43/04/05
الموضوع:الوضع
كان الكلام في مراتب الدلالة ، ومن باب الكناية تبين صحة ما يذكره البلاغيون من أن الدلالة رباعية المراتب لا ثلاثة او ثنائية ، نعم هناك تدقيق مهم في تمييز القرائن والأصول اللفظية التي يُعتمَد عليها سواء في الدلالة التصورية ـ كما سيأتي في علامات الحقيقة ـ او في الدلالة الاستعمالية او التفهيمية او الجدية ، وهذه الأصول اللفظية في حين هي لفظية تسمى أصول ( كالأصول العملية ) وانما تسمى أصول لفظية لأنه يُعتَمَد عليها حيث لا تتوفر قرينة خاصة عند الشك كأصالة الحقيقة في الاستعمال أو ما شابه ذلك .
المهم التمييز بين هذه الأصول اللفظية ، مثلا اصالة التطابق بين الاستعمالي والتصوري ، وبين المراد التفهيمي والاستعمالي ، وبين المراد الجدي والتفهيمي ، وربما يعبَّر عن التطابق بين الجدي والتفهيمي أصالة الجد او يراد من اصالة الجد في مقابل الهزل او العبث أو غير ذلك .
اذن بالتالي هذه مراتب مهمة في تحصيل الدلالة ، وتمييز قرائن الجد عن قرائن التفهيم عن قرائن الاستعمال بالغ الأهمية يجب الالتفات إليها .
وفي سياق هذا البحث لا بأس بذكر هذا المطلب :
مثلا ما ورد بشكل متواتر عند الفريقين من ان للقرآن سبعين بطن او ما ورد في نص القران الكريم ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [1] لماذا جعل أولاً الذات الإلهية الا الله وهذا البيان القرآني مطابق له البيان النبوي ( طرف منه عند الناس وهو اللفظ وطرف منه عند الله للدلالة على سعة الامتداد أو لاتناهي الامتداد ، وهو يعني ان للقرآن طبقات في المعاني ، فحديث الثقلين بالدقة تصوير نبوي آخر لقوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ فهذه الآية من الايات الملحمية في القرآن ويصح التعبير عنها بآية الثقلين فالراسخون في العلم هم أصحاب القيمومة على بيان دلالات القران ، وفيها بيان القران . اذن في بيان القران أيضا ـ كما في الآية المتقدمة ـ ان للقران له تأويل وتأويله متصاعد الى أن يصل الى الله .
وكذلك في الحديث النبوي حديث الثقلين انه ممتد ممتد أي طبقات .
وكذلك الحبل الممدود ليس وصف للقرآن بل للثقلين ففي بعض الطرق القليلة جدا ( حبلان ممدودان ) فكون النص الوحياني له طبقات متصاعدة من المعاني قرآنا او سنة من الحقائق العظيمة في الدين وليس لأحد ان ينكرها لا على مسار الفقه ولا علم التفسير او أي علم من العلوم الدينية .
وألسن الآيات والروايات في هذا المجال ليس خصوص حديث الثقلين وهذه الآية بل هناك آيات كثيرة دالة على ان للقرآن والروايات طبقات من المعاني وذلك روايات أهل البيت ^ ( ان لكلامنا بطن و) فالحديث حبل ممدود ، يدل عليه طوائف من الآيات والروايات وما ذكرناه من حديث الثقلين انما هو مثال فقط ، وهذه حقيقة في الدين لا يمكن انكارها ، ومن ثم في مدرسة اهل البيت مدرسة النص في مقابل مدرسة الرأي ، ان المراد من النص هو كل الوحي بدءا من اللفظ الى ان تتصاعد وليس المراد من النص هو اللفظ بل تتفهم الوحي ولا تسطنع تكلف الراي ـ وهذا الذي غفل عنه أبو حنيفة ولم يعيه ظناً منه ان النص يعني اللفظ وكذلك أصحاب المسلك الظاهري ـ كالحنابلة أو السلفية او المالكية بعض الشيء ـ بل الانطلاقة من اللفظ وإلا فالنص هو كل طبقات الوحي بتوسط لاقطة الفهم .
لاحظ حديث الثقلين أو هذه الآية او ما شابهها من الآيات ألف قاعدة من قواعد أصول الدين يمكن أن تستنبط منها .
فنفس هذه قاعدة أي مدرسة قاعدة النص في مقابل مدرسة الرأي فالبعض يتقمص الأصولية وهو حشوي سطحي حيث يجمد على اللفظ او المعنى القريب منه ويكفر بما وراء ذلك من معاني تحت ذريعة رفض الهلوسة ، نعم نرفض الهلوسة لكن الموازيين التي تقودك الى طبقات المعاني لا بأس بها .
كما في معركة الاستدلال عند الاعلام حيث لم يستنبطوا من قاعدة لا تنقض اليقين بالشك الاستصحاب الى سبع قرون أو عشرة قروض الى أن جاء والد الشيخ البهائي واستنبط منها قاعدة الاستصحاب وأُللف منها خمسمائة صفحة فما المانع من ذلك كاستصحاب الشك في المقتضي او الرافع ومجهولي التاريخ والاستصحاب التنجيزي او التعليقي وغير ذلك من البحوث التي استنبطها العلماء من لفظة ( لا تنقض اليقين بالشك ) وهذا ليس هلوسة ولا عصمة بل عبر موازين اجتهادية قد تخطئ وقد تصيب ونحن مأمورين بالموازين فهذا هو منهج الأصوليين ومن يمنع ذلك هو حشوي ويتقمّص الأصولية ،
كما في معركة الاستدلال عند الاعلام في جملة ( لا تنقض اليقين بالشك ) قد بحثوا الاستصحاب العدم الازلي وأنه يمكن ان يستفاد منها او لا ؟
والسيد الشهيد محمد باقر الصدر & قال صحيح ان استصحاب العدم الازلي صحيح ومتين ولكنه بعيد عن القدرة العرفية في استضهاره من ( لا تنقض اليقين بالشك ) .
وكلامه غير صحيح لأن المراد من تحكيم العرف ، ليس قدرة العرف في الفهم ـ كما مر بنا مراراً ـ ولا العلماء ، بل الدلالة التي هي بحسب بنيوية القواعد ، والقوالب الموجودة في بنية اللغة او علوم أخرى مسلمة ، لا على قدرات البشر ، وإلا لما كان القرآن بلاغة لأنه بُني على فوق قدرة البشر ، بل هو قران عربي مبين يصل اليه من يصل من العلماء درجة بعد درجة لا أنه غير موجود بل قدرات البشر في فهمه متفاوتة .
فحجية الظهور لا ربط لها بقدرة العرف ، بل لا ربط لها بقدرة العلماء فسيرة العلماء في الاجتها من اول الإسلام الى الان على عدم تحكيم قدرات العلماء ، بل تحكّم قدرات قواعد الموازيين ، فأي ظهور نبحثة كي نقول في مباحث الحجج حجية الظهور ؟ انه الظهور الذي يبتني على شبكية قواعدية معادلية من القواعد اللامتناهية .
ونفس القرآن يقول ان كل من يتكلم بكلام بإمكان السامع ـ لا كل سامع بل الامكانية موجودة ـ ان يكشف اسرار هذا المتكلم كلها ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [2] كان أحد الاوتاد وكيلا لأحد المراجع كان من خلال كلام الانسان يستخرج ملفات الانسان السابقة واللاحقة ، وكما يقول أمير المؤمنين × ( الانسان مخبوء تحت طي لسانه ) ما أن يتكلم حتى تنكشف كل أسراره لكن عند من ؟ عند من يتوسم أي لديه علم التوسم ، وحتى في العلوم العصرية الحديثة من خلال كلام المتكلم يدرسون أخلاقه ونفسيته ومعاناته وطموحه .
اذن بنية الظهور والكلام غير مبنية على قدرات أبناء اللغة أو غير أبناء اللغة والعرف بل على العلوم اللغوية التي يحملها العرف ففيها معادلات رياضية أي قابلة للأنطباق والتناسب والشبكية والارتباط الى ماشاء الله وتتمازج علوم البيان والنحو والمعاني والصرف الى أن يبلغ درجة الاعجاز كما في القرآن الكريم .
إذن المحكم هي الموازين والشواهد لا قدرات البشر والعلماء ولا المزاجيات كالصوفية والعرفاء
وحتى القيصيري شارح الفصوص يقول ان هلوسات العرفاء لا شيء وان المحكم هو القواعد
والشواهد .
ومن ضمن الأمور المحكمة هي محكمات القران وسنة المعصومين ومحكمات العقل فالحجة هي البديهيات
ـ وقد بنى السيد الخوئي على ان حجية العقل هي للبديهيات او ضواحي البديهيات واذا ابتعدت فصورتها يقينية ولكن واقعها ظنية ـ ومحكمات الفطرة وهلم جراً وهذا أيضا من الشواهد والقرائن ولا تقتصر خصوص الشواهد على العلوم اللغوية بل تشمل محكمات الوحي والعلوم ففيها محكمات وحقائق ولكن الكثير يخلط بين النظريات والحقائق والفرضيات فقليل جدا من أهل الاختصاص في تخصصه يميز بين الحقائق العلمية والنظريات بل يدمجون بينها لأنهم ليسوا من أهل الاجتهاد في تخصصهم بذلك الحد بل يستوعبون إنجازات الاخرين .
سؤال : هذه الطبقات من المعاني تسمى تأويل وليست ظهور ولكن لكون انطلاقها من الظهور تدخل في حجية الظهور ؟
السيد المرتضى في الشافي في الامامة والطوسي في تلخيص الشافي يتبنيان أن الظهور ينقسم الى ظهور جلي وخفي ، كيف يجتمع الظهور مع كونه خفي ؟!
وأكثر من هذا يقولان ليس فقط الظهور خفي وجلي مع كونه ظهور بل يتبنى السيد المرتضى ان هذا الظهور يتولد منه ضرورة ولكنها خفية لأن الضرورة ليست مرهونة بعقول البشر وقدراتهم ، بل تعتمد بنيتها على الدلائل الموجودة لها ، فالضرورة النسبية تعتمد على عقول البشر او المتشرعة او المسلمين او المؤمنين ولكن هناك ضرورة بنيتها في شجرة الدين ساق عمودية كعمود الخيمة وضاربه في جذورها الى كل أبواب الدين سواء عقلنا أن هذه الخيمة عمودها هذا أو جهلنا ، فجهلنا لا يضر بكون هذا العمود عمود خيمة الدين . لذا يقول السيد المرتضى ان امامة علي موجودة في الظهور الخفي في الدين وخفائها بسبب مشاغبات السقيفة وخلفاء بني امية وبني العباس وعلماء السلطة وتقية المؤمنين ، لكنها هي ظهور خفي في القران بل هي ضرورة .وذلك كالبديهي فهناك بديهي نسبي بحسب عقول البشر وهناك بديهي بحسب بنية الواقع ، فالإلحاد مثلا الان لا يزعزع ان أساس الواقعيات هو الحقيقة الازلية بل هي موجودة رآها من رآها وعمي عنها من عمي عنها ولو بأسباب معذورة .