الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

45/08/04

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: باب الالفاظ/ مبحث الأوامر/ باب التزاحم

 

(الوضوء والغسل في المكان الغصبي)

كان الكلام في نهاية الفرع الوضوء او الغسل في الأرض الغصبية او الفضاء الغصبي، فبلحاظ اجتماع الوضوء والغسل على الغَسل وهو وصول الماء للبشر وليس حركة الماء للبشر او تحريك الماء على البشر فمن ثم لا يكون اجتماع للحرام مع الواجب.

أما المسح باعتبار انه حركة الماسح على الممسوح والحركة يتصرف في الفضاء فبالتالي هنا من موارد اجتماع الامر والنهي ويشكل الوضوء من هذه الجهة والغسل لا يرد فيه اشكال باعتبار انه ليس فيه مسح.

لكن فيه تأمل ونظر: باعتبار انه حركة الماسح على الممسوح وليس حركة في الفضاء فالحركة لها حيثيات، حركة الماسح على الممسوح غير حركة الماسح في الفضاء او يعد تصرفا. التواجد تصرف. نعم في باب الاجتماع يراعى الدقة العقلية لكن فيما هو عنوان مأخوذ والعنوان المأخوذ عرفي. مثلا كما ذكر الفقهاء ان الاتكاء على جدار البيت من الخارج لا يعد تصرفا فيه من حيث يوجب الاستئذان.

بعبارة أخرى: ان بعض التصرفات التكوينية لا تعتبر تصرفات عرفية في ملكية المالك فكون هذا نوعا من التصرف الغصبي فيه تأمل وان جزم فيه السيد الخوئي.

هذا تمام الكلام في بحث الترتب.

(الفرق بين التعارض والتزاحم)

بعد ذلك يثير الميرزا النائيني في آخر بحث الضد والتزاحم تعريف التزاحم والتعارض وان التعارض تناقض او تكاذب في الجعل، سواء أن يكون تناقضا ذاتيا باعتبار المفاد الذاتي للدليلين ويعبرون عنه التعارض الذاتي او التعارض بالعرض باعتبار العلم الإجمالي الخارج عن مفاد كلا الدليلين مثل انه في ظهر الجمعة لا يجب صلاة الظهر والجمعة معا فلابد من الجمع بين الدليلين، بينما التزاحم هو تدافع الحكمين في مقام الفعلية عند النائيني او مقام الفاعلية او التنجيز او الامتثال وهو الصحيح. فاذاً فرق بين التعارض والتزاحم.

(التزاحم الملاكي والتزاحم الامتثالي)

وتعرض الميرزا والسيد الخوئي الى ان التزاحم الملاكي متصور وهو غير التزاحم المصطلح. التزاحم الملاكي بين الاحكام او بين الملاكات على مذهب الامامية العدلية وهذا التزاحم بين الملاكات من شئون المولى وليس من شئون المكلفين والشارع هو يوازن بين المصالح والمفاسد كما في الآية الكريمة «يسئلونك عن الخمر والميسر، قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس وإثمهما اكبر من نفعهما». بالتالي هذا الكسر والانكسار والموازنة بين المصالح والمفاسد من شئون المولى وليس من شئون المكلفين. فترجيح الجهة الملاكية والملاكات التي هي مبادئ مراحل الحكم من شئون المولى فالتزاحم في الملاكات ليس من شئون المكلفين حتى الفقهاء والعلماء. فهو متصور لكنه لا ثمرة للبحث فيه لانه ليس من صلاحيات غير الشارع.

طبعا في تعريف التزاحم اختلاف بين السيد الخوئي والميرزا النائيني وذكرناه وسنعاود بسط كلام فيه.

فهناك تزاحم امتثالي مصطلح وهناك أيضا تزاحم اقتضائي في كلمات صاحب الكفاية وسنتعرض في معناه.

(طبقات الجعل والتقنين والحكم)

هنا مطلب جوهري مهم لا نجده في كلمات النائيني او الكمباني او الاصفهاني والحال انه امر جدا مهم وحساس وهو ان نمط كلام متاخري الاعصار في ثلاث قرون أخيرة او اكثر ان الجعل والتقنين والحكم طبقة واحدة وهو نتيجة جمع المجموع الدلالي والمدلولي بين الأدلة والنتيجة التي نخرجها بعد العمومات والخصوصات وهو الاستنباط.

فماذا عن طبقات العموم؟ يسلم متاخروا الاعصار طبقات العموم ولكن يقولون لا تغتر لان هذه مجرد دلالات وليست تقنينات. فالمحصل الصافي عن صفحة الدلالات هو الجعل والقانون لا غير. فالطبقات في العموم انما هي من باب ترتيب الكواشف.

مثلا انقلاب النسبة بين ثلاث طوائف من الأدلة او أربعة او اكثر ليست درجات العموم طولية عمودية. طبعا هذا اصطلاح مخصوص لمتاخري الاعصار انهم يصفّون العمومات بنحو عمودي طولي. هذه هندسة جيدة. انقلاب النسبة ليس بشكل اصطفاف عمودي طولي وانما اشكال مختلفة كالمثلث او المربع او المسدس المتداخلات. فانقلاب النسبة خمس صور لا على سبيل الحصر. هذه اشكال عن اشكال النسبة بين الأدلة.

 

(نمط العلاقة بين الحكمين والسنخ الدلالي والثبوتي)

مر بنا ان العلاقة بين الحكمين او التدافع بين الحكمين لا ينحصر بالتزاحم والتعارض بل بالورود والتوارد والحكومة ويمكن ان تتخذ اشكال مختلفة. سواء في العلاقة التؤالم او التدافع.

العلاقة في التعارض سنخها دلالي وفي التزاحم ثبوتي. التعارض تدافع بين دليلي الحكمين فسنخ اثباتي كاشف اما التزاحم نوع من التدافع بين الحكمين ثبوتا ولو جزئين. فسنخ التزاحم يختلف عن سنخ التعارض لكنهما نمطان من العلاقة بين الحكمين والتوارد بحث ثبوتي والورود والترتب أيضا كذلك ثبوتي.

 

فالصور التي فرضها الاعلام المتاخري الاعصار في القرون الأخيرة بين الاحكام او الطبقات او التشكيلات جلها فرضوها في الدلالة والاثبات. لكن في الجعل نتيجة الجعل المحصل ذلك هو المجعول يعني انهم يفترضون ان الجعل والقانون طبقة واحدة.

مع احترامنا العظيم للاعلام وجهودهم لكن هذه الفرضية التي يدعونها خلاف نظام علم القانون. علم القانون ليس تقنينا بطبقة واحدة.

 

دقة: ليس الكلام في ان الحكم الواحد والجعل الواحد له مراحل متعددة بل الكلام انه هل التشريع والتقنين في الشريعة يختلف عن علم القانون والتقنين العقلائي؟

(استحالة ان يكون الجعل طبقة واحدة)

القانون والجعول ثبوتا في التقنين العقلائي أحكام وطبقات وليس طبقة واحدة ولا يمكن لعلم القانون الذي استعمله الشارع للشريعة ان يكون طبقة واحدة وممتنع بل لابد من طبقة أصول القانون الذي يعبر عنها بقوانين الدستورية وان كان أصول القانون دائرة اعظم من القانون الدستوري. يعني ان ديباجة الدستور مهيمنة على الدستور فهي أصول قانونية للدستور وهي لا تختص ببعد الفقه السياسي الاجتماعي والمدني والاسري بل يشمل حتى الفردي والاعتقادي وكذا.

ففي علم القانون ليس طبقة واحدة من التقنين. لا أقول ان الحكم الواحد له مراحل وهذا بحث آخر. ان الحكم الواحد له مراحل ثلاث انشائية ومرحلتان فعليتان وغيرها. هذا بحث آخر. بل نقول ان الحكم الواحد لا يمكن ان يكون هو أبا وهو ابنا وهو حفيدا وسلسلة الاحفاد. بل لابد من الآباء في الاحكام والأصول والاجداد وجعول ثبوتية وقوانين اعم فهذا احد مواليد الجعول الأخرى.

هذا البحث له ثمرة عظيمة جدا والجو العام العلمي يحتاج اليه. وفي الفقه والأصول في قناعة المتواضعة لم يشهدها علم الأصول الف سنة وهي مبحث علم أصول القانون الذي من اعظم جواهرها ان الجعل والاحكام ليس طبقة واحدة. خطأ من مشهور المتاخرين حيث يقولون ان القانون هو نتيجة معالجة مجموع الأدلة لا غير فيكون طبقة واحدة. طبعا متاخروا الاعصار انفسهم يعترفون ان الجعل الكلي غير الافراد بالتالي الحكم الكلي قانون او دلالة؟ اذا يفحص واحد عن كلماتهم يرى انهم يقولون ان هذا الجعل الكلي إشارة وليس حقيقيا بل المجعول الجزئي الأخير هو الحكم حقيقة. فيعتبرون الحكم الكلي من قبيل الدلالة والمرآة وليس قانونا ولا جعلا.

طبعا علم أصول القانون لا ينحصر في هذا البحث بل مباحث علم أصول القانون أبواب ومباحث عديدة وكبيرة لكن من اخطرها هذا البحث ان القانون والجعل طبقة واحدة او طبقات؟ بل طبقات.

بحسب علم القانون والعرف العقلائي الذي استخدمه الشارع ليس لدينا قانون واحد وطبقة واحدة بل طبيعة القانون طبقات وأيضا طبيعته شبكة عنكبوتية. كما انهم يقولون ان خلايا مخ الانسان اشكال لا تعد ولا تحصى في طبيعة انتقال المعلومات. المقصود انه لانظن انه من اشكال بسيطة هندسية بل شبكة عنكبوتية وهي تعني ان طبقات القانون في نسب علاقاتها اشكال لا حد لها ولا حصر وهي تكتشف من علم القانون وصعوبة علم القانون من هذه الجهة.

ليس الجعل والقانون طبقة واحدة وليس من قبيل الدلالة بل هو مدلول ثبوتي واقعي. «اقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان» « ان الله يأمر بالعدل والإحسان» هي اصل قانوني فوقي مجعول لا انه دلالة على الاحكام النهائية كما يتبنى المتاخري الاعصار. الصحيح انها كلها طبقات القانون.

فاذا كانت طبقات القانون هذا المدعى الذي يدعيها متاخروا الاعصار ان المكلفين لا شأن لهم بموازنات الاحكام بل انما هم يأخذون طبخة جاهزة نهائية من الشارع وحينئذ تبدأ مراحل الحكم الواحد. بل ليس هكذا هو يعطينا كل شيء من الطبخة بمفرده وقد يعطينا الصلاحية على الطبخ. هذه هي معنى الصلاحية التشريعية لسيد الرسل صلوات الله عليه وآله وبالنسبة الى اهل البيت سلام الله عليهم بشكل آخر لا يستطيع عليه الفقهاء. لكن ما بعد تشريعات الله وتشريعات سيد الأنبياء وتشريعات الأئمة هناك تأتي صلاحيات العلماء في كيفية التنسيق بين طبقات القوانين بالموازين لا بالظنيات والهلوسة والاستحسانات.

(فرق مدرسة أصول القانون عن فقه المقاصد وروح الشريعة)

فرق مدرسة أصول القانون التي لها عشر أسماء عن مدرسة فقه المقاصد التي هي عند العامة وعن مدرسة روح الشريعة التي هي عند كثير من فقهاء الامامية ان هذه المدرسة انضباطية بالموازين لا بالحدسيات وتكتشف شيئا بشيء وما لم تكتشف لا يقدر الفقيه ان يبت. لكن أيا ما كان هناك موازين لطبقات القانون.

 

اذا ليس القانون طبقة نهائية واحدة كما ارتكز بشكل متجذر في ذهنية متاخري الاعصار في أربعة قرون او سبعة قرون. بل الصحيح ان طبقات القانون متعددة. عندما يقول الله عزوجل «ان الله يأمر بالعدل» هذا أساس تشريعي فوقي وعندما يقول «خلق لكم ما في الأرض جميعا» اصل تشريعي فوقي. حينئذ لا يمكن ان يكون تشريع احياء الثروات واحياء الأراضي ليستثمر به الأغنياء. أي قانون يعمل يعمل باطلاقه يخالف هذا الأساس التشريعي.

في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أوائل الثورة وقع النزاع بين الفقهاء شديدا حول اصلاح القانون الأراضي الذي قام به الشاه. وهو اخذ جملة من أراضي المالكين واعطاها لطبقة الفلاحين. هذا بقت تراكمات ان الأراضي للاقتائين او لطبقة الفلاحين. في الثورة الإسلامية وقع النزاع كما ان البعثيين وزعوا أراضي العراق بين انفسهم. فجملة من الفقهاء ذهبوا الى ان الأراضي التي استقطعها الحاكم المستبد حرام. فهنا صار جدل فقهي في حوزة قم عند القميين والنجفيين آنذاك ان عندنا أساس تشريعي «خلق لكم ما في الأرض جميعا» كيف يولد ملكية ويكون ارثا. هذا اول الكلام. وهذا بحث في كل العالم. ان القانون الفوقي مهيمن وناظم لسلسلة طبقات القانون. لا يمكن ان تأخذوا باطلاق «من احيا ارضا فهي له» فالاثرياء بامكانياتهم ان يحيوا جميع الأرض يأكلونها.

جدلية أخرى: هل القانون عدل او ان العدل هو القانون؟ يعني انه يحرم مخالفة القانون للدولة؟ هل القانون الجائر للطبقات المحرومة او ان العدل هو القانون؟ كل شيء ينتج عدلا هو قانون وكل شيء لا ينتج العدل ليس قانونا. يحرم مخالفة القوانين العادلة لا القوانين الظالمة. فالعدل قانون او القانون عدل؟ هذه كلها ترتبط بان التقنينات طبقات وليست طبقة واحدة. عقلية الفقه التقليدي ان القانون طبقة واحدة وهذا خطأ. القانون له قوانين شغلها انها مهيمنة. اذا هذه نهضة علمية في علم الفقه وعلم الأصول والعلوم الدينية وفرق كبير بين هذا المنهج الاستنباطي وتلك المناهج. فالقضية اعظم واوسع من التعارض والتزاحم. هذا مسألة أصول القانون وهو في الحقيقة علم له أبواب وليس مسألة واحدة.

ان شاء الله نواصل.