42/03/01
الموضوع: الإجتهاد والتقليد
لازلنا في بحث مقدمات الإجتهاد وباعتبار أنّ هذا البحث فيه آليات الإجتهاد فالمكث فيه مفيد أكثر ويثقل ملكة الإجتهاد، فمن ثمّ نبسط البحث فيه.
فكنّا في بحث قول اللغويين أو الإستعانة بعلم اللغة ومرّ بنا أنّه لامنافات ولامناقضة بين قول الأصوليين المتأخري الأعصار بعدم حجة قول اللغوي من أيّ علم من علوم اللغة وبين قولهم في باب الإجتهاد من أنّه لابدّ من المراجعة إلى قول اللغويين مع أنّ سيرتهم العلمية الرجوع إلى قول اللغوي في كلّ صغيرة وكبيرة، وما فيه تنافي لمّا بيّنّا أنّ المراد من عدم الحجية يعني بمفرده ليس بحجة، لكن من جهة تراكم الإحتمالات وتراكم الشواهد إلى أن يوصل إلى درجة الإطمئنان، هذا ليس ممنوعا عنه، نظير تعبير حتّی السيد الخويي رحمة الله عليه أنّ الشهرة ليست بحجة إلّا إذا أورثت الإطمئنان أو أنّ الشهرة ليست جابرة إلّا إذا أورثت اطميئنانا. هل هذه تناقض؟ هل «الا» استثناء متّصل أو منقطع؟
في موارد عديدة السيد الخويي في الظنون التي لم يتم لديه الدليل علی حجية ذلك الظنّ مع ذلك يستثنون إلّا إذا أورثت الإطمئنان. ربما الكثير يقولون في الجّو المعاصر أنّ الإطمئنان باعتبار أنّه بنفسه حجة وعلم عقلائي وإن لم يكن علما تكوينيا، هذا صحيح ولكن مقرر عند الأصوليين والمناطقة أنّ العلم إنّما يكون علما إذا نشأ من منشأ صحيح وسديد وإلّا من الهلوسة ومرض الأعصاب والوسوسة مثل قطع القطّاع هذا ليس بحجة.
ومّر بنا تنبيه الأصوليين منهم الشيخ الأنصاري في تنبيهات القطع أنّ قطع القطّاع إذا كان غير موزون -ونقل عن شيخ جعفر كاشف الغطاء- أنّه ليس بحجة ولامعذّر باعتبار أنّ هذا الجزم الذي يحصل لديه ليس ناشئاً من موازين منتظمة عند العقلاء ومقررة ومقولبة عندهم، فمن ثمّ لايكون معذور من جهة المنشأ. أمّا من جهة مرضه أو من جهة الجهل المركب ومن جهة أنّه قاصر إذا كان معذورا بحث آخر لكن من جهة قطعه ليس معذورا.
المقصود هذا المطلب وهو أيضاً الأصوليون في تنبيهات القطع ذكروا القطع في العقائد إذا كان ناشئاً من استبداد العقل برأيه من دون الإسترشاد بالوحي. هنا تحليل موقف الأصوليين من الفلاسفة أو العرفاء. القطع يعني الجزم وليس هو ذاتي الحجة وإن عبّروا أنّ القطع حجة ذاتية، لكن مسامحة لأنّهم في التنبيهات بيّنوا أنّهم ليس مرادهم مطلق الجزم، بل إنّما بلحاظ منشأه إذا كان موزونا وإنّما مرادهم اليقين لا القطع والجزم، كما في تعبير الإمام عليه السلام «فباليقين أقطع» ربّما الإنسان بغير اليقين يقطع وليس بحجة.
الآن أنّ الجهل المركب عنده قصور هذا بحث آخر أمّا إذا كان مقصّرا غير معذور. يعبّر الشيخ الأنصاري في باب القطع الناشئ من المقدمات العقلية لاسيّما في العقائد لاسّيما إذا يستبدّ بالعقل بنفسه عن رشاد الوحي والإسترشاد بالوحي ذكر الشيخ بأنّ الأدلة قائمة علی حتّى الخلود في النار علی الجاهل والمقصّر والملحد فبالتالي إذاً في كلام الأصوليين معنی القطع يعني اليقين يعني أنّ القطع لابدّ أن يكون ناشئ من منشأ سوي وموزون لا أنّ التجزم والجزم كيف ما حصل في نفسه حجّة. من أي منشأ حصل معذر ومنجز، ليس كذلك.
إذاً المنشأ له دور عند الأصوليين ،كذلك في الإطمئنان لأنّ اليقين أعلی من الإطمئنان فكيف بالإطمئنان. الجزم مراتب والقطع الجزم العالي. فقولهم بأنّ القطع حجيته ذاتية مسامحة منهم في التعبير. يفصحون الأصوليون عن مرادهم في تنبيهات القطع ومرادهم منه إذا كان منشأه صحيحاً وهذا هو اليقين لا القطع، تارة يقطع باليقين وتارة يقطع بمقدمات غير صحيحة ويقطع بالإلحاد. مثلاً يقطع بأنّ اللواط صحيح ومشروع وحق طبيعي وكذلك السحاق ويقطع بأنّ عبادة الشياطين صحيحة أو يقطع بأنّ الأغنياء لهم حق أن يبيدوا ثلثي سكان الأرض. بأيّ منطق؟ فالمنشأ لابدّ أن يكون موزونا.
فكلام الأصوليين أنّ القطع حجيته ذاتية ليس مرادهم القطع بما هو القطع بل المنشأ لابدّ أن يكون صحيحا، إذًا المراد منه اليقين لا القطع، لأنّ اليقين هو القطع الناشئ من مقدمات تكويناً منتجة للعلم. فإذا كان الأصوليون يتقيّدون ويقيّدون ويشترطون ويتشددون كالمناطقة في المنشأ في القطع فكيف بك في الإطمئنان.
الإطمئنان كما ليس بأيّ نحو حصل هو حجة عقلائية. بل إذا كانت المناشئ موزونة، فبالتالي الإطمئنان يحصل من تراكم الإحتمالات والقرائن وتتصاعد كمّاً وكيفاً فيصير الإطمئنان.
التجزم نتيجة الوسواس أو نتيجة حدّة عصبية أو أوهام أو الأمور الموجبة للالتباس هذا القطع والإطمئنان عقلائيا خاطئ. المهم أريد أن أنبّه علی بنيان عظيم عند الأصوليين وهو أنّ الأصوليين لما يبحثون أنّ بعض الظنون بمفرده ليس بحجة مرة أخری يبحثونه في الظنون إذا ولدت الإطمئنان وأنّها هل يصلح أن يكون منشأ للإطمئنان أو القطع، معناها أنّ الظن هناك منهجان أو ثلاثة في كيفية اعتباره. تارة بمفرده وتارة بانضمامه واجتماعه مع الظنون الأخرى فليس منحصرا طريق واعتبار الظنّ عند الأصوليين بالقالب المفرد. فالخبر الضعيف ليس بحجة بمفرده أمّا بالإنضمام من قال هم يقولون ليس بحجة؟ إشكال الأصوليين على الإخباريين بلحاظ الخبر الآحاد بانفراده. أمّا إذا هذا الخبر الضعيف انضمّ إلى الإخبار الأخرى ولو ضعف ولكن تراكمت الظنون والإحتمالات وحصل الإطمئنان علی عدم تواطئهم علی الكذب لأنّ هذا الطريق كوفي وذاك بصري أو ذاك مدني وهذا قمّي فما فيه تلاقي فيحصل الإطمئنان فهذا ليس تدافعاً بين كلام الأصوليين. بمفرده ليس بحجة وبالإنضمام حجة.
عندما يقال بالإنضمام في الإنضمام والتراكم ليس بنحو التكديس والعشوائي وأيّ ظنّ كان. بل عندهم الإنضباط في الظنون والمناشئ، فلايصح أن الإطمئنان أو القطع ينشأ من أيّ منشأ كائناً ما كان. لذلك في مبحث الإنسداد ذكر الأصوليون سواء ممن التزم بالإنسداد أو من التزم بالإنفتاح قالوا إنّما نقصد من بحث الإنسداد الظنون الشرعية. ما مقصودهم من الظنون الشرعية؟ يقولون الظنون التي هي في الأخبار في دلالة الآيات وفي فتاوی العلماء القدما وفي السيرة غير المقطوع بها. يعني ظنون مقاربة إلى مصادر الشرع، لا أن نبحث عن أنّ المستشرقين ماهي رؤيتهم حول الشيعة وفرق الشيعة، هذا ما له ربط بمصادر الشرع، رؤية المستشرقين ماذا، ما صلته بالشرع؟ طبعاً إذا كانت هناك شواهد وقرائن هذا بحث آخر لكن الكلام في قوله. البعض يقولون في علم الرجال نعول علی ما قاله المستشرقون ونجعله حكما. هذه أزمة ونظام عجيب غريب.
المهم إذاً المنشأ لابد أن يكون عقلائي موجودا. المقصود في أنّ الإطمئنان إذا تراكمت الظنون ليس المراد أيّ ظنّ ما. الظن الناتج من مستشرق فلاني لاأثر فيه. تارة تجد شواهد ترجع إلى مصادرنا هذا بحث أخر أمّا فيزياء ماذا ربطه بالعلوم الشرعية. من هذاالقبيل. المقصود هذا المطلب يجب أن نلتفت إليه وهو أنّ الإطمئنان يعوّل عليه عقلائياً إذا كان الإطمئنان ناشئ من قرائن موزونه عند العقلاء مدروسة لا أنّه تكديس عشوائي كيفما كان. هذا ليس منطقي، هذا يعني أنّ الظنون كيفية اعتبارها فيها أنظمة ثلاثة عند الأصوليين. نظام منفرد كخبر حسي أو الخبر الحدسي والنظام الثالث التراكم.
الآن من باب المثال تكوينا العصاء الضعيفة لايمكن استمداد القوة منها. لكن إذا انضمت هذه العصاء إلى عشرة أو عشرين غصن من أمثاله فيصير ضريب القوة فيها أكثر، شيء طبيعي. ضريب القوة صار أكثر ربما حتی أقوی من الحديد. الآن ربما الإنسان يستغرب أنّ الماء بطريق معيّن يجعلونه يقصّ الحديد، يستفيدون من قوته. عندنا في الروايات أنّ الله سلّط الماء علی كذا يعني بتكاثف وتركيز الضعيف فيصر قوي تكوين هكذا، تتراكم وتتركز فيصيرا قويا. وهذه القوة تكوينا كالحديد أو كالصخرة إنّما حصلت بالتراكم وهذا التراكم بالتالي ناشئ من كل ّواحدة واحدة. فلاحظ أنّ الغصن بوحدة لايؤثر لكن بالإجتماع يؤثر، وهلم جرا.
المقصود أنّه إذا تكوينا فكيف بالإعتبار قد يكون شيء بمفرده ليس لديه قدرة الحجية لكن بالإجتماع تكوينا يصير تراكم لكن هذا التراكم مشروط بأنّ كل واحد واحد من الظنون المتراكمة فيه نسبة مئوية من الظنّ والإحتمال المعقول عقلائياً حينئذ يصير حجة.
إذاً لاتدافع في كلمات الأصوليين عند ما يقول مثلاً أنّ الشهرة ليست بحجة إلّا إذا أورثت الاطمئنان. كلامهم في أنّه ليس بحجة بمفرده والحجة بالتراكم.
أكرر هذه الأمور لأنهّا كأنت صارت نسياً منسية في الذهنية العامة في جو الحوزة. والحال أنّها من بديهات علم الأصول، أنّ الشيء في نفسه ليس بحجة إلّا إذا أورثت الاطمئنان، هل فيه تنافي؟السيد الخوئي يقول الشهرة ليست بحجة إلّا إذا أورثت الإطمئنان. أنت تعترف أنّها ليست بحجة، ضمّ اللاحجة إلى لاحجة فلاحجة لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمات، حتّی التواتر إذا كان ناشئاً من الأخبار الصحاح، الأخبار الصحاح بالتالي واحد واحد منها ظنّ فكيف يتبدل تكوينا إلى اليقين؟ هذ التبدل التكويني من أين آت؟ الإعتبار مهما كان إعتبار فكيف يتبدل تكويناً إلي يقين، ليس التبدل إعتباري بل التواتر شيء تكويني وكيف حصلت التبدل؟ الهيئة الإجتماعية والإجتماع وجود تكويني يختلف عن البعض كل بعض بإنفراده. إذاً لاتنافي أن يقال نعم الشهرة ليست بحجة إلا إذا أورثت الإطمئنان.
هذا الاطمئنان هل من أيّ منشأ عبطي حجة؟ لا، إذاً معناه أنّ الشهرة لها الإعتبار إذا انضمّت ولو بتعبير الشيخ الأنصاري جزء الحجة. لكن بالتالي جزء مؤثر. بخلاف القياس وغيره أنّها ليست بحجة أصلا. لايمكن أن أقطع من طيران الغراب. هذه ليست موازين معقولة أو مدروسة أو علميا. فإذاً هذا النظام يجب أن لاننساه. نظام الثلاثي عند الأصوليين. إمّا خبر حسي بمفرده إن لم يكن الحجة خبر الحدسي مثل اخبار الفقيه أو قول اهل الخبرة أو التراكم .التراكم ليس تكديس عشوائي، لا بل مدروس. لذلك مر أنّ بنا مشهور الفقهاء ومشهور الأصوليين والرجاليين دأبهم أن يدرسوا درجة الضعف. الآن إذا ضعيف ماالفائدة؟ إذا هي تضعفك عشرة عشرين ثلاثين يدرسونها لأنّ هذا الضعيف بالإنضمام مع غيره والتراكم يصير قويا.
فهذه المقولة مزيفة في الأذهان في هذا العصر مع أنّه خلاف الفريقين طول طبقات قرون علماء الفريقين أنّ التواتر لايحصل من الأخبار الضعيفة، كيف لايحصل؟ غاية الأمر في الأخبار الضعاف يحتاج إلى كم أكثر من أخبار صحاح لا أنّه من أخبار الضعاف لايحصل التواتر وإذا يحصل من الأخبار الضعاف كيف تقول أنّ الأخبار الضعاف في المصادر كالعدم؟
التراكم له معنی آخر ومرّ بنا أنّ التواتر أقسام وأنا أعيد وأكرر هذه القضايا البديهية عند الأصوليين وفي جو العام وهذا العصر نوم ثابت عميق عن كثير من الفضلاء كأنّما ما سمع المطلب أصلا. مع أنّ كتب الأصوليين حتّی السيد الخويي مشحون بهذا في الشهرة والخبر الضعيف وقول اللغويين. إلّا إذا أورثت الاطمئنان يعني بالإنضام والتراكم. هذا المقدار كافّ لأجل التنبه من المباحث.
اطيل الكلام في مقدمات الإجتهاد لأنّها اللب في هذا المبحث في معرفة مفاتيح الإجتهاد ومعرفة ما ورائيات المباني. الإجتهاد مسئولية ولايكفي فيه غمض العين والثبات الفكري.
من الأمور التي ذكرها الفقهاء والآصوليون كما مرّ قول اهل الخبرة حجة في الموضوعات لا في الأحكام. قاعدة فقهية واصولية مهمّة. قول أهل الخبرة حجة فيما هم خبرة فيه. هذه القاعدة مؤثرة في الإستنباط والإجتهاد.
كيف مؤثرة؟ من جهات عديدة يمكن بالبيان الصناعي. أنّه كيف لابدّ للمجتهد الفقيه في الإستنباط أن يراجع قول اللغويين؟ أيضاً لابدّ للفقيه والمجتهد أن يراجع قول أهل الخبرة.
مثلاً مبحث في الربا والصرف النقدي إذا الإنسان لايراجع قول اللغويين لايمكن أن يستنبط من الروايات. بل لابد من مراجعتهم مع أنّ كلماتهم مرسلة فالرجوع لهم لا من باب الخبر الحسي المتّصل إنّما من باب تراكم الظنون وإلا السيد الخويي يرجع إلى قول اللغوي من باب سلسلة السند متصل عند اللغويين؟ لا، كلّها مراسيل بل يرجع إليهم من باب تراكم الظنون والإطمئنان. كذلك في الأخبار الضعاف. كيف لابدّ للفقيه أن يراجع إلى قول اللغويين في الإستنباط أيضاً لابدّ للفقيه أن يراجع إلى قول أهل الخبرة في الإستنباط.
ما شأن النخب التخصصية؟ الطب ما شأنه؟ لأنّ الفقه قانون يتعرض لكلّ أبواب الحياة المحيطة بنا فكلّ باب وكلّ فصل يأخذ موضوع معيّن وهذا موضوع فيه علم تخصصي وسنبين إن شاء الله في الجلسة اللاحقة أنّ مراجعة أهل الخبرة للتخصص في كل الموضوع أهم حتی من اللغويين في نفس الإستنباط التنظيري والنظري.