الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

42/02/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: ثلاثية نظام الحجية عند الأصوليين

كان البحث في مقدمات الإجتهاد وكان البحث فيها أنّ الأعلام في باب الإجتهاد والتقليد الأصولي ذكروا أنّ علم اللغة من العلوم المقدمية للإجتهاد والإستنباط ومرّ بنا أنّ الأعلام في باب حجية قول اللغوي منعوا كونها حجسة من الحس النقلي لأنّها ليست أسانيد مسلسلة في كتب اللغة سواء كتب علم اللغة المفردات أو العلوم اللغة الأخرى ولا هي أيضاً حجية من باب الخبروية يعني الإخبار الحدسي الذي يعتمد علی الملكة العلمية، فإذاً ليست لها حجية مخصوصة.

المقصود هذا الثنائي الذي ذكره الأعلام في باب حجية قول اللغوي يشكّل نظام صناعي عند الأعلام في سنخ الحجية، لأنّ الحجية إمّا أن تكون عن طريق السماع والنقل الحسي وهو شأن الرواة وحيثية الإخبار في الحديث الشريف يعني جهة الصدور أو تكون حجية الإخبار من جهة المضمون ومن جهة الخبروية. يعني مثلا يقول الفقيه: إن هذا الحكم الموجود ولو في الخبر الضعيف صدوراً مطابق للأصول التشريعية ووجود هذا الخبر منبّه لوجود هذا الحكم في نفس الأصول التشريعية أوالقواعد العامّة والعمومات فبالتالي الفقيه يستكشف صحة المضمون وحجية المضمون من أصول التشريعية يعني من جهة أصولية ولايستكشف حجية الخبر من جهة إخبار الرواة، فدائماً الحديث فيه جهة إخبارية وهي الصدور ولذلك الأخباريون لا كلهم بل الأكثر منهم عدا المحققين منهم يهتمون بجهة الصدور وإخبار الرواة بينما الأصوليون يهتمون بجهة المضمون وعندهم الصحّة أيّ الحجية تدور مدار المضمون وهو منهج الأصولي أن يلاحظ مضمون الخبر بالتحليل والتدقيق الصناعي ومفاده متطابق مع أصول تشريعية أولية فوقية.

فإذاً هناك هذا الترديد الثنائي التي ذكرها الأصوليون في قول اللغوي في الحقيقة تمثّل منهجان في سنخ الحجية: حجية حسية إخبارية وحجية حدسية أو قل علمية تحليلية تعتمد علی الفهم. إذاً هذه الثنائية وتيرة موجودة في كل الأبواب وليست خاصة بقول اللغوي.

ثمّ يذكر الأعلام في حجية قول اللغوي منهج ثالث قبِله الأعلام طرّا في منهج الثالث في حجية قول اللغوي أو قول اللغويين. يعني سنخ ثالث إلی حدّ ما. السنخ الأول الإخبار الحسي وإخبار الرواة ومنهج أخباري يعني جهة الصدور والجهة الثانية وهي المضمون وهي الجهة الخبروية.

جهة الحس في قول اللغويين غير موجود لأنّه ليس هناك سلاسل مسلسلة. طبعاً قول الرجاليين كذلك. فإذاً الإخبار الحسي النقلي غير موجود في قول اللغوي لأن ليس هناك أسانيد معنعنة والإخبار الحدسي أيضاً غير موجود لأنّ اللغويين ليست لديهم استنتاجات معقّدة أو ما شابه ذلك تعتمد علی الملكة العلمية وليست عندهم الأقيسة والاستدلالات، هكذا زعم الأكثر بما فيهم حتّى السيد الخويي رحمه الله، حينئذ كيف نستند إلی قول اللغوي؟ السيد الخويي متشدد في جهة الصدور في جهة حجية إخبار الروات وفي جهة إخبارية في الرواية دون جهة الأصولية في حجية الخبر وهو المضمون. أيّ منهج إذاً في قول اللغويين؟ يعوّضون بمنهج ثالث منهج واسع وعامّ وهو منهج تراكم القرائن أو منهج تراكم الإحتمالات إلی أن يصل إلی درجة الإطمئنان أو درجة العلم. هذا التعبير موجود في كتاب الكفاية؛ قال: إن قول اللغوي غير حجة وأدرجوه في الإطمئنان.

لسائل أن يسئل من باب التوضيح: أيها الأصوليون قلتم أنّه ليس حجة ثمّ من باب الإطمئنان اعتبرتموه؟ كيف يمكن نفي الحجية عنه في بداية البحث وتثبيت الحجية في نهاية البحث؟ ماذا تريدون؟ لماذا لازال الأصوليون يقولون بأنّ قول اللغوي ليس بحجة ومع ذلك من باب تراكم الإحتمالات يعتدّون به، هل هذا تدافع في كلماتهم أو لا؟

الجواب أنّه ليس تدافع، لأن مراد الأصوليين من عدم حجية قول اللغوي يعني بما هو قول اللغوي الذي يورث الظنّ هل هذا ظنّ خاص قام الدليل خاص علی حجيته؟ قالوا ظن لكن لم يقم دليل خاص علی حجيته. لكن إذا تراكمت قرائن أخری معه وضمائم أخری وشواهد أخری ووصلت إلی درجة الإطمئنان، فالإطمئنان حجة لا قول اللغوي بما هو ظنّ.

شبيه كلام السيد الخويي رحمة الله عليه أو كلام الأصوليين أنّ الشهرة ليست جابرة وليست حجة إلّا عند في بعض الحادقين من مقرري السيد الخويي قرروا هذا المطلب منه رحمه الله. الشهرة من باب الظن ليست جابرة للخبر الضعيف ولا كاسرة وموهنة للخبر الصحيح، إلّا إذا إذا وصل إلی الإطمئنان. يعني هي كالظن ليست حجة لكن إذا انضمت إليها قرائن أخری توجب الإطمئنان فتكون حجة، يعني محصّل المجموع من هذه القرائن التي أورثت الإطمئنان و العلم يكون حجة، هذه في الشهرة مع أنّها في نفسها وفي ذاتها لازالوا يقولون أنّها ليست حجة. إذاً لاتدافع بين كون الشيء كظنّ غير حجة لكنّه يستثمر بضمائم وقرائن يولّد الإطمئنان. شيء هو في نفسه ليس حجة كالشهرة عند السيد الخويي وعند الأصوليين المتأخري هذا العصر أو كقول اللغوي، هو في نفسه ليس بحجة.

كيف انضمام اللاحجة الی اللاحجة يورّث الحجية؟ لأنّه يتبدل تكويناً من الظنّ إلی الإطمئنان. ظنّ ليس بحجة لكن انضمت اليه ضمائم غير حجة وتورّث الحجية. من لاحجة ولاحجة اصبحث محجة. هل هذا اشكال يرد علی الأصوليين؟ لا، لأنّه تغيّر تكويني كالتواتر. شاهد التواتر حجيته ليست ظنية بل حجيته يقينية قوية وينشأ من الظنون سواء الظنون المعتبرة أو الظنون غير المعتبرة.

لبعض يتخيّل أنّ التواتر لايصحّ أن ينشأ من الأخبار الضعاف لأنّ الخبر الضعيف لايمكن أن يشكّل عنصر تراكمي كمّا وكيفا للتواتر هذا وهم بعيد جدّا، وإلّا الشهرة كيف القضية فيها؟ الشهرة في نفسها ليست حجة لكن بالضمائم تصل إلی درجة الإطمئنان وتصير حجة. لأنّه تغير تكويني. هذا المنهج الثالث سنخ ثالث من الحجية الشيخ الأنصاري سمّاه السنخ الثالث وبيّن هذا السنخ الثالث في حجية الإجماع المنقول.

قال إن الإجماع المنقول ليس حجة مستقلّة في نفسه. إذاً ما هو مبناه في حجية الإجماع المنقول؟ يقول مبنايي هو مبنی الشيخ أسد الله التستري وهو تلميذ الوحيد البهبهاني وتلميذ وصهر الشيخ جعفر كاشف الغطاء وعديل المحقق الاصفهاني صاحب كتاب هداية المسترشدين وهو أيضاً صهر الشيخ جعفر كاشف الغطاء. الشيخ أسد الله تستري عنده كتاب قيّم جدّا "كشف القناع في حجية الإجماع" ينتهي إلی هذا الرأي أنّ الإجماع المنقول في نفسه ليس بحجة مستقلّة لكنّه جزء الحجة.

ماذا جزء الحجة؟ مقصودهم يعني بالإنضمام إلی درجة الإطمئنان فيكون حجة. فيسميه الشيخ جزء الحجة. ليس كما تمام الحجة. في بعض الظنون تمام الحجية معتبرة وفي بعضها الحجية تراكمها وانضمامها إلی بعضها البعض تكون الحجية وهذا منهج ثالث وتكون حجّة.

كيف هذا جزء الحجة أو التراكم سنخ ثالث من الحجية؟ للأسف مغفول عنه مع أنّ السيد الخويي يعترف به في الشهرة ويقول الشهرة ليست حجة إلّا إذا تورث الإطمئنان وليست كاسرة للخبر الصحيح إلّا أورثت الإطمئنان، هي بالإنضمام تورث الإطمئنان يعني السيد الخويي يعترف بهذا السنخ الثالث من الحجية.

لماذا هذا سنخ ثالث؟ لأنّ هذا الهيكل العام في الحجج غيّب عن الأبحاث للأسف مع أنّه موجود بالتدبر وقرائة ما وراء ألفاظ علم الأصول فيُری أنه موجود عند الأصوليين والآن غفل للأسف. هذه هيكلية ثلاثية للحجية. هذا الثالث الذي يعترف به السيد الخويي في الشهرة أو الشيخ الأنصاري في الإجماع والشيخ اسد الله تستري هذا ما هو معناه؟ لماذا سنخ ثالث؟ سنخ ثالث أولاً هو ليس ذاتاً حجة مستقلة بتمام الحجية بل جزء الحجية تنضمّ إليه ضمائم.

لماذا عبّر عنه الشيخ الأنصاري أنّه جزء الحجة مثل الإجماع المنقول؟ هل عندنا قالب صناعي يسمّى جزء الحجة وقالب صناعي تمام الحجة؟ يقول الشيخ الانصاري موجود عندنا، لماذا يقول جزء الحجة؟ لماذا ما قال أن الإطمئنان هو حجة؟ هل الإطمئنان حجة ولو من طيران الغراب؟ أو هل القطع حجية ذاتية ولو من طيران الغراب؟ هذا الكلام خاطئ وعاطل وباطل. الإطمئنان صحيح حجة عقلائية بتعبير الشهيد الثاني يتاخم حجية القطع واليقين ولكن ليس فوضى. الأصوليون لايعترفون بأنّ حجية القطع ذاتية، أين اعترفوا بأنّ حجية القطع ليست ذاتية؟ قالوا قطع القطّاع إذا كان مقصّرا ليس معذورا، أيضا ًقالوا في القطع الناشئ من العقليات النظرية المتوغلة في النظريات العقلية في العقائد إذا لم يصب الحق وبلغ الی الضلالة أيضا غير معذور. الشيخ الأنصاري ينقل في الرسائل هذا تصريح من الأصوليين أن القطع في ذاته ليس حجة. فحجية القطع من أين؟ إذا كان يقينا، يعني ناشئ من مقدمات صحيحة، القطع في نفسه ليس حجة إنّما إذا كان ناشئا من مقدمات صحيحة وكان يقينا.

اليقين فرقه عن القطع ماذا؟ يقول اميرالمؤمنين عليه السلام: فباليقين أقطع، لو كان معنى اليقين هو القطع لكان معنی كلامه سلام الله عليه بالقطع أقطع فيصير تكرارا. يقول سلام الله عليه باليقين أقطع لا بالظنّ الفاسد أقطع أو بالظنّ أقطع. اليقين يذكروه في المباحث العقلية أنّ اليقين هو الذي ينشأ من مقدمات تولّدت نتيجة الإذعان بنتيجة تولدت من مقدمات واقعية، هذا يسمّی يقين. فاليقين درجات حق اليقين وعلم اليقين وعين اليقين وهذا درجات اليقين. ضابطة اليقين أنّه اذعان بنتيجة تولدت واقعيا من مقدمات واقعية لاسراب وهمي. القطع يعني الجزم والتجزّم. ربّما يتجزّم الإنسان من الظنون. الحجية الذاتية لليقين وللمقدمات الواقعية المنتجة.

إذاً لاحظوا، حتی في باب القطع الأصوليون لايسلّمون بأن القطع بلغ ما بلغ ونشأ ما نشأ حجة. العبارات قد يتوهّمها لكنّها مسامحة وهم يستدركون علی عباراتهم في تنبيهات القطع، قطع القطاع والقطع الناشئ من المقدمات العقلية في العقائد. نعم الشيخ الأنصاري يذكر في تنبيهات القطع في الرسائل أنّ القطع الناشئ من المتوغلات العقلية ممن يستبد صاحبه برأيه عن الوحي قد يوجب الخلود في النار لايوجب العذاب والمؤاخذة. إن انزلغ إلی الضلالة يوجب الخلود يعني زيادة علی أصل التنجيز وعدم المعذورية شدة العقوبة.

فإذاً الجزم او القطع أو الإطمئنان لايسلّم الأصوليون علی أنّه إذا نشئ الإطمئنان أو الجزم من أيّ منشأ حجة، هذا كلام فاضي وباطل. إنّما لابدّ أن يكون ناشئا من منشأ صحيح مطابق للواقع، حينئذ هذا الإطمئنان حجة وحينئذ هذا القطع حجة. إذًا الأصوليون في باب الحجية لايعتدون بحجية الإطمئنان مطلقا ولايعتدون بحجية القطع مطلقا إلّا إذا نشأ من مناشئ سوية وقويمة عند العقلاء.

فتراكم القرائن وتراكم الإحتمالات إذا يولّد الإطمئنان أو يولّد القطع إذا كانت هذه القرائن معتدّ بها وإن كانت هي غير معتدّ بها مستقلة ومنفردة لكنّها معتدّ بها منضمة فيكون حجة، أي أن هناك اعتبار للشي تارة بمفرده وتارة اعتبار للشي منضما. إذاً ما ذكره الشيخ الأنصاري دقيق. في بحث حجية الإجماع أنه جزء الحجة يعني الاعتبار له حال الإنضمام وإن لم يكن الإعتبار له حال الإنفراد .

لاحظ هذا السنخ الثالث ليس اخبار حسي ولا اخبار حدسي بل إنّه جزء الحجة. جزء الحجة ليس همج رعائ. الأصوليون في باب الإنسداد قالوا والآن غابت هذه الجواهر الأصولية عن أذهان الجوّ العلمي العام. الأصوليون في باب الإنسداد صرّحوا حتی الذين يخالفون الإنسداد مثل الناييني والعراقي والكمباني وصاحب الكفاية لكنّهم بحثوا الإنسداد في مبحث الإنسداد قالوا إن الأخبار الضعاف جزء الحجة تصلح أن تكون جزء الحجة يعني بالإنضمام يتولّد الوثوق أو الإطمئنان. بل قد يكون من أخبار الضعاف يتولّد الإطمئنان أو يتولّد القطع أو التواتر الذي مرّ بنا في بداية الحديث كيف التواتر يتولّد من الظنون سواء المعتبرة أو غير المعتبرة. هذا تبدل تكويني من الظنّ إلی القطع. كيف الظنون المعتبرة تتبدل إلی القطع واليقين تكوينا، هذا التبدل نفسه حاصل بالظنون غير المعتبرة.

معنی النظون غير المعتبرة ليس أنها صفر. هذه حقيقة عجيبة مغفولة عنها. بل معناها أنّها بمفردها ليست معتبرة بخلاف القياس القياس ليس حجة معتبرة بمفرده ولا حجة معتبرة منضمّة. الإستحسان والمصالح المرسلة وعدّة ظنون أخری أجمع علماء الإمامية أو تسالم أكثرهم علی أنّها ليست بحجة لامستقلة ولامنضمّة. إذاً لاحظ هذا ناموس في باب نظام الحجية عند الأصوليين. إن الشيء قد لايكون حجة منفردا لكن يكون حجة منضمّة وشيء آخر لايكون حجة لامنفردا ولا منضما. يجب أن يكون في الأبحاث تدقيق. هذه هي نخاع علم الأصول. العمليات الجراحية في النخاع صعبة. نفي الحجية عن شيء ماذا معناه؟ الشهرة عند السيد الخويي ليست بحجة مستقلّة لكنّها ليست حجة مستقلة لكّنها حجة اذا انضمت. الإجماع المنقول حجة منضمّا. هذا من السنخ الثالث فثلاث أسناخ من الحجية عند الأصوليين. البحوث جوهرية ونخاعية وإن شاء الله نكمّل