الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

42/02/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مناهج ثلاثة في الحجية وصحة الحديث عند الأصوليين

كان الكلام في مبنی الأصوليين لاسيّما المتأخرين في وجه حجية قول اللغوي عندهم أو وجه المراجعة إلی قول اللغوي باعتبار أنّ قول اللغويين في العلوم اللغوية المتعددة المتنوعة من مقدمات الإستنباط، مع أنّهم في باب حجية قول اللغويين يرون أنّ قول اللغوي ليس بحجة، فكيف الجمع بين هذين المبنيين عندهم. من جانب يقولون قول اللغوي ليس بحجة ومن جانب آخر يؤكّدون في باب الإجتهاد والتقليد على أنّه لابد في الإستنباط من الرجوع إلی قول اللغويين. فهل هذا تدافع وتناقض؟ لا، ليس تناقض.

إذن الجمع بين كلامهم ماذا؟ وهذا هو الذي نؤكد عليه أنّ مبنی الأصوليين عند ما يقال الروايات الضعاف في كتب الحديث هذا لايعني عدم الرجوع إلی تلك الروايات بمنهج آخر وبسبك وصياغة أخری عند الأصوليين.

كأن يجتمع من الروايات الضعاف التواتر أو إستفاضة ومرّ بنا أنّ التواتر بعضه وكثير منه نظريّ، التواتر المعنوي كثير منه نظري يعني لايكتشفه إلّا العالم، بل بعضه لايكتشفه إلا حذاق العلماء لأنّ المعاني خفية وأيضاً التواتر حجة. أو من الروايات الضعاف تشكل الإستفاضة اللفظية أو المعنوية وكذلك الإستفاضة المعنوية كثير منها نظري ولايكتشفه إلا الحذاق العلماء وعموم العلماء كثيرا ما لايكتشفونها بل روّاد العلماء يكتشوفها. مع وجود هذه الثمرة العظيمة في الروايات الضعيفة كيف يصوّر إهمال الرجوع للروايات الضعاف، لمَ نقتصر علی الجانب السطحي في الروايات يعني الجانب الإخباري في الروايات وهو جانب الصدور وهو منهج الأخباري.نعم لايكتشف التواتر لأن ليس همّه وغّمه تحليل المضمون وتفهّم وتفقه المضمون ومنهجه ليس منهج أصولي يعني أن ينظر إلی أصول المضمون ومن ثمّ لايعتني إلی الروايات الضعاف، أمّا من منهجه الأصول (الأصول يعتني يحلّل المضمون فيری بالتحليل فيها متأصّلا ينطبق مع أصول التشريع، متكرر. بلتحديد يرى).

لذا بكلّ وضوح نذكر أنّ المنهج الأصولي هو المنهج الذي يعتمد علی الإستنباط في المضمون وتحليل المضمون. والصدور ليس إلا قرينة والقرينة تعني جزء الحجة وقطعاً الصدور هو جزء الحجة حتّی عند السيد الخويي لأنّه بمجرد حجية الصدور لاتتم عنده حجية الخبر لأنّ حجية جهة الصدور وحجية الدلالة وحجية الصدور لابدّ من اجتماعها واجتماع الحجج المتعددة حتّی تتم حجية الحديث والخبر، فمع أنّ هذا الجزء جزء ليس له بديل عند السيد الخويي لكنّه عند المشهور له بديل لأنّ هناك ضمائم وقرائن يمكن الإعتماد عليها.

المقصود أنّ هناك بكلّ وضوح وصراحة منهج أصولي يعتمد علی المضمون وتحليل المضمون وإستنباط المضمون وهذا منهج أصولي، بينما الذي يعتمد حصرياً فقط علی الصدور بالصراحة هو منهج إخباري يعني إخبار الرواة في الحديث الشريف.

ليس الكلام في هذا المنهج منهج إخبار الرواة وهو منهج في نفسه متين لكن دعوی أنّه حصري الحجية فيه ليس بمتين وأن حجيته أقوی من حجية المضمون هذا محل الكلام، لأن المنهج الاصولي بهذا المعنى أتمّ من المنهج الإخباري الذي يعتمد علی الصدور بينما المنهج الأصولي يعتمد علی تحليل المعنی والمضمون.

فإذاً قول الأصوليين بأنّ قول اللغوي ليس بحجة يعني ليس بحجة منفردة وقولهم بلزوم الرجوع إلی قول اللغوي سواء في بحث الحجج أو بحث الإجتهاد والتقليد ذكروا هذا، قولهم بلزوم الرجوع إلی اللغويين يعني بلحاظ الإنضمام وهو جزء الحجة وهو المبنی هو الذي صرّح به الشيخ الأنصاري في حجية الإجماع المنقول.

فثلاثة أسناخ للحجية عند الأصوليين حجية الصدور والخبر الحسي وحجية إخبار الحدسي وهو كما مرّ بنا حجية قول أهل الخبرة وحجية ثالثة تراكم الظنون وتراكم الإمارات. هذا تراكم الإمارات يعبّر عنه الشيخ الانصاري بجزء الحجة هو منهج ثالث في سنخ الحجية إلی أن يولّد الإطمئنان أو الوثوق أو الإستفاضة أو التواتر. وهذه نكتة لابد أن نلتفت إليها ومهمة.

ذكرنا مثالا في الهلال أنّ ثبوت الهلال لابد له من البينة والبينة فيها لابد من العادلين لكن لو استفاضت الرؤية(والإستفاضة دون التواتر) حينئذ لاتشترط شرائط العدالة في الرائي لأنّ اللازم حينئذ الإطمئنان بعدم تواطئهم علی الكذب. مثلاً في هذا المثال يظنّ كثير بأنّ الشهادة بالرؤية في الهلال لابدّ أن تكون دوماً علی مقاييس ومعيار شرائط العدالة مع أنّه ليس هكذا. إذا كانت بيّنة، بيّنتين، ثلاث نعم أمّا إذا استفاضاً صارت من فوق عشرة نفرات متفرقين من الأماكن أو متفرقين في العلاقة ويطمئن عدم تواطئهم علی الكذب هذه الإستفاضة لاربط لها لإثبات الهلال من باب البيّنة.

فلاحظ أنّ التراكم يشترط فيه شرائط غير الشرائط التي يشترط في البيّنة أو في الخبر الواحد، فالتراكم يعبّر عنه الشيخ الأنصاري جزء الحجة وهذا التراكم منهج قويم اعترف به السيد الخويي حتّى في الشهرة، كما مرّ "الشهرة ليست جابرة للسند الضعيف إلا أن يولد الاطمئنان" يعني التراكم أو الشهرة ليست كاسرة للخبر الصحيح إلّا أن يورّث الإطمئنان بالوهن الضعف وكذا وهذا أيضاً من باب التراكم.

فإذا كان منهج التراكم مقرر به عند السيد الخويي فما بال السيد الخويي رحم’ الله في علم الرجال نسف كل قواعد التوثيق التي اعتمد عليها المشهور وصرّح به السيد الخوئي أنّه خالف المشهور في علم الرجال. كونه وكيل لا يعتمد عليه، كونه كثير الروايات لايعتمىد عليه، كونه صاحب كتاب وكونه من تلاميذ المشهورين وأساتذة المشهور وربما استعرض عشرين ثلاثين ضابطة اعتمد عليها المشهور ولم يقبل السيد الخويي منها إلا النادر.

المؤاخذة العلمية علی هذا المبنی الرجالي للسيد الخويي ماهو؟ أنّه سيّدنا أعز الله شأنه صحيح أنّ الضابطة هي حجة في نفسها واشكالك في محله مثل قول اللغوي ليس حجة لكن التراكم لماذا لا تورّث الإطمئنان مع أنّ هذا دأب الرجاليين و لماذا لاتسلك مسلك التراكم في بحوثك الرجالية بحيث سقّط كثير من الرواة بتضعيف هذا المنهج مع أنّه يقبله في علم الأصول. فلذا لاحظوا حتّى إشكالات السيد الخويي في أوّل مجلّد في علم معجم الرجال علی المشهور وهو اعترف أنّ مباني الأخرى مباني مشهورة وهو مبناه مبنی غير المشهور والعجيب أنّ البعض يريد يدافع على مباني السيد الخوئي الرجالية بأنّ هذا هو مسار المذهب. مسار السيد الخويي في علم الرجال يقول هذه الضوابط التي اعتمدها المشهور وأنا لاأعتمدها في التوثيق ليس مسار المشهور باعتراف وتصريح نفس السيد الخويي رحمة الله.

علی أي تقدير هذه النقطة الرئيسية أنّه لماذا لم يعتمد السيد الخويي تراكم القرائن والشواهد إلی أن تصل إلی الوثوق والإطمئنان. ربما السيد الخوئي تجمع قرائن عديدة في شخص ويناقشها بنقاش انفرادي. اللطيف في صحيحة عبدالله بن أبي يعفور وهي من أهم الروايات التي تتعرض بتعريف ماهية العدالة يبيّن الإمام الصادق سلام الله عليه كونه يواظب على صلاة الجماعة، كونه لايرتكب الفجور، كونه يؤدّي الأمانة و و و قرائن واحدة واحدة منها التي ذكرها الإمام لاتلزم العدالة وليست هي حجة بنفسها لكن مجموع هذه القرائن والشواهد يدلّ علی حسن الظاهر وكاشفة عن العدالة، فنفس هذه الصحيحة أنّه اعتمد السيد الخوئي حتّى في باب القضا وباب الشهادات هي نفسها دليل علی تراكم القرائن. فهذه مؤاخذة منهجية بنيوية أساسية علی مشي السيد الخويي في الرجال.

مع أنّ الإشكال الذي يسجّله السيد الخويي والأصوليون علی قول اللغويين من أنّ قولهم ليس خبر حسي. لماذا ليس خبر حسي؟ لأنّه لم تذكر أسانيد ومسلسلات معنعنة لقول اللغوي إلی البيئة العربية التي ينقل عنها. جيّد! فواحد له أن يقول فماذا عن كتب الرجال؟ لماذا اعتبر السيد الخويي أقوال الرجاليين من باب الإخبار الحسي وادّعی أنّ هناك تواتر في كتب الرجال؟ هل نحتمل أن كتب الرجال أكثر من كتب اللغة؟ لانحتمله يعني كتب اللغة متوفرة بوفور جيلا بعد جيل. فكيف هنا لم يقبل في قول اللغويين أنّه خبر حسي متواتر وقالوا مرسل ومراسيل فكيف يعتمدون عليه في الإستنباط من باب تراكم القرائن والإحتمال، الإنضمام، جزء الحجة، المنهج الثالث. جيّد! لكن كيف في الرجال رفض منهج الإنضمام وتراكم الإحتمالات وشدد فقط علی اعتبار الخبر الحسي؟ ومرّ بنا أنّ هناك ثلاثة أنماط للحجية. هو رفض تراكم الإحتمالات في علم الرجال وشدد وأكّد علی الخبر الحسي مع أنّ الخبر الحسي ليس متصل ومسلسل في كتب الرجال في غالب الموارد ليست مذكورة الأسانيد. فكيف هذا الإرسال أو الجهالة بالإسناد يعالج عند السيد الخويي؟ يعالج بأنّ الإسناد متواتر، كتب الحديث أكثر من كتب الرجال وكتب اللغة اكثر من كتب الرجال. لابأس إذا لم يكن كتب اللغة متواترة فكتب الرجال أيضاً ليست متواترة. فلايمكن أن تبني علی الخبر الحسي لأنّه مرسلة. فيبقی تراكم الإحتمالات وهو أقوی منهج في علم الرجال وليس فقط في علم الرجال بل حتّی في حجية الرواية.

من قال نحصر حجية الرواية في الخبر الحسي المعنعن والمسلسل؟ بل المضمون الذي هو إخبار خبروي. المضمون إذا طابق أصول التشريع ومحكمات الكتاب ومحكمات السنة، هذه حجية خبروية يصحّ الإعتماد عليه. الفقيه يقول هذا حكم الله، من أين يقول حكم الله مع أنّ اللفظ ليس واردا. من أين يسند الفقيه أو حتّى المتكلّم هذا الحكم إلی الله إلي الدين وإلي النبي مع أنّه ليس ملفوظا؟ لديه كثير من التفريعات والفروع التي يخوض فيها الفقهاء ليست واردة في ألفاظ النصوص. إخبارهم بأنّ هذا الحكم من الله من أين؟ حتّی في شهر رمضان يفتون هل هو كذب علی الله ورسوله؟ لا، لأنّه يری وجود هذا المعنی في الأصول التشريعية أو بلأدلّة الثابتة ولو بنحو مطوي وبترامي المعاني. ترامي المعاني يعني المعنی علی المعنی إلی عشرات معاني، هذا المعنی لايتلفظ به الراوي عن الإمام مع ذلك الفقيه يسنده إلی الله ورسوله لأنّه الوحي ليس فقط ألفاظ والوحي ليس فقط المعاني القريبة من الألفاظ بل الوحي هو بحور المعاني لهذا اللفظ.

إذا أتت أصول تشريعية في الكتاب والسنة وهذه الأصول التشريعية لها أمواج من المعاني وتداعيات من المعاني كلّ هذا وحي والوحي ليس فقط اللفظ ولا المعنی القريب من اللفظ فقط كما مرّ في مدرسة النص. بلغ ما بلغ من المعاني اللامتناهية مادام هي متصلة ومترابطة بموازين كلّها وحي بل الوحي عمدته في بحور المعاني وليس في الألفاظ. فكيف الفقيه يسوغ له أن يسند إلی الله ورسوله مع أنه ما ورد في اللفظ وأنّما هي معنی معنى معني الخامس من اللفظ مثلا؟ هذا إخبار من الفقيه عن الله ورسوله بخبروية العلم لا بالنقل الحسي. هذا هو المنهج الثاني من الحجية وهو حجية المضمون وصحة المضمون.

ذكرت للإخوان أنّ في كتاب النجاشي وكتاب الغضائري وكتب الرجال صحّة الحديث لاتطلق علی الصدور. هذا اصطلاح الرجاليين. يقال أنّ الراوي احاديثه صحيحة يعني مضمونها صحيح ومطابقة للأصول وقواعد المذهب. الصحة لفظ الصحة عند الرجاليين وصف للمضمون وليس وصف للصدور وسلسلة سند الصدور. هذا اصطلاح السيد احمد بن طاووس رحمة الله عليه أمّا اصطلاح القدماء المفيد والمرتضی والطوسي والصدوق والكليني في بداية كتابه مرادهم من الصحة صحة المضمون. هذا الإصطلاح لا فقط عند الإمامية بل عند العامّة أيضاً الصحة يعني صحة المضمون، لما يقولون صحيح البخاري أو الصحاح الستة ليس كما توهّم الذهبي أو الحاكم النيسابوري أنّ اسانيدهم صحيحة بل مرادهم من صحة روايات الصحاح الستة أنّ مضامينها صحيحة ومطابقة للثوابت عندهم.

عندما يقال مثلاً بالهجوم علی بيت فاطمة في كتاب البخاري وهذا ليس فقط تفرّد به البخاري بل موجود في أصول الحديث، ماتت سلام الله عليها حين ماتت وهي غاضبة عليهما. هذا المضمون موجود في البخاري والمسلم يعني هذا المضمون ثابت فمعنی الصحاح الستة ليس كما يتوهّم أنّ رجال الأسانيد فيها صحيحة. فيها مراسيل إلي ما شاء الله، كيف يعني صحاح؟ أو فيها رواة اتفقوا علی ضعفها فكيف كتاب البخاري صحيح. المقصود من الصحة صحة المضمون.

الآن كيف حصلت التغيير في معنی لفظ الصحيح في القرن السابع عندنا وعندهم؟ عندنا سيد أحمد بن طاووس وبدت مدرستنا، عندهم أيضاً تبدّل فكيف تبدّل هذا الإصطلاح وعمّي على اصطلاح القدما؟ إلی الآن ما اكتشفته كيف وملابساته كيف؟ هذا من باب اختلاط الإصطلاحات. القدماء يعني قبل المحقق الحلّي فما قبل يطلقون الصحة بلحاظ المضمون لا بلحاظ الصدور، الصحة يعني الحجية والحجية عندهم مدارها المضمون. هذا منهج ثاني في علم الأصول.

والمنهج الثالث في الحجية هو تراكم الضمائم والقرائن يعبّر عنه جزء الحجة. وهذا متّبع في قول اللغوي وحقيقتاً هو عمدة باب في علم الرجال. فالتشدد بحبس المسيرة العلمية تضيق فقط في المنهج الأول؟ لا له أيّ وجه. يعني حجية الحديث فقط وفقط تعتمد علی جانب النقل الحسي. طبعاً تراكم القرائن والضمائم أيضاً نقل حسي لكنّه حجية حسية بقرائن حسية أو غير حسية أخری. تراكم الإحتمالات آوتراكم القرائن بالدقة يعني انضمام لشواهد النقل الحسي أو شواهد النقل الخبروي. كأنّما المنهج الثالث خليط مزيج للمنهجين الأول والثاني. هذه قوالب صناعية مهمّة يجب الإلتفاف إلی مناهج ثلاثة في الحجية عند الأصوليين وفيه مناهج أكثر. هذه الثلاثية سنخاً وقالباً وصناعياً تختلف عن بعضها البعض. فإذاً اخبار الروايات ضعيفة الصدور لاتعني ضعيفة المضمون. هذا هو المنهج الصدور ربما صحيحة الصدور لكنّها ليست صحيحة المضمون. مضمونه متدافع مع أصول التشريع. فإذاً لايقتصر علی جهة الصدور فقط. هناك عند الأصوليين الإخبار أوالنقل الخبروي، يعني يعتمد علی العلم ويعتمد علی قدرة العالم في كيفية ربط هذا المضمون الخاص بالأصول التشريعية أو منهج ثالث وهو تراكم الإحتمالات أعمّ من قرائن حدسية أو حسية. كثيرا ممن أدركناهم من الأعلام الكبار لايتمسكون إلی منهج السيد الخويي ويتمسكون بالمنهج الثاني والثالث أيضا.