43/03/19
الموضوع:الوضع
كان الكلام في نظرية ( الاندماج ) في مقابل البسط او التحليل في مقابل التركيب ، او الاندماج في مقبل التفصيل ، وان من فعاليات وأنشطة العقل البشري انه باستطاعته ان يدمج ويداخل بين المعاني ، وهذه الظاهرة التي ذكرها علماء البلاغة ان ثبوت شيء لشيء قبل العلم به إخبار ، ( جملة خبرية ) وبعد العلم به ( اوصاف ) فزيد غالب لهواه فبعد ان يعلم بهذه الصفة لزيد يقول زيد الغالب لهواه ، فيدمجها الذهن بدمج متوسط أقرب .
وبتعبير الحكيم الشيعي الملا صدرا ان الحكم في القضية لو يعتبر جزء رابع ، الأول الموضوع ، والثاني المحمول ، والثالث النسبة بين الموضوع والمحمول ، والرابع هو الحكم ، يقول ان فالحكم في الحقيقة عملية دمج بين الموضوع والمحمول فاذا سلم العقل بثبوت الشيء لشيء يدمجهما فيقول زيد الخالف لهواه ولو دمج متوسط او كبير ومن دون هذا الدمج لا يمكن الحكم ، فلا تبقى القضية مركبة بنحو البسط والتفصيل بل يكون هناك دمج .
وهذا الدمج الذي يمارسه العقل بإمكانه ان يدمج المعاني مرة بعد أخرى، كما أنه يمكنه ان يفصَّل المعاني من معنى واحد ، مرة بعد أخرى كما يقال في الانسان يستخرج منه سبعة معاني (جوهر ، جسم ذو أبعاد ، نامي ، متحرك بالإرادة ، حساس ) لأن النفس الإنسانية الموجودة في الانسان مركبة وكذا الجوهرية والنباتية أيضا مركبة ، فهناك عملية دمج مترامية متعاقبة يمكن ان يقوم بها الذهن ، وهناك عملية تفصيل مترامية متعاقبة أيضا .
في بحث الاجتهاد والتقليد في الدورة السابقة ( الثانية ) سبق أن مر بنا ان المراد من مدرسة النص مقابل
الرأي [[1] ] ليس المراد من النص اللفظ فقط ، خلافا لما يظنه الكثير ، بل المراد بالنص الوحي أعم من كونه اللفظ الصادر من المعصوم او النازل من الله او المعاني لذلك اللفظ مهما ترامت بحور المعاني وتعاقبت الى مالانهاية ، فالنص الوحياني لا يختص باللفظ ، فما يقوله البعض : ( لو كان هناك نص لسلمنا ولكنه ليس هناك نص ) فنقول له هل تسلم باللفظ فقط فماذا عن المعنى ومعنى المعنى وهلم جرا ، والذي يقوم باستخراج المعاني هو عملية التحليل بموازيين ودلائل وقرائن وشواهد .
ان هذا ـ التعامل مع اللفظ فقط ـ قشري مبتلى به جملة من الأصوليين والاخباريين ولذلك الشيخ المفيد والمرتضى والطوسي والمحقق الحلي وكثير من القدماء ، لا يركزون على التمييز بين الاصولي والاخباري بقدر التركيز بين المحقق وغير المحقق ، لأن القشري ـ سواء الاصولي أو الاخباري ـ يتصور ان معنى النص هو اللفظ والمعنى القريب من اللفظ فقط أما اذا استخرجت له المعاني بصناعة التحليل وشواهد دامغة لا يقبل ذلك ، مع أنّ ظهور المعنى القريب هو معنى مجازي او حقيقي هو درجة ظهور وليس نص ، فالنص ليس اللفظ بل هذه قشرية وحشوية مميتة للدين ، بل النص يعني الوحي وهو يشمل اللفظ والمعنى وما تعاقب ذلك من معاني الى مالانهاية ، بل عمدة الوحي في المعاني فمثلا تأويل القرآن ، أعظم شيء هو تأويله لا تنزيله فتنزيله محدود بعدد محدود من الآيات والكلمات مثلا بـ ( 114 ) سورة وبـ ( 77 ) ألف كلمة ، وأما معانيه فبحر لا ينزف والمعاني هي أم الكتاب وأصله { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [[2] ] لا عندكم ومن ثم { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ }[[3] ]
المقصود ان هذا الفهم منتشر جدا من كون النص هو اللفظ والمعنى القريب فقط وهو غير صحيح فالنص لا يقتصر على اللفظ بل يشمل كل درجات المعاني شريطة أن يكون بموازيين ودلائل وقرائن وشواهد ، ولذلك الشيخ المفيد والمرتضى والطوسي والمحقق الحلي وكثير من القدماء يؤكدون على خطورة المنهج القشري الحشوي سواء كان أصولي أو إخباري ، فالمجلسي& مبانيه إخبارية ولكن المعاني التي يحللها يسبح في المعاني أكثر من صاحب الجواهر الاصولي مع كون صاحب الجواهر أصولي وعارضته الفقهية أو صناعته الفقهية لا نضير لها ولكن مع ذلك سعة استخراج المعاني واحتمالاتها عند المجلسي في كتابيه ( مرآة العقول أو في ملاذ الاخيار ) أكثر من صاحب الجواهر بكثير وهذه تعطي للمستنبط فسحة أكثر في انتقاء دقة الاحتمالات وتركيبها .
فالأزمة العلمية الموجودة في الحوزات العلمية في الآونة الأخيرة التي إبتعدت عن منهج صاحب الجواهر وغيره من القدماء أنها تنحو نحو القسرية والحشوية باسم علم الأصول وهو بريء من هذا المنهج ، وبتعبير صاحب الجواهر لو كان الامر هكذا لما استقر حجر على حجر في العلوم الدينية ، فهل انقلاب النسبة وأقسامها نص ؟! كلا ليس نص ولا لفظ بل معاني ومعاني المعاني ، وكذا مبحث ( الترتب ) والجمع الواوي أو الاوي ليس نصا ولفظاً ، وليس المراد من النص هو اللفظ ، نعم التأويل او التحليل يجب أن تكون بشواهد وقرائن لا بالذوقيات ، ومن دون ذلك لا يمكن الاعتماد عليها ، ومثلا قاعدة الاستصحاب ( لا تنقض اليقين بالشك ) استخرج منها الأصوليين والفقهاء كتاب من ( 500) صفحة فهل هذه الاستخراجات ليست حجة لكونها ليست موجودة بلفظها ؟!
ان السير خلف الالفاظ فقط طريقة العوام لا طريقة الفقهاء والمجتهدين ، الذين يجهدون أنفسهم في تحليل المعاني وتركيبها ومنظومة المعاني سواء في علم الفقه أو الكلام او العقائد او التفسير وغيرها .
وبتعبير أحد الاعلام : ان الفقهاء وعلماء الدين استخرجوا من الرواية النبوية ( انما الاعمال بالنيات ) ( 36 ) قاعدة فقهية وأخلاقية وعقائدية وعرفانية ، لا (36 ) مسألة بل قاعدة .
ان عمل علم الأصول هو تحليل ما وراء المعاني وما وراء المعاني من الطبقة الثانية والثالثة وهكذا فهل اجتماع الامر والنهي وردت فيه ألفاظ ؟! ثم منظومة المعاني الواردة في الروايات كيف تشكلها فمن قال لك العام والخاص ، وعام العام وطبقات العموم ، فهل كلمة طبقات العموم موجودة في الروايات ؟ لابد ان ترتب منظومة مراتب العموم ومراتب الخصوص وتناسب بينها وتنسق وقد تأتي قاعدة انقلاب النسبة وقد لا تأتي مع ان الصديقة الطاهرة ÷ في خطبتها اشارت الى نظام العام والخاص والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ [[4] ] كما أشار اليه أمير المؤمنين ×في جملة من خطبه أيضا .
ان العام والخاص هو عبارة عن هندسة المعاني وهي اجتهاد وصناعة .
اذن عمدة الاجتهاد وأحد مراحله هي صناعة التحليل والتركيب وهناك مراحل أخرى منها التتبع في المواد وعلم الحديث أيضا من مراحله التي هي ثمانية .
فهذه النظرية ـ نظرية الاندماج ـ تريد ان تقول ان المعنى الحرفي ـ كما ذكر صاحب الكفاية ـ ماهية ـ في الغالب ـ متحد مع المعنى الاسمي والفرق بينهما لا كما ذكره صاحب الكفاية من كونه في اللحاظ بل في ان المعنى الحرفي مندمج ، فالمعاني الاسمية إذا قمت بدمجها عدة مرات تتحول الى معاني حرفية ، واذا تفتقها وتبسطها تكون معانيه اسمية فالحرفية دمج المعنى والاسمية فتق المعنى ولها شواهد من قبيل ما يقال في العامية ( اشلونك ) فهي عبارة عن ( أي شيء هو لونك ) فيدمجها العقل البشري في معنى معين فيكون أسم لفظ ، وبغض النظر عن اللفظ أيضا يدمج المعنى فيكون معنى واحد ويسمى ( اسم فعل ) وكثير من أسماء الأفعال هي جمل دمجها العقل في معنى معين .
والدمج كما مر بنا درجات ومن ثَم إختلفت المعاني الحرفية وضوحا وخفاءا وابهاما وانطواءاً وتفصيلاً كما ان المعاني الاسمية أيضا طبقات ومراتب كما صرح بذلك علماء البلاغة في أن أي اسم هو أعرف المعارف ، فالمعنى الحرفي هو نوع من المعنى المدمج اما بمرحلة أو بمراحل عديدة ، وكلما حصل الدمج أكثر فأكثر حصلت الحرفية أكثر فأكثر ، فالمعنى الحرفي معنى باطني ، والمعنى الاسمي معنى ظاهر ومتجلي .
وهذه النظرية إجمالا في أكثر الحروف التي إعتبرها الشيخ العراقي من المقولات ـ الاعراض النسبية في
القسم الثالث منطبقة تماما ، واما القسم الرابع ـ التي هي النسب والوجود التي لا ماهية لها هل هذه
النظرية قابلة للتصور أو لا ؟ فيه كلام ومنع .
ولكن إجمالا هذه النظرية جدا مهمة .
هذا تمام الكلام في المعنى الحرفي ويقع الكلام في الجملة الخبرية والانشائية والفرق بينهما وأسماء الإشارة والضمائر أيضا الملحة بالمعنى الحرفي ونستعرض القسم الرابع من الوضع وهو الوضع عام والموضوع له عام أو خاص في هذه الأقسام .