الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

42/02/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: باب الاجتهاد والتقليد، مراحل الاستنباط / المرحلة الثامنة / المبادئ الاحكامية و أصول القانون

كنا في مبحث مقدمات الاجتهاد وعمليات الاستنباط الثمانية ووصل بنا المقام الی المرحلة الثامنة وهي تدقيق نتيجة الاستنباط بتوسط منهج أصول التشريع.

في ختام هذه المقدمات وطبعا لازالت عندنا جملة من النقاط والنكات، نكتة مهمة يجدر الالفات اليها وهي مهمة؛ طبعا هذا المنهج منهج أصول التشريع منهج مهم وقد تم الخوض فيه في مباحث عديدة في علم الأصول وسابقا يسمی بالمبادئ الأحكامية. المبدأ يعني الأصل والحكم هو القانون، الحكم والقانون والتشريع عبارات وتسميات عديدة لحقيقة معينة في علم أصول الفقه. علم أصول الفقه يشتمل علی علمين؛ علم الدلالة التصورية والتصديقية، الالفاظ والحجج وعلم المبادئ الأحكامية يعني أصول القانون واصول التشريع.

علم أصول القانون ما بلور في علم الأصول بشكل مبسوط لكن في الأعوام الأخيرة تلقائيا العلوم القانونية وسابقا علی ذلك الحوزة العلمية أخذ علی بلورته أكثر فأكثر وهذا المبحث أخطر وأهم بكثير من علم الدلالة سواء الدلالة التصورية أو الدلالة التصديقية.

علم أصول القانون علم ثبوتي بينما علم الدلالة علم إثباتي، مثلا المسائل العقلية غير المستقلة الخمس التي يبحثها الاصوليون طرا كلها من مسائل المبادئ الاحكامية أو قل من اصول القانون، مثل مبحث مقدمة الواجب ومبحث الضد وهلم جرا، بحوث ثبوتية وليست بحوث اثباتية والبحث الثبوتية مقدم علی البحث الاثباتي. يعني الأدلة الاجتهادية الإثباتية مقدمة علی الأصول العملية الاثباتية لكن البحوث الثبوتية مقدمة علی الأدلة الاجتهادية كتقدم الأدلة الاجتهادية علی الأصول العملية. لذلك الشيخ الانصاري قدم مبحث القطع علی مبحث الظنون لأن مبحث القطع هو الوصول للواقع والثبوت مثل اجتماع الأمر والنهي ويعتبر من مباحث أصول القانون. فمباحث أصول القانون مباحث ثبوتية ومقدمة علی المباحث الاثباتية. هذا من أهمية أصول القانون.

الكثير من الاعلام والفقهاء سابقا يعتبرون جملة من الآيات الموجودة أو الروايات الموجودة في فلسفة التشريع من باب حكمة التشريع وبالتالي لايتمسك بها في الاستنباط. حِكَم التشريع وليست علل التشريع والحال أن هذه الايات الكثيرة والروايات الكثيرة بالدقة هي قوانين وأحكام، غاية الامر هي من أسس التشريع والطبقات العليا وطبعا في الطبقات العليا في التشريع.

من باب المثال؛ موظف إداري أو بلدي إذا يريد أن يتمسك بالقانون ليس من صلاحيته أن يتمسك بالقوانين الدستورية بل يتمسك بالقانون الوزاري، حتی المشرع والمقنن الوزاري ليس له أن يتمسك بالقوانين الدستوري بل لابد أن يتمسك بالقوانين البرلمانية. أما الذي يحق له أن يتمسك بالقوانين الدستورية إنما هو المقنن البرلماني، لا أن القوانين الدستورية ليست قوانين بل قوانين لكن هذا القانون من الذي يتمسك به وفي أي موضع يتمسك به، بحث آخر.

يعني من باب المثال القوانين الدستورية ليس من شأنها أن تكون قوانين مباشرة لعمل الموظف البلدي الوزاري. القوانين الدستورية دورها تنظيم القوانين البرلمانية أو الوزارية لا أنها آلية عملية للعمل المباشر. هذا طابع مهم في القوانين، أن بعض القوانين مع أنها قوانين في جانب العمل لكنها ليس من شأنها مباشرة التماس بعمل الفرد. شأنها ودورها تنظيم منظومة القانون وليس شأنها التماس المباشر وهذا طابع مهم في القوانين دورها نظم القوانين. لكن البحث الاصولي المعتاد الرسمي لم يتعرض بهذه القوانين. نعم، زوايا علم الأصول تعرض لها ارتكازا، لكن المباحث الرسمية لم يتعرض بها.

بعبارة أخری: إن بعض القوانين قانون القوانين للعمل، يعني تقنن القوانين، نظير المسائل الأصولية غير أصول القانون. مثلا مبحث مراحل الحكم أو مبحث تقدم الظنون علی الاصول العملية، هذا بالضبط كما يقول الأصوليون في أول مبحث القطع عند قول الشيخ الانصاري: «المكلف إذا التفت الی الحكم إما أن يقطع أو يظن أو يشك» قالوا: المراد من المكلف أي مكلف؟ إذا كان المراد منه المجتهد فالوظائف الشرعية العلمية للمجتهد علمية وليست عملية، عمل علمي لديه مثلا يعمل بالدليل الاجتهادي مقدما له علی الدليل الأصل العملي، هذا عمل علمي وليس عملا عمليا محضا ولايخاطب له المكلف العامي أو عموم المؤمنين. فلاحظ القواعد الأصولية وظائف شرعية وقوانين شرعية لكنها ليست قواعد شرعية عملية محضة بل قوانين للعمل العلمي لا أنها ليست قوانين وليست تشريعات ولا أنها فلسفة التشريع المحض بل قوانين لكنها ليست لعمل محض بل قوانين تنظم العمل العلمي في الشريعة، فبعض القوانين تقنن القوانين وتنظم القوانين وهذه نكتة مهمة.

فليس كل قانون وتشريع يرتبط مباشرة وتماسا مع العمل الخارجي، بيننا وبين العمل الخارجي طبقات من الوسائط أصول القانون هكذا.

مثلا الآية الشريفة «خلق لكم ما في الأرض جميعا» من هذا القبيل، بعض الفقهاء يقول: لايصح التمسك بهذه الايات، هي من باب فلسفة التشريع، هي روح التشريع وفقه المقاصد لكن لايمكن التمسك بها في الاستنباط فبالتالي لا دور لها ولاشأن لها. والحال أنه صحيح لايصح التمسك بهذه الايات مباشرة لكنها يتمسك بها لمنظومة مبحث المنابع الطبيعية للمال، باب من أبواب الاقتصاد المهم مثل إحياء الموات أو المشتركات في اصطلاح الفقه القديم وفي اصطلاح الفقه الجديد منابع المال ومنابع الاستثمار.

فالمقصود هذا المطلب وهو أن هذه الاية والايات الأخرى ليست تشريعات تحتانية بل تشريعات فوقية جدا من قبيل فلسفة التشريع لكنها من التشريع غاية الامر التشريع طبقات، لا أن التشريع كله في طبقة واحدة. كيف الأصول العملية رتبتها تختلف عن الأدلة الاجتهادية، نفس الأصول العملية في أربع مراتب ونفس الأدلة الاجتهادية في مراتب عديدة. طبعا القانون له طبقات. الطبقات الفوقية دورها ليس العمل المحض بل دورها تنظيم ونظم منظومة طبقات القانون. هذه نكتة مهمة يلتفت اليها الفقيه في طبقات القانون وكل طبقة لها آثار ولها ضوابط. أما أن نحمل التشريعات كلها علی وتيرة واحدة وعلی نظم واحد فليس بصحيح.

حتما سمعتم بمدرسة فقه المقاصد، أسس التشريعية الاولی تسمی المقاصد. والفقه فيها يسمی فقه المقاصد. لماذا يسمی فقه المقاصد؟ يعني يجب أن تكون التشريعات الفوقية ترسم مقاصد التشريع. «أقيموا الوزن بالقسط» بالقسط ماذا والوزن ماذا؟ «يملأها قسطا وعدلا» ماذا الفرق بين القسط والعدل؟ «وأقيموا الوزن بالقسط ولاتخسروا الميزان» «كونوا شهداء لله قوامين بالقسط» وفيه عكس «كونوا قوامين بالقسط و شهداء لله» هذه الايات في التشريعات الفوقية: أصل العدالة كخيمة تحته منظومة القوانين والتشريعات ويعبر عنها مقاصد الشريعة. هذه مدرسة ونظرية مقاصد الشريعة يعني تتكلم عن التشريعات الفوقية الأولية. أصحاب هذه المدرسة يريدون أن يقولوا أن التشريعات الفوقية هي تهيمن علی الطبقات النازلة. الشاطبي وغيره منهم من فقهاء الشافعي وليس لديهم بحوث منظمة في كيفية ترسيم فقه المقاصد لكن التفتوا الی أن هناك تشريعات تعتبر غايات التشريعات هذه المدرسة غير مدرسة أصول القانون لكنها تعالج نفس الذي تعالج مدرسة أصول القانون لكن مدرسة أصول القانون أكفأ وأجدر. تضع ضوابط وبحثها علماء الأصول تحت عنوان المبادئ الأحكامية.

علماء الامامية أكثر شيء مشتهر عندهم غير المبادئ الأحكامية مدرسة ثالثة تعالج نفس المباحث وهي أن عندنا تشريعات فوقية بعيدة وهي فلسفة الحكم وهل لها ثمرة استنباطية أم لا؟ مدرسة أخری تعالج نفس المبحث التي هي مشتهر عند علماء الامامية يعرف وبعبر عنه بروح الشريعة. الشريعة لها جسد ولها روح. الروح محكمة علی جسدها. يشيرون بالتشريعات الفوقية بروح الشريعة يعني هي مهيمنة ومسيطرة ومحكمة وبعضهم يعبر عنه بروح الفقه يشير الی الأصول التشريعية المهيمنة والمنظمة لما دونها من الطبقات. الطبقات الدانية من القوانين جسد الشريعة وقشر الشريعة فالروح هي منظمة وهذه هي نفس المبحث ونفس النكتة.

لما يقال فقه المقاصد يعني الغايات والغاية تتحكم في ذي الغاية. فلاحظ نفس المطلب نفس روح الشريعة وعبارة أخری عن فقه المقاصد. الغاية تتحكم في ما قبلها. أصول القانون أيضا نفس المطلب. أسس التشريع وأصول التشريع يعني الطبقة التي انطلق منها الطبقات ودرجات التشريع. علی كل مبحث طويل الذيل ولاندخل في أصول القانون وبنوده وأبوابه وهو مبعثر في علم أصول الفقه وهو أحد علمي علم الأصول وهذه تشريعات لا أنها ما وراء التشريع، هو تشريع وراء التشريع. قنّنه الشارع لكن هناك بلبلة اجتهادية وبحث فقهي حول أن دورها ماذا وكيف يستنبط؟

المهم ان مبحث أصول القانون أو أسس التشريع مبحث طويل الذيل موزعة ومبعثرة في علم أصول الفقه. وهو أحد علمي الأصول . العلم بالقواعد في الأدلة ودليلية الأدلة هذا التعريف ناقص لعلم الأصول. العلم الباحث عن القواعد المقررة أو الباحثة عن دليلية الدليل. دليلية الدليل تصورا وتصديقا هذا نصف علم الأصول وأحد وجهي علم الأصول، الكاشفية والطريقية والنصف الثاني من الأصول ثبوت وأصول القانون والمبادئ الاحكامية. هذه المباحث منتشرة ومملو علم الأصول بها. لها نظام ولها ضوابط ولم ينسق البحث فيها مبلورة.

الان علم الأصول يشهد نهضة لم يشهدها الناييني والعراقي والكمباني والانصاري رحمهم الله، لا أننا أنبغ منهم لكن علم الأصول يشهد نهضة لم يشهدها هؤلاء الاعلام حتی أيام السيد الخويي أو السيد الروحاني رحمهم الله. الان علم الأصول يشهد هذه النهضة. علم أصول القانون ليس فقط في علم الأصول بل هو موجود حتی في علم الفقه وعلم الفسير وعلم الكلام. طبقية المسائل العلمية وطبقية القواعد العلمية حتی في علم الفيزياء موجود لأنه منهج ثبوتي منطقي. منهجية ثبوتية في كل علم. كل علم فيه نظام. مسائله ليست أيادي سبع متشتتة كل علم حتما يعتمد علی مشجرة وتشجير يعني الطبقات ونظام تتوالد عن بعضها البعض. العلوم كلها مشجرات. أصول القانون هو التشجير. المهم فالبحث فيه طويل الذيل ويجب ان تبوب له أبواب خاصة في علم أصول الفقه وتفصل له فصول.

ما هي بسمة هذا العلم؟ ما أن تری بحثا ثبوتيا إعرف أنه قسم من أصول القانون وليس من بحوث الإثبات والطريقية سواء في علم الأصول أو الفقه أو الكلام أو التفسير أو الرجال أو أي علم من العلوم الدينية أو غير الدينية. أتينا باسم أصول القانون في المرحلة الثامنة لكنها نفسها بحر طمطام. لكنه مثمر عجيب في ضبط الاستنباط ونظم الاستنباط في أي علم من العلوم الدينية. يعني أن الذي يبحث في الدلالة والدليلية ويترك مباحث أصول القانون كانما هو اخباري وأصولي. مثل راوي وفقيه لأنه مر بنا الان تقدم البحوث الثبوتية علی البحث الاثباتي كتقدم الأدلة الإجتهادية علی الأصول العملية. المرحوم العراقي دائما يكرر في درسه حسب كلام استاذنا تلميذه ميرزا هاشم الاملي من نجوم تلامذة العراقي دائما كان يقول إن الفقيه والمجتهد الذي يكثر التمسك بالأصول العملية هذا مجتهد ضعيف في الأدلة الاجتهادية وفقاهته فيها كلام. لأن الأصول العملية أصول العجزة الذين لايكتشفون الأدلة الاجتهادية. كذلك الذي ينحصر تمسكه بالأدلة الاجتهادية فيه عجز عن بحوث أصول القانون. الشهيد الاول يكرس منهج أصول القانون. أصلا لايتمسك بالأصول العملية وأكثر شيء يبحث في البحوث الثبوتية والشيخ جعفر كاشف الغطاء تقريبا هكذا. المهم أن أصول القانون بحوث عظيمة جدا ولها تداعيات مهمة. ان شاء الله الجلسة اللاحقة نتعرض الی فهرسة لمناهج الاستنباط. ذكرها الفقهاء.

كلمة ونختم؛ البحث في مناهج أي علم أهم من البحث في العلم. النائم عن المناهج والغافل عن المناهج وإن كان مجتهدا هو في الحقيقة اجتهاده ضعيف لأن المناهج تعطي البصيرة في السير وإذا لم تكن البصيرة لديه ولايعرف مسارات ذلك العلم هو ماشي في ذلك العلم بلابصيرة. واحد متضلع في علم الرجال لكنه في مناهج علم الرجال مترجل. المناهج في العلم أهم من الخوض في تفاصيل ذلك العلم.