43/04/08
الموضوع: الوضع
انتهينا في الدرس السابق الى هذا المبحث في الدلالة وهو ان طبقات الظهور في المعنى الجدي وان خفيت يسميها السيد المرتضى والشيخ الطوسي ظهور ولكنه خفي فقد يُتساءل أو يستشكل أنه كيف يكن الجمع بين كونه ظهورا مع كونه خفياً ، وعلاوة على ذلك ـ كما مر بنا ـ ان السد المرتضى يقول ان هذا الظهور مع تكاثره وتواتره في دلالات القران والحديث النبوي يكون من الضروريات ـ وان خفي منشأه ـ بل من أصول الدين نعم كون الجاهل به قصورا أو تقصيراً معذور هذا بحث آخر ، ولكنه بالتالي من الظهور الخفي المتواتر المتكرر الذي يؤول الى الضرورة كما في دلالة القرآن على إمامة علي عليه السلام .
ان هذا هل هو تأويل أو ظهور وكيف ينسجم الظهور مع الخفاء ؟
ان هذا البحث بعينه بحث في العلوم العقلية ان البديهي الاولي ماهو ؟ فتارة يُعرَّف البديهي بلحاظ الواقع الموضوعي للأدلة وللشواهد وتارة يعرَّف البديهي بلحاظ إدراك البشر له أو إدراك المُدرِك له وبينهما إختلاف من باب المثال : توحيد الباري تعالى ، فالدلائل على توحيد الله ووجوده أبين في الكون من كل شيء ومع ذلك جملة من البشر قد ينتابهم شك وإرتياب أو جحود او الحاد وهلم جرا ، فهل هذا يعني ان الشواهد الدالة على وجود الله او وجوده هي أقل من الدلائل الفيزياء والكيمياء وأمور أخرى ؟ كل غير ممكن إذن كيف تكون هذه بديهية وتلك خفية ؟ فيجاب عن هذا البيان في بحث المعقول بأن البديهي بلحاظ بُنى الدلائل والشواهد والمواد الدالة والمبرهنة ليست محل ترديد وريبة ولا هناك أظهر منها وهذا لا ير ببديهيتها طرو شبهات أوحجاب على بعض البشر في الادراك ، كما انه لا يزلزل من رتبة بديهيتها ارتياب بعض البشر في بديهيتها ، وعدم ارتيابهم فيما هو أقل منها فمثلا عدم ارتياب البشر في الحس والمادة لا يدل على كون المادة أكثر بداهة من وجود الله ، وذلك لأن البديهي قد نعرفه بتعريف إضافي نسبي بلحاظ المدرِك فيأتي هذا الكلام من ان الامر البديهي قد يكون بديهي لدى جماعة وغير بديهي بالنسبة لجماعة أخرى فان عرفنا البديهي بتعريف إضافي نسبي الى المدركين والعقول حينئذ يمكن تصوير أن البديهي بديهي بلحاظ جماعة وليس بديهي بلحاظ جماعة أخرى ، هذه النكات مهمة في العلوم الدينية فالبديهي في مقابل النظري وبالعكس يمكن ان يُعرَّف بتعريف نسبي إضافي ويمكن أن يُعرَّف بتعريف
موضوعي واقعي ولا ربط له بنظرة وإلتفات العقول أو الأفكار أو القوى الفكرية لدى الانسان والبشر ، واذا عرفناه بلحاظ الواقع الموضوعي والدلائل فالبديهي هو البديهي وغير البديهي أنزل منه رتبة وأقل منه دلائل ، واذا عرفنا البديهي بتعريف نسبي إضافي مثلا في بعض المسائل في العلوم الدينية قد يُرتَب الأثر على البديهي النسبي والإضافي ـ لا على البديهي الموضوعي ـ فيقال هذا أنكر الضروري او لا سيما على مبنى المتأخرين ؟ فإن كان يعلم بأنه ضروري وأنكر فله حكم ، واذا لم يعلم بذلك فله حكم آخر ، طبعا حتى في هذه المسألة وإن روعي الضروري الإضافي ، ولكن أيضا يلاحظ الضروري الموضوعي لأنه بالنسبة الى الضروري النسبي غير موجود عنده لكونه جاهل به فيسمى ضروري بلحاظ الواقع الموضوعي ولا يُرتَب عليه الكفر بلحاظ انه ليس ضوري بالنسبة اليه لكونه لا يلتفت .
والحاصل :
ان البديهي مقابل النظري ، أو الضروري مقابل غير الضروري تارة يُعرَّف بلحاظ الواقع الموضوعي والمواد فهذا لا يتغير بلحاظ عقول وقدرة البشر بل مرتبط الواقع الموضوعي ، وتارة يعرَّف البديهي والضروري في مقابلها النظري وغير الضروري بلحاظ نسبي وبالإضافة الى القوى الفكرية لدى البشر فهذا يتغير ، وعلى التعريف الثاني ـ لا الاول ـ قد يكون شيء في الدين بديهي وضروري في زمان وفي زمان آخر يكون غير بديهي أو العكس كما يقول السيد العلامة بحر العلوم في ترجمة ( احمد بن الجنيد )
أن كثير من الأمور التي لم تكن واضحة عند الرواة وربما ينكرونها أو يعتبرونها غلو او شيء آخر الان ببركة الجهود العقلية التي بذلت في هذه الأبحاث صارت من بديهيات المذهب ولا ربط لها بالألوهية بل هي فيض عظيم من الله . ومقصود السيد من البديهي هو البديهي النسبي الإضافي لا بلحاظ الواقع .
أيضا التواتر فيمن تقسيمه الى تواتر موضوعي ونسبي والنسبي هو الذي يدركه الفقهاء والمجتهدين او عموم المكلفين ، وهناك تواتر موضوعي أي بحسب الأدلة وإن غفل عنه الكثير هو موجود ، فالتواتر والاستفاضة في مقابل خبر الاحاد يمكن تعريفه بتعريفين ، فقد يأتي فقيه الى خبر ويظن أنه خبر آحاد أو خبرين او ثلاثة او أربعة ويأتي فقيه آخر لديه تتبع أكثر يجد وتضلع في علم الحديث او بلحاظ دراية مضمون الحديث فيكتف وجود التواتر والاستفاضة وإن غفل عنها كثير من الفقهاء بناءاً على ان التواتر والاستفاضة صفة موضوعية ، وليست صفة إضافية نسبية .
فالبعض مثلا يسأل البعض ان أمثال زرارة وغيره كيف خفي عليه تواتر من نمط معين ( كأسماء الائمة ) ؟ ان التواتر ان وصفته بانه إضافي نسبي نعم هو غير موجود عند زرارة ، وجهله بالتواتر لا يلازم عدم وجود التواتر بأسماء الائمة في النصوص ، فان التواتر إن كان نسبياً إضافي نقول جهل زرارة دليل على عدم التواتر اما اذا كان التواتر موضوعي فربما يظن بعض الرواة انه لم يروي أسماء الائمة الاثنا عشر إلا هم ـ أي هؤلاء الرواة ـ فيضنون أنه خبر آحاد ولكن هناك خبر آحاد ثاني لم يطلع عليه أصاب الطريق الأول ، وثالث ورابع وهكذا فأصحاب طرق الاحاد لا يعلمون ببقية ومجموع الطرق لكونها متباعدة ، ويأتي المتأخرون وتجتمع عندهم حصيلة الطرق ويعلم بأنه هذا الخبر يقطع بعدم التواطئ على كذبه وهو التواتر وذلك لكون التواتر واقع موضوعي لا أنه أمر نسبي وإدراكي كي تقول إن التواتر عندما لم يطلع عليه رواة هذا الطريق يقول انه ليس بتواتر .
إتفاقا أصحاب المدونات من الفريقين مثلا الذهبي من علماء العامة وغيره جمع ( إثني عشر مجلدا) فقط
في طرق حديث الغدير ويقينا أصحاب هذه الطريق لم يكونوا جميعا يعلمون بهده الطرق ولكنها إجتمعت
عنده .
اذن التواتر والاستفاضة سيما اذا تلتفتون الى هذا المطلب ـ وهو ان هناك تواتر واستفاضة في الدلالة وهناك تواتر واستفاضة في الطرق ـ وهو إن التواتر منه نظري ومنه غير نظري ، ومعنى النظري ان هذا التواتر لا يؤخذ من سطح وألفاظ الروايات بل ربما يؤخذ من المعنى الرابع في طبقات دلالة الروايات فهذا لا يضر بتواتره فالفقهاء ـ بتسالم علماء المسلمين ـ لديها ضروريات لا يطلع عليها علماء الكلام والعكس لأن صاحي علم الكلام يزاول ويمارس الأدلة في علم الكلام فتتبده لديه أمور هي خفية عن علماء الفقه وبالعكس ، وربما صاحب علم الكلام إن لم يكن فقيها يتصور ان هذه المسألة او هذه القاعدة الفقهية إجتهادية وليست ضرورية ، صاحب الجواهر مثلا يقول بأن ذهاب الفيض الكاشاني الى عدم انفعال الماء القليل بالملاقاة يوجب كيت وكيت ( ولا أريد الاتيان بنص العبارة في حق الكاشاني ) وذلك لأنه لو كان القائل بذلك واحد من العوام أو الفضلاء فهو طبيعي ولكن هذا فقيه ومحدِّث ويعلم بأن هناك (300 ) حديثا في ذلك مقابل (12 ) رواية دالة على عدم انفعاله فكيف بحسب الموازيين الشرعية تترك ( 300 ) حديثا وتأخذ بـ (12 ) حديثا فانه بحسب الموازيين هو غير معذور ، أي ان محاكمة الفقيه من قبل الفقهاء تختلف عن محاكمتهم لغيره لأنه يطلع على ضروريات غير واضحة لدى الغير ، ومن هذا القبيل موارد عديدة كحرمة الغناء الذي سجل الفقهاء ملاحظاتهم على الفيض الكاشاني والسيد ماجد البحراني أنه كيف تذهبون الى ان كيفية الصوت في نفسها ليست محرمة وهذه الروايات المستفيضة موجودة التي موردها خاص بكيفية الصوت لا مع وجود الآلات الموسيقية أو مضمون باطل .
ان مسؤولية الفقيه نظراً لإطلاعه على الأدلة كالفيزيائي او الطبيب يعلم ببديهيات في الطب لا يطلع عليها غيره من غير المتخصصين في الطب فكل صاحب علم يطلع على ضروريات ليست بالضرورة هي موجودة لعموم الناس وهذا لا يضر بضروريتها وذلك لكون ضرورتها واقع موضوعي وليس أمر نسبي إضافي .
اذن الضرورة والبداهة والتواتر والاستفاضة تارة يعرف بواقع موضوعي ـ وهو الأصل فيه ـ وتارة يعرف بتعريف نسبي وإضافي لذلك الانسان لما يتعامل مع رواية ضعيفة لا يقال أنها رواية ضعيفة فإن أحد الاحكام المسلَّمة بين الأصوليين والاخباريين من علماء الامامية حرمة رد الخبر الضعيف فهو حرام علميا وتكليفياً ، ومعنى حرمة الرد ، ليس وجوب العمل به .
ومعنى حرمة الرد هو وجوب الاكتراث به وعدم ضربه عرض الجدار أي إحتمل انه واقع وأفحص عن ذلك ، فلا تتعامل معه كالعدم فذلك فسق علمي ، ولعل أحد مناشيء حرمة رد الخبر الضعيف هو ان هذا الخبر خبر آحاد وضعيف ولكن بإجتماعه مع أخبار أخرى لم تقف عليها تجد أنه مستفيض او متواتر .