43/04/12
الموضوع: باب الالفاظ/ تعارض الاحوال/الاستظهار التحليلي او الاستظهار الارتكازي
(مراتب القرائن في بنية الظهور)
كان الكلام في تعارض الاحوال ومر بنا أن القرائن متعددة وذات طبقات، فقرائن الاستعمال تختلف عن قرائن التفهيم و هي تختلف عن قرائن المدلول الجدي ويمكن للانسان ان يتمرس و يقوى في هذه الطبقية في القرائن بتوسط علم البيان، لأن علم البيان مختص للفرز بين القرائن ولا أقل هذه الطبقات منه ضرورية لأن المدلول الاستعمالي إثباتا مقدم على التفهيمي و التفهيمي على الجدي وهلم جرا وإن كان الجدي ثبوتا هو المقدم لأن هذه المراتب في الدلالة إثباتا عكسها ثبوتا.
(ترتيب القرائن استظهار تحليلي)
إن المتكلم عنده غاية جدية أو غاية جدية نهائية ويتولد منه غايات أخرى، فيتولد منه الإرادة التفهيمية ثم يتولد منه الإرادة الاستعمالية، لكن في الإثبات بالنسة الى السامع أول ما يتلقى دلالة تصورية ثم الاستعمالية ثم التفهيمية ثم الجدية. فهذه الطبقية في المراتب مثل الوارد والمورود ففي الاثبات الدلالة الأسبق واردة على الدلالة المورودة.
لذلك الاطلاق من قرائن الجد وليس من القرائن الاستعمالية ولا من القرائن التفهيمية ومقدمات الاطلاق هي من قرائن المدلول الجدي، فمن ثم لايصح معارضة مقدمات الاطلاق مع القرائن الأخرى الخاصة لأنها مقدمة رتبتا.
(نمطان من الاستظهار والاستنتاج في العلوم)
لاحظ هذا التحليل أن مراتب الدلالة واردة ومورودة وهذا التحليل استظهار تحليلي وتفصيلي وليس استظهارا إجماليا ارتكازيا مبهما.
فالاستظهار كما مر بنا على النمطين استظهار تحليلي وتفصيلي يبتني على القواعد والدلائل والمعادلات سواء في العلوم اللغوية او أي علم من العلوم بشكل ترتيبي و بشكل تنزيلي، بخلاف الاستظهار الإجمالي وهو استظهار ذوقي يعني أن يتذوقه بالارتكاز و بين الاستظهارين فرق.
الان ايهما حجة سنتعرض اليه، لكن اجمالا كما اشار اليه صاحب الفصول هناك استظهاران و هذا كمنهجين منطقيين استدلاليين و ليس خاصا بباب الدلالة. تارة ترى مسألة رياضية أو فيزيائية أو طبية، فالمتخصص يحدث النتيجة بالسرعة ويسمونه الطريقة الاجمالية والارتكازية.
المعروف ان الشيخ جعفر كاشف الغطاء كان قويا في الحدس الفقهي وهذا هو معنا الذوق الفقهي والارتكاز نتيجة تراكم المعلومات و تراكم الممارسة فتصبح قوة الذوق العلمي في أي علم للانسان قويا.
ففي باب الظهور علم ناشئ من نفس العلم يسمى علما ذوقيا اجماليا و غير مدلل وغير مبرهن بخلاف الاستظهار التفصيلي المدلل والمبرهن في اي علم من العلوم الدينية او حتى العلوم الاخرى البشرية او اي علم من العلوم.
منهج الاستنتاج عند الانسان نمطان او اكثر، لكن هذان النمطان بارزان؛ نمط ذوقي يعبر عنه العلم الذوقي أن المعلومات كلها حاضرة يستنتج منها لا بنحو الهلوسة، مثل ما يقال في الشعر: الفلان عنده قوة في الذوق او في النثر والادب. هذا الذوق يعني واجدية المعلومات او الممارسة والتجربة.
ثم ينفتح هذا المنهج والعلم الذوقي في العرفان بلحاظ الروح؛ كما يقول الله تبارك وتعالى: «كل نفس ذائقة الموت» يعني تجده لا أن تتفكر فيه. بخلاف العلم التحليلي والتفصيلي، هو علم فكري يعتمد على الفكر خطوة خطوة بينما، العلم الذوقي يعتمد على المعلومات المتوفرة الحاضرة المتواجدة عند الانسان، فمن ثم يسمى هذا المنهج الاجمالي العلم الذوقي الارتكازي الحدسي، لأنه ناشئ من حضور المعلومات عندالانسان او من حضور الشيء.
(العلم الذوقي الحضوري قبال العلم الفكري)
كما يقال العلم الحضوري بالغيب والمقصود تجليات قلبية وأشعات قلبية يجدها الانسان، كما يذوق الانسان المرارة او اللذة او الخوف وليس بالفكر يعني ليس عبر مرأة المعاني بل يجدها بالوجدان.
إذاً طبيعة الانسان هكذا؛ عنده علم وجداني وذوقي، يعني أن يتوفر عنده الشيء وفي القضايا الملكوتية ليس المراد منها أن كنه الشيء يحضر بل نوع من التجليات سواء تجليات رحمانية او تجليات شيطانية؛ «إن الشياطين ليوحون الى اوليائهم» الإيحاء كثيرا ما يكون بالذوق والواجدية والوجدان. فمن ثم يسمى علم العرفان علما ذوقيا ووجدانيا بغض النظر عن أنه علم بشري وفيه غث و سمين ونتاج بشري وليس وحيا مقدسا ولكن منهج علم ذوقي ووجداني عند محاربة النفس والشيطان هذا من باب العلم الذوقي. كي الانسان يصارع هواه ويصارع ميوله الغرائضية. هذا علم ذوقي ووجداني وعلم ارتكازي حاضر.
سميت محاريب في المساجد محاريب لأنها محل محاربة للهوى والميول والشهوات فيسمى محل صلوة الانسان محرابا لأن فيه محاربة كما يقول اميرالمؤمنين عليه السلام محاربة النفس والشيطان.
المقصود هذا يمكن أن يكون بالفكر لكنه إجمالا بالذوق والوجدان و الواجدية. جانب الفكر جانب العقل النظري وجانب الذوق جانب العقل العملي. «كل نفس ذائقة الموت» أو الآية الكريمة «إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت» لا أن تتفكروا في الموت وشوق الموت بل إن كان لديكم في وجدانكم وقلبكم و ميولكم شوق الموت هذا دليل على أنكم أولياء لله. هنا بيان من الله تعالى بالعلم الذوقي لا بالعلم الفكري.
وموارد عديدة «قل لا أسئلكم عليه أجرا الا المودة في القربى» لا الفكر في المودة، إن المودة فريضة عظيمة من فرائض الدين يؤديها القلب والوجدان.
فالمقصود إذاً هناك علم ذوقي كما يشير اليه صاحب الفصول ويسمى الذوق أو الحدس أو الارتكاز وهناك علم تفصيلي يقوم به الفكر والعقل النظري. فالانسان طبيعة عنده هاتان القوتان؛ قوة الوجدان وقد تسمى العلم الذوقي والوجدان والحضور لا حضور كنه الشيء.
فمن ثم لمّا يقال في العلوم المنطقية والعقلية حضور الشيء مسامحة لأن حضور الشيء لايعني حضور كنه الشيء بل ربما من الاثار البعيدة من الشيء، فالحضور لايعني أن يحضر الشيء نفسه بل قد تحضر آثاره وتجلياته.
الخشوع والاخبات من آداب زيارة المعصومين أن تتأنى في زيارة المعصوم الى أن يخشع القلب فإن خشع القلب أذن في الدخول. «فتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم» اللذة ليس علما فكريا اللذة هي علم ذوقي وتلتذ مع المعصوم فإذا تلتذ يعني الاتصال موجود واذا لاتلتذ يعني الاتصال مقطوع. بلذيذ مناجاتهم والنجوى ايضا قد تكون عقليا وفكريا وقد تكون قلبيا.
ذكرنا أمثلة كي نرى أن هذا المبحث كيف نستثمره في العلوم العديدة في علم الاخلاق وعلم الرياضة الروحية والكلام وغيرها من العلوم. منهجان علم تفصيلي وتحليل وفكري وعلم ذوقي. «ذق إنك أنت العزيز الكريم»
(الجمع بين الاستظهار الذوقي والتفصيلي)
فعلى أي حال؛ فالمقصود، إذاً يمكن للانسان أن يستظهر بالعلم التحليلي والتفصيلي ويمكنه أن يستظهر بالارتكاز الاجمالي والذوقي. كما قد يكون الذوق الادبي والذوق الفكري عنده. جملة من الاعلام والعلماء سواء كانوا من ابناء اللغة اللعربية او غيرهم إذا طالسوا اللغة العربية والمواد بالتالي يصبح لديهم ذوق أدبي وذوق لغوي او استظهار ذوقي اجمالي لكن هذا الاستظهار الاجمالي لايستطيع أن يحتج به على الاخرين بمفرده بل يجب أن يدلل عليه بالمقدمات والدلائل التفصيلية.
وفيهم جماعة من العلماء ايضا يعتمدون بالاستظهار التفصيلي كأنما مثل المعادلات الرياضية خطوة خطوة وهذا لامانع منه.
قد يستشكل على الاستظهار التفصيلي بأنه تحكم، لكن بالتالي الاستظهار التحليلي مدلل يعني له دلائل والشواهد والقرائن. طبعا امكانية الخطأ موجود في كلا المنهجين. لذا صاحب الفصول يقول الجمع بين المنهجين أقوى لاسباب عديدة واضحة، لكن كلا المنهجين استظهاران، فمن ثم نعود الاستظهار التفصيلي التحليلي هو في الحقيقة نوع من استكشاف الظهور.
الناقد الادبي سمي ناقدا لأن قدرته التحليلية اكثر من صاحب الذوق الادبي الأقوى، لان صاحب الذوق الادبي ما عنده القدرة الادبية غالبا. هما موجودتان عند كل شخص لكن إحداهما قوية والأخرى متوسطة أو ضعيفة ولكن الناقد الادبي وإن لم يكن أديبا او شاعرا لكن قدرته التحليلية رهيبة. وقد تجتمع كبنت الزمعرة كانت محكمة والناقدة الادبية مع ذلك كانت اديبة. اذًا نكتتان ومنهجان.
(الاستظهار التفصيلي موضوع لامتناهي)
هذا الاستظهار التحليلي والتفصيلي يمكن أن يترامى الى ما لانهاية له ومداه دائما أوسع وأكبر من الذوق الأدبي. الذوق الادبي سريع و دفعي لكنه محدود بحسب قدرة الحدس عند الانسان، أما التفصيلي والتحليلي لا يقف عند حد.
إنه عبارة عن ترامي المعادلات وإنه لامعنى لأن يقال: إن الاستظهار التفصيلي متناه. ما معنى لأن يقال: إن الظهور يقف عند حد. الظهور يبتني على القواعد والشواهد والمعادلات فيترامى الى ما لانهاية له. فيكون كل مراتب التأويل من بنية الظهور بناءا على هذا.
فمن ثم الناقد الادبي قد يكتشف أمورا حتى صاحب الذوق والشاعر النجمي في الشعر لايلتفت الى شعره والناقد الادبي يستخرج كنوزا من شعره لايلتفت اليها الشاعر نفسه. لأن ذوق الشاعر محدود بخلاف الناقد الادبي يقدر يستخرج عبر التحليل والمعادلات. إذاً الظهور التحليلي والتفصيلي طبيعته لامتناهية لأنه يعتمد على الموضوعية ولايعتمد على القدرة بل يعتمد على المعادلات والموازين بينما في الذوق الادبي أو الذوق الفقهي او في أي علم يعتمد على الذائقة وفرق واسع بينهما .
هذه نكتة برهانية لطيفة مدللة لما تقدم بنا البحث من أن مراتب التأويل في الحقيقة يشملها الظهور بشكل شمولي.
اصلا الكتب الاستدلالية للفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأي علم من العلوم الدينية او غير الدينية هي عبارة عن منهج التفصيل والتحليل للاحتجاج بين بعضهم البعض. بخلاف الحدسي وهو مطلب آخر. هذا إجمال تعارض الاحوال ويجب أن نلتفت اليها. و ان شاء الله سننتقل الى بحث علامات الحقيقة والوضع.