43/03/25
الموضوع:الوضع / الدرس ( 20)/ الاخبار والانشاء الدرس (4)
كان الكلام في الانشاء والاخبار وفي خضم هذا البحث كان من اللازم بيان هذا المطلب سواء في باب الانشاء او المعنى الحرفي او أسماء الإشارة التي ستأتي من المعاني وحاصل هذا المطلب هو : ان ما يذكره الاعلام كشرط ما هو معنى هذا التقييد ؟
فمر أنه ليس من قبيل القيود المعروفة حيث يؤخذ في القضية والحكم وانما هذا التقييد ونتيجة التقييد ويفيد التقييد ، وطريقة الوصل اليه عند الشيخ العراقي من خلال ( القضية الحينية ) وهي تختلف عن القضية الشرطية ، وعند النائيني عن طريق ( ضيق الملاك ) وكأنما يستفاد من باب حكمة الحكم .
وعند الشيخ الاصفهاني يتوصل اليه ـ نتيجة التقييد ـ من طريق ( العنوان المشير ) وقد سبق بيان إصطلاحه عند أهل المعقول من أنه هو ليس جنس ولا فصل ولا ماهية نوعية للأفراد ولا الموارد المشار اليها بالعنوان المشير وانما هو الرابطة بينه وبين الافراد أو الموارد انه معنىً ومفهوم كمالي من الكمالات والارتباط عبر مفاهيم الوجود ليس أرتباط عبر طريق الماهية والذات ، فالارتباط بين العنوان ـ الذي ربما يعبرون عنه بالعنوان الوجودي أو المشير ـ والافراد ليس عبر الماهية الذاتية ـ كالجنس والفصل والنوع ولا العرض ، بل هو من قبيل المفهوم الكمالي الذي يشير الى الجانب الكمال ولو بحظ يسير الموجود في الافراد ويعبرون عنه ( المفهوم الكمالي أو العنوان الوجودي ) وهنا اذن العنوان المشير لم يؤخذ كقيد في ذوات الافراد لا كجنس ولا فصل ولا عرض بل هو شيء خارج عن ذواتها ، ولكنه يشير الى مديات سعة الافراد او سعة وجودها ، فالعنوان المشير ليس تقيدي ولم يؤخذ كقيد في ذوات الأشياء كجنس او نوع ولكنه يشير الى سعة دائرة وجو الافراد .
اجمالا العنوان المشير ليس تقيدي بل يوجد فيه نتيجة التقييد .
النائيني قد يعبر عن مبناه وهو ضيق الملاك بـ ( متمم الجعل ) أو ما شابه ذلك ولكنه نفس المطلب الذي بنى عليه من ضيق الملاك .
فهذه الشروط التي يذكرها الاعلام في المعنى الحرفي ليست جنساً ولا فصلاً ولا نوعاً ماهوياً ولا عرضاً يؤخذ كقيد في المعروض ، بل هي من قبيل العناوين او المفاهيم الوجودية أو من قبيل القضية الحينية او ضيق الملاك او العنوان المشير والذي ينتج نتيجة التقييد ، اذن ليس كل شيء يُضيق هو قيد اصطلاحي فقد يكون من قبيل القضية حينية او حكمة الحكم او ضيق الملاك او العنوان المشير أي حكمة الحكم أيضا ، ولذلك يتنبه الفقهاء بحذاقة ودقة في التمييز بين العناوين المأخوذة في عناوين الأدلة وهل هي قيود او هي عنوان مشير ومنبه وحكمة وليس قيدا .
نعود الى باب الانشاء :
ان الانشاء علاوة على أهمية تحديد المعنى المراد فيه ، مراحله مهمة ، ربما يجعل بعض الاعلام مراحل الحكم التي تنبثق من مراحل الانشاء في الحكم التكليفي مرحلتان : مرحلة انشائية ، ومرحلة فعلية .
انشائية هي إنشاء الحكم بشكل فرضي تقديري ، وفعلية أذا تحقق الموضوع الجزئي ، لكن ابدأ بالإنشاء في الاحكام الوضعية قبل أن نخوض في الانشاء في الاحكام التكليفية .
مراحل الحكم التكليفي إصطلاحاً هي من مباحث مراحل الانشاء في الامر والنهي أي في الحكم التكليفي ، واما مراحل الحكم في الحكم الوضعي من أنواعه مراحل الانشاء في المعاملات فالبعد المهم في المعاملات الحكم الوضعي ، وان كان فيها حكم تكليفي .
في المعاملات المعروف انها مرحلتان فمثلا ينُشأ الطرفين ايجاب وقبول ـ وهما سبب ـ فيتولد من ذلك وجود المسبب في أُفق العُرف العقلائي ، والمسبب هو وجود اعتباري لماهية المعاملة او الإيقاع ، فتمليك عين بمال ، هذا بحث ماهوي معنوي ، ووجود الماهية في عرف العقلاء هو الُمنشأ . هذه المرحلة الأولى .
والمرحلة الثانية اذا أقر الشارع هذه المعاملة ( أحل الله البيع ) فـ ( البيع ) موجود عقلائياً ومعنى يحلله الله انه في أفق اعتبار الشارع يقرر وجوده ، فالشارع لا يكتفي بالوجود الاعتباري للمعاملة عند العقلاء ، بل يقرر للمعاملة وجود إعتباري ، لا أن الشارع يرتب آثار على المعاملة العرفية مباشرةً ، وإنما يقرر وجود المعاملة عنده في أفق اعتباره ، ثم يرتب الاثار على الوجود الاعتباري عنده .
فهذا هو المعروف من كون الانشاء له مرحلتان مرحلة عند العقلاء ، وأخرى عند الشارع وهما مرحلتان حساستان ومهمتان جداً .
وهناك قول آخر عند اللغة وصاحب الكفاية وهو ان هناك أكثر من مرحلتين للإنشاء :
الأولى : ليست هي العرف العقلائي بل هي الوجود الاعتباري عند المُنشِأ نفسه ، فهناك بيع أنشأه وأوجده وجوداً اعتباريا المتعاقدان ، فبيع عند المتعاقدين يكون موضوع أو سبب لوجود البيع العرفي والعقلائي وهو يكون سبب لوجود البيع الشرعي عند شريعة السماء .
فهنا ثلاث مراحل لأنه قد يُقدِم المتعاقدان على معاملة لا يُقرها العرف ـ كأجرة السرقة والظلم والمعاملات المحظورة عند العقلاء ـ ولكن المتعاقدان يقران بها ، اذن فالاعتبار عند المتعاقدين أوسع من الاعتبار العقلائي ، وهذا بغض النظر عن كون الأعراف العقلائية نفسها مختلفة أيضا ، ففي موارد يكون التبني مقبول وفي بعضها غير مقبول ، وهو ليس من باب المعاملات بل الاحكام ، كما ان العرف العقلائي أوسع من الاعتبار الشرعي فليس كل ما يتبناه العرف يعتبره الشارع ، فمثلا التبني قد يعتبره العرف { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } [[1] ] فالتبني موجود الان ولكنه عند الشارع ـ وكذا ربما عند الأعراف الصالحة ـ لا يتبناه .
فالاعراف العقلائية تمهد للأعراف الشرعية اذا إعتبرها الشارع ( أحل الله البيع ) فالبيع العرفي موضوع
للبيع الشرعي فـ ( أحل ) هو البيع الشرعي والحلية الوضعية والتكليفية ، والوضعية هي وجود الشيء في أفق الشارع إعتبار الشارع ( وحرم الربا ) عدم اعتبار وجود الشيء ، فنفس ( أحل ) وليس عنوان البيع ، فهنا في قضية ( أحل البيع ) فأحل هو البيع الشرعي ، والبيع هو البيع العرفي ، ففي المعاملات أدلة الصحة ، وصحة المعاملة هو وجودها ، والحلية الوضعية للمعاملة هو وجودها ، وفساد المعاملة يعني عدم وجودها في أفق إعتبار الشارع او المقنن .
ومن ثَمَّ مر بنا ربما بعض الاعلام غفلة في المسائل المستحدثة الربوية أو البنكية أو مجالات الحياة الاخرى يقول انه لو أراد المتعاقدان ترتيب الاثار الشرعية على المعاملات الفاسدة أو المحرمة شرعا فهو غير جائز ولكنهما لو أرادا ترتيب الأثر العرفي ويتراضيان به ، فالرضا موجود إذن ، ولم يقيد المتعاقدان رضاهما بالأثر والعقد الشرعي ، شبيه التصالح بالعقد العرفي ، فهذا النوع من التخريج نوع من التسهيل لترتيب الاثار .
وهذا المقال باطل من رأسه وذلك لأنهما وان لم يقيدا رضاهما بالبيع الشرعي او الاجارة الشرعية ، فلو قال من ذهب للدعارة يقول حتى لو كان العرف لا يعتبر له أجرة فنحن متعاقدان متراضيان بالعقد الشخصي ـ لا العرفي ـ فعند العرف يقاومون تفشي مثل هذه الخروقات لأن العرف يريد ان ينتهج أفراد العقلاء النظام القانوني الذي يقر به العرف ولذلك يسجلون العقوبات على المخالفين لهم ، وإلا لو قال المتعاقدان المخدرات معاملة صحيحة عند المتعاقدين لا عند العرف او الشرع فهل يسوغ العرف تحصيل الثراء لأن الباذل للعوض لا يقيد رضاه ببذل العوض بالقانون العقلائي او الشرعي او الدولة ؟ كلا لا يسوغ له أكل المال والثراء بذلك ، كيف بين القانون الوضعي او العقلائي البشري مع المسار للأفراد هناك نوع من المواجهة ، فالبند الثاني من الدستور أن دين الدولة والشعب الإسلام ، وأما بقية البنود كيف ؟ فدائما البند الأعلى حاكم على البند الأسفل وهناك أمور حرمتها ضرورية في الإسلام كالخمر والملاهي ، فالبند الثاني حاكم على كل البنود التي تأتي بعده ، كالبند الخامس ان الشعب مصدر السلطات والتشريع فالبند الثاني حاكم على ذلك فأصول التشريع والانتخاب يراعى فيها الإسلام .
فالمقصود كيف يحكَّم عرف على عرف فالعرف العقلائي يتحكم ويقاوم العرف الفاسد الفردي كذلك العرف الشرعي يقاوم فلما يقول الله تعالى ( وحرم الربا ) فهو يريد أن يقاوم الاعراف الفاسدة الهدامة للبشر التي تجعل المجتمع عطَّال وغير منتج بسبب الملاهي والمعاملات الباطلة كالربا وغيره .
فهذه الفكرة من بعض الاعلام ليست في محلها إذ معها لا يبقى دو للشارع فلا يريد القران ان يقول ان الربا الذي عند الشارع منعدم بل يريد مقاومة الربا العقلائي { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ }[[2] ] فان الله هو مصدر التشريع لا البشر .
على أية حال لاحظ أهمية مبحث الانشاء فيجب الانتباه اليه وإتقانه وهذه ابجديات أصول الفقه هي مفاتيح لكل خارطة الأصول والفقه والغفلة عنها تسبب غفلات خطيرة .