا يثبت الحرمة ليس كاشفا عن ان المنسوخ لا وجود له. مثل «اكرم العلماء ويحرم اكرام العالم الفاسق» وليس يقول «الا الفاسق» يعني انه يثبت الحكم المضاد أيضا. على كلا الصورتين على نظرية النسخ او التخصيص عند القدماء فالعلم فيه اقتضاء للاحترام لكنه يضادّ بالفسق. فاذا كان الفسق يثبت الحرمة لا يبقى الرجحان اما اذا لم يثبت الحرمة غاية الامر العزيمة تنفى ولا ينفى الرجحان. لان اصل المقتضي موجود.

اذا على نظرية القدماء في النسخ والتخصيص يمكن تصوير التفكيك. لان حقيقة النسخ والتخصيص ليس محوا وليس كشفا عن لا وجود وليس دفعا ولا رفعا من جذور الحكم للعام. بل تجميد.

ماذا معنى التجميد؟ التجميد يعني ان الحكم المنسوخ في مرتبة الانشاء الأولى موجود وقد يقال في الثانية وغير موجود في مرتبة الانشاء الثالثة. مراتب الانشاء حسب مجموع كلمات الاعلام لا سيما الاخوند ثلاث مراتب. الحكم الكلي المقدر الذي يكثر ذكره الميرزا النائيني هو مرحلة ثالثة للانشاء واستعرضها المظفر تلميذ النائيني وكثير من الأصوليين من متاخري العصر يراد منه الحقيقة الكلية الفعلية المقدرة. هي انشائية لكنها فعلية ليست بالفعل بل فعلية مقدرة. فهي قضية حقيقية بنحو التقدير. هنا المنسوخ والمخصص لا وجود له. اما في مرحلة الانشاء الاولى والثانية او لا اقل الأولى لا مانع لوجود المنسوخ والمخصص.

بعبارة أخرى نفس ثبوت الحكم في العام بطبيعة المتعلق العموم دال على ان الطبيعة بنفسها تقتضي الحكم لان الطبيعة واحدة وسارية في كل الافراد. هنا في منطقة التخصيص والنسخ لا تقتضي السريان لوجود التضاد في الملاكات.

فيكون معنى التخصيص والنسخ عند القدماء هو التزاحم في منطقة الجعل بين الملاكات تزاحما اقتضائيا. يدير دفته المشرع والمقنن نفسه. هذا هو معنى النسخ والتخصيص عند القدماء. اذا على هذا المبنى قضية بقاء الجنس او الاقتضاء متصور جدا.

نعم على مسلك المتاخرين انه كاشف عن لا شيء وانه صورة تصورنا شمول الحكم في منطقة التخصيص والناسخ يمكن القول بان العام لا وجود له في الناسخ والتخصيص. اذا الصحيح في هذه المسألة التفصيل بين المباني والنظريتين.

هذا تمام الكلام في هذه المسألة.

المسألة: الوجوب التخييري والوجوب الكفائي

المسألة اللاحقة مسألتان: مسألة الوجوب التخييري والوجوب الكفائي.

الوجوي الكفائي اكثر أهمية من الوجوب التخييري وللعلم ان كلمات الاعلام في حقيقة الوجوب الكفائي التي ذكروها في المكاسب المحرمة في مسألة بيع العنب على من يصنعه خمرا او مسألة بيع السلاح على الأعداء نظريات في حقيقة الوجوب الكفائي عظيم جدا وحساس جدا لم يذكروه في الأصول. يعني في كتب المتاخرين لكن ربما القوانين والفصول او كتاب الفاضل التوني ربما تعرضوه.

المهم ان الواجب التخييري والواجب الكفائي او الوجوب التخييري والوجوب الكفائي بينهما نقاط مشتركة وفيه نقاط مفترقة.

سيأتي ان تعاريف الاعلام في الكفائي ما هي ثمراتها وثمرات عظيمة جدا. الكلام الان في التخييري.

تعاريف الاعلام في التخييري والجمع بينها

نظريات عديدة في التخييري والصحيح ان هذه النظريات عدا نظرية واحدة اذا تأملها الانسان ليست متناقضة ولا متدافعة وان كان ظاهرها هكذا. لكن كل نظرية تعالج زاوية الاشكال من جهة معينة. كما هي عادتنا في البحوث ان النظريات المختلفة كثيرا ما صحيحة نسبية يعني صحيحة تعالج زاوية معينة في المشكلة ولا تتعرض لبقية الزوايا والاكمل ان يولف الانسان بين النظريات.

سنتعرض الى جملة من الاقوال في الوجوب التخييري وسنرى ان هذه الاقوال بالدقة لا تتدافع ولا تتناقض بل يكمل بعضها البعض. وسنشرع فيه في الجلسة اللاحقة.

هذا البحث في حقيقة الوجوب التخييري او الكفائي ليس بحثا اثباتيا وبحثا في الظهور وفي دليلية الدليل بل هو عمدته بحث في الثبوت او قل في الواقع البنيوي ثبوتا لماهية وهوية الوجوب او الواجب التخييري او الكفائي وبعبارة هو من بحوث أصول القانون. ان حقيقة القانون في الوجوب التخييري ما ميزه عن الوجوب التعييني او الكفائي ما ميزه عن الوجوب العيني. عمدة البحث بحث ثبوتي ومن أصول القانون وهذا دليل على ان نصف مباحث علم الأصول في الالفاظ او الحجج بحوث ثبوتية في متن نظام القانون.