الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

45/06/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: باب الالفاظ/ مبحث الأوامر/ مبحث الترتب (5)

كان الكلام في ان الترتب عكس الورود والتوارد وانه هل يمكن الترتب في الورود او لا؟ ومنشأ الاشكال عند الميرزا النائيني ان المورود في حالة الورود مقيد بقيود يعدمها الحكم الوارد او الدليل الوارد.

طبعا بين القوسين ان الورود في الأدلة نوعا يختلف عن الورود في الاحكام. مثلا الدين حكم واقعي والحج أيضا حكم واقعي والدين يعدم الاستطاعة التي هي موضوع الحج. هذا ورود في الاحكام ثبوتا. لكن هناك ورود مثل حجية الظنون المعتبرة على الأصول العملية بناء على بعض الوجوه. على كل الورود في الأدلة سنخ يختلف عن الورود في الاحكام. تارة نلاحظ بين دليل ودليل وتارة نلاحظ بين حكم وحكم ومدلول ومدلول.

هل يمكن للترتب ان يجري في الورود؟ معنى جريان الترتب في الورود هو ان يعاكس الترتب الورود او يقيده. الورود مقتضاه إزالة الحكم المورود مطلقا بينما الترتب مقتضاه تقييد انتفاء المورود بصورة عدم امتثال الحكم الوارد. الترتب يضيق الورود او اعدام الوارد للمورود. فهل يا ترى ان الترتب يجري؟ يجري لتقليص دائرة الورود كما ان جريان الترتب في التوارد أيضا تقليص للتوارد ونوع من إعطاء مساحة للحكم المورود.

الإشكالية في جريان الترتب في الورود هي كالتالي: اذا كان الوارد يزيل وينفي الموضوع الشرعي والقيود الشرعية للمورود فأين إمكانية تصور وجود المورود وفعلية ملاكه؟ لان المفروض في باب الورود ورود الوارد بإعدام وإزالة القيود الشرعية للمورود. فاصل تواجد وشرعية المورود يصبح فيها التأمل. بخلاف المتزاحمين ان كلا منهما موجود فعلا وانما التنافي بينهما في الامتثال او التنجيز بالدقة. من ثم هذه الإشكالية موجودة وارتئى الميرزا النائيني ان الترتب في الورود ممتنع.

لكن يمكن التأمل فيه: يمكن ان يتساؤل انه هل الحكم الوارد بوجوده يعدم موضوع الورود او بامتثاله؟ وبينهما فرق. اذا كان بوجوده كلام الميرزا النائيني وجيه واما اذا ليس بوجوده وانما بامتثاله بالتالي لا فرق في توفر القدرة الخارجية التكوينية بين باب التزاحم والورود كما اعترض بذلك السيد الخوئي على الميرزا النائيني. اذا كان الأهم في باب التزاحم من باب المثال لا يعدم القدرة بقول مطلق مع ان القدرة ليس على شيئين بل على احدهما لكن في باب التزاحم ان الأهم لا يعدم القدرة الخارجية بمجرد وجوده وتنجيزه. فمن ثم ان لم يصرف هذه القدرة في امتثال الأهم فليصرفها في المهم لكي لا تبدد هذه القدرة الخارجية فيصرفها في المهم. فاذا بمجرد وجود الأهم الذي ليس مقيدا وهو فعلي ومنجز ويتعين عقلا امتثاله لكن بمجرد وجوده لا يعدم القدرة الخارجية فان لم تصرف فيه فلا تتبدد هذه القدرة. وهذا هو معنى الترتب، ليس للمكلف ان يتبدد القدرة فان لم يصرفها في الأهم فلا اقل ليصرفها في المهم. لكي لا تفوت عليه ملاكين ملزمين من الشارع. هذه كما هي موجودة في التزاحم بالدقة موجودة في الوضوء وإنقاذ حياة عطشان. ان لم تصرف هذا الماء في انقاذ حياة عطشان فلا اقل اصرفها في الوضوء. فبمجرد صد رمق عطشان لا يعدم القدرة على الماء خارجا. بعضهم يقولون ان الممتنع شرعا كالممتنع عقلا هذا الكلام كالتنزيل. لكن التنزيل في أي جهة فيه كلام. هذا المبحث ولو قاعدة رائجة ومشتهرة ولكن فيها تدقيق. تؤثر في باب الإجارة جدا وفي باب البيع وموارد عديدة وفي أبواب فقهية كثيرة ليس فقط في المعاملات. الممتنع شرعا كالممتنع عقلا باي معنى؟ هذه القاعدة يجب ان نلتفت اليها.

هذه القاعدة التمحيص في مفادها متوقف على قاعدة أخرى كبروية فوقها ولسنا في صدد الخوض في هاتين القاعدتين. بل مجرد إشارة فهرسية لأهمية هاتين القاعدتين. طبعا هذه القاعدة ليست رواية بل قاعدة اصطيادية استنبطها الفقها. القاعدة التي فوقها هي ان تنزيل شيء منزلة شيء آخر يختلف سنخا وجوهرا عن ادراج شيء بالجعل الشرعي في ماهية او في افراد ماهية شيء آخر. الجعل شيء والتنزيل شيء آخر.

النتزيل نوع من الصياغة اللفظية وليست تقنينا. مثل قاعدة من علم البيان او أسلوب آلي في علم البيان. بينما الجعل تقنين. صيد المحرم ميتة. هذا تنزيل او جعل؟ او ان الصيد في الحرم ميتة. تنزيل او جعل؟ التنزيل مجرد فذلكة لفظية بينه الشارع وتشبيه ويكفي التشبيه وجه شبه او اثنين او ابرز الاثار. فالتنزيل شأن لفظي اما الجعل يعني التقنين. فاذا جعل صيد المحرم ميتة يعني حقيقة ميتة. من شرائط التذكية في الصيد ان لا يكون الصائد محرما وان لا يكون الصيد في الحرم. فاذا فرق بين الجعل والتنزيل. الجعل نوع من الانشاء الماهوي من الشارع. هذا المبحث جدا حساس في كل الأبواب الفقهية والاصولية ان نميز بين التنزيل يعني التشبيه وبين الجعل والتقنين. هذا المبحث لا نريد ان ندخل فيه وله ضوابط وموازين.

دون هذه القاعدة قاعدة تحتانية وهي التي كنا فيها، ان الممتنع شرعا كالممتنع عقلا. الكاف يعني الجعل او التنزيل والتشبيه؟ وان كانت هذه القاعدة اصطيادية. ان كانت تنزيل لابد ان ننظر انه بلحاظ أي اثر. التحقيقات الجملة في القرن الأخير ان هذه ليست جعلا وتقنينا. بل في بعض الاثار وبلحاظ بعض الاثار ولنكتة معينة فاذا الامتناع الشرعي لا يعدم القدرة الخارجية. فحيث لا يعدمها بالتالي اذا متوفرة ولماذا نقول ان موضوع المورود غير موجود بمجرد وجود الوارد.

هنا ندقق هذا المطلب الذي مر بنا امس وقبل امس عنوانه وهو ان الورود تارة الوارد بوجوده يعدم موضوع المورود وتارة بامتثاله. اذا لابد ان نميز ان الورود بين الحكمين في أي مرحلة؟ وهذا ينبهنا ان الورود يمكن ان يجري في المراحل المختلفة. هناك اقسام من الورود. ورود في اصل الفعلية وورود في الفاعلية وورود في التنجيز وورود في الامتثال.

المقصود ان السيد الخوئي رغم انه في بحث الترتب يلتزم بانه بمجرد وجود الحكم الوارد لا يستلزم محو وانعدام موضوع المورود بل بالامتثال. أقول مع انه يلتزم بهذا المبنى لكن في فتاواه في الدين وحج الاستطاعة بقول مطلق يقول من عليه دين فوري لا تتحقق الاستطاعة والحال انه فيه تأمل. لانه هذا المال لم يصرفه في الدين فاذا يصرفه في الاستطاعة كما ذكره السيد الخوئي في المتزاحمين والتزم بذلك في الوضوء. التزم من لم يصرف الماء في إعطاء الماء للعطشان يمكن ان يصرفه في الوضوء مع ان ملاك مشروعية الوضوء متوقفة على القدرة على الماء عند السيد الخوئي وان كان هذا عند المشهور ليس صحيحا. هذا مسألة فقهية لا داعي للخوض فيها ولها شواهد على ان اخذ القدرة شرعا في الوضوء والغسل مخدوشة بل هي مأخوذة قيدا شرعيا في عزيمة الوضوء. هذا عنوان العزيمة احد أسماء مراحل الحكم. ماذا يراد بالعزيمة. يعني المنجز مثل عنوان التكليف. اسم آخر للتنجيز. فلما يقال غير عزيمة ليس المراد هو الوجوب اللزومي. بل رخص الشارع. الترخيص لا يعني انقلاب الوجوب الى الاستحباب او المباح. طبعا تستعمل في بعض الموارد الرخصة بمعنى المباح. لكن في كثير من الموارد استعمال الرخصة بمعنى رفع التنجيز لا رفع الوجوب. ان الله رخص للمريض ورخص للخائف يعني رفع التنجيز. سيما اذا كان دليل الترخيص العناوين الثانوية والقواعد الثانوية. هذا لا يعني التخصيص. هذا نفس المبحث. مدى خطورته الفرق بين المشهور وبين مدرسة النائيني والسيد الخوئي وتلاميذهما. مثلا رفع الضرر هل يخصص الحكم الأولي والوضوء او يرفع العزيمة والتنجيز. رفع النجيز يعني ان المشروعية موجودة. فالوضوء الحرجي ليس بدعة. بل مشروع لكن منة يرفع الشارع تنجيزه. منطقة التماس بين دليل لا ضرر وبين دليل الوضوء او الغسل مهم هل هي مرحلة الفعلية او مرحلة التنجيز. هذا هو الذي مر بنا أهمية وخطورة مراحل الحكم.

بالتالي اذا رفع العزيمة تستخدم بهذا المعنى رفع التنجيز لا رفع اللزوم في مقابل الندم. العزيمة غالبا ان لم يكن دائما تستعمل بمعنى التنجيز. طبعا المفروض فيها اللزوم. فعلى أي تقدير الرخصة في مقابل العزيمة يعني رفع التنجيز. له فروع كثيرة في الحرج والضرر التزم الميرزا النائيني بفساد العبادة وكذلك السيد الخوئي وتلاميذهما بناء على ان هذه القاعدة الثانوية تخصص مرحلة الانشاء وليس كذلك.

اذا الورود يجب ان نشخص انه بوجوده يعدم موضوع المورود ويمكن وليس ممتنعا. لكن ليس من الضروري كل أنواع الورود ان يعدم الوارد موضوع المورود بوجوده. مثلا في النذر. اذا نذر وزاحم شيء لازم. فاداء النذر يستلزم معصية أخرى مزاحمة للنذر. هنا الحكم اللازم المنجز الآخر بوجوده يعدم موضوع النذر. لانه ليس بحث القدرة. بل بحث ان هذا النذر اخذ في موضوعه ان لا يستلزم المعصية. سواء امتثل الحكم الآخر اللازم او لم يمتثله. حتى لو لم يصرف القدرة للاهم او الواجب المطلق الاخر. فالمعصية تعدم موضوع النذر والعهد واليمين. نعم في مثل النذر واليمين والاحكام الأولية تلك الاحكام الأولية بوجودها يعدم موضوع النذر. او مثل الشرط في الاحكام الوضعية ان الشرط يكون لازما ان لم يحلل حراما او ان لم يحرم حلالا. فاذا كان الشرط اشترط شيء معينا في مقابل حرام اولي او حلال اولي بمجرد وجود الحلال الاولي والحرام الاولي ينفسخ الشرط. لان الاحكام الأولية بوجودها تعدم موضوع صحة الشرط. عندنا الورود ان الوارد بوجوده يعدم المورود. لكن ليس دائما كذلك. الورود في الفعلية يختلف سنخا عن الورود في الانشاء. مثل تعارض الخبرين بتعارض مستقر احدهما راجح والأخر مرجوح. هذا الخبر الراجح بوجوده يجمد «لا أقول يعدم» حجية المرجوح عمل به او لم يعمل. هذا في مرحلة الانشاء. المهم من الضروري ان نشخص ان الورود في الانشاء او في الفعلية او في التنجيز وهذه نكتة جدا مهمة وربما لم يثيره الاعلام ببلورة واضحة لكنه مرتكز عندهم ان الورود ليس على سنخ واحد والتوارد أيضا كذلك.

اذا كان الوارد لا يعدم الموضوع المورود بوجوده اذا يمكن صرف القدرة عن الوارد وعصيانه وصرف القدرة في المورود. اذا الترتب في موطن آخر صحيح في الورود والتوارد فيما كان الورود ليس في اصل الفعلية. يعني ان الوارد لا يعدم موضوع المورود بوجوده. موضوع المورود باصل وجوده وفعليته لكن الذي يعدمه تارة وجود الوارد وفعلية الوارد فالفعلية تعدم فعلية وتارة امتثال الوارد يعدم المورود. اذا كان امتثاله فاذا عصى فالامتثال لم يتحقق كي يعدم المورود.

مر بنا هذا البحث وتدقيق في التدقيق ان التماس بين الحكمين في أي مرحلة؟ فيه تدقيق اكثر وهو ان التماس بين الحكمين قد يكون في احد الحكمين في مرحلة وفي الاخر في مرحلة أخرى ومن الخطأ جدا ان نظن ان التماس بين الحكمين في مرحلة واحدة في كلا الحكمين. بل قد يكون في حكم في مرحلة وفي حكم آخر في مرحلة أخرى. وهذا هو الذي سجلت مؤاخذة على الميرزا النائيني ان الوارد في مرحلة الامتثال قد يعدم المورود في مرحلة الفعلية. ان التماس بين الحكمين تضايف وهذا لب البحث ان التماس في مرحلة واحدة او في مرحلتين.