الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/11/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: باب الإجتهاد والتقليد/التجزّي والإطلاق في الإجتهاد/_

أدلة الإجتهاد يعطي الصلاحيات للجهاز لا للفرد

كان المبحث الأول مبحث حقيقة الإجتهاد عند علماء الإمامية ومدرسة أهل البيت وكما مر بنا تختلف حقيقتها عن الإجتهاد بالرأي في المدارس الأخرى. هذا المبحث الثاني من مباحث الإجتهاد والتقليد هو مبحث التجزّي والإطلاق في الإجتهاد ونحن في أواخره. هذا المبحث الذي في صدده يرتبط بأوائل المبحث الثالث وهو عنوانه حقيقة عملية الإجتهاد أو مقدمات الإجتهاد أو مراحل الإجتهاد وهو مبحث حساس ومهم، لذلك بحثوا في أواخر هذا المبحث الثاني عن الانسداد.

قبل أن ندخل المبحث الثالث في حقيقة عملية الإجتهاد ومقدمات الإجتهاد نقول؛ مر بنا أمس أنه ما هي نتائج المبحث الثاني في التجزّي والإطلاق في الإجتهاد بالقرائة القانونية العصرية؟ مر بنا أن النصوص التشريعية في أدلة الإجتهاد والفقاهة مؤداها إعطاء الصلاحيات للجهاز. هذه اللغة لغة إدارة القانون وإدارة التشريع بالتعبير العصري وهذا العلم ضروري في البحوث التقليدية كما مر بنا أمس وهي غير التشريع وأصل التشريع. الإدارة ليست التطبيق وأين التطبيق من الإدارة بل هي هندسة التشريع وتختلف عن أصل التشريع. مثل سيارة مصنوعة أخر طراز إذا لا يجيء سائق ماهر لاتعرف قوة السيارة. التشريع قد يكون قويا لكن إدارة النشريع شيء آخر وهذا علم ضروري مواكبته في البحوث التقليدية. مر بنا أمس أن مبحث القضاء وتشريع القضاء وتشريعات القضاء جانب تنظيري وإدارة القضاء شيء آخر.

كان في النجف الاشرف قبل عشر سنين مركز لمباحث القضاء والعجب في إصدارات هذا المركز أنه أنظمة القضاء تختلف مثلا القضاء الروسي أو الأمريكي أو الياباني أو الإيراني، إدارة القضاء شيء غير أصل تشريعات القضاء.

الفقيه يلج في تشريعات القضاء، كتاب القضاء وكيفية الحكم وآداب القاضي، المدعي والمنكر والنزاع في الأملاك والنزاع في الأموال والزوجية، الأبواب المعهودة في القضاء هذا شيء وتارة للاضافة الی ذلك أن طابع القضاء وإدارته كيف؟ هل القضاء الفردي آلياته وموازينه تختلف عن القضاء الاجتماعي أو لا؟ القضاء الفردي أو القضاء الاجتماعي أو القضاء في النزاع السياسي مر بنا البحث في الفقه قبل جلسات عديدة أن القضاء الاجتماعي سيرته حسب الأدلة تختلف عن القضاء الفردي. «إنما اقضي بينكم بالأيمان والبينات» في القضاء الفردي والنزاع الفردي، أما النزاع الاجتماعي يختلف، مثل بعض أقضية سيد الأنبياء وجل أقضية وعجائب أقضية أميرالمؤمنين تصب في هذا الباب. هذا يسمی إدارة القضاء وإدارة تشريع القضاء. أصل تشريعات القضاء شيء وإدارة تشريعات القضاء شيء آخر. هذه اللغة وهذا التخصص في العلوم القانونية ضرورية مواكبته في البحوث التقليدية للتشريعات وضروري ويعطي دفعة لمسار الحوزة العلمية الشامخ الی الاهتمام بالواقع المعاش للمجتمع بلاشك، علم إدارة التشريع وهندسة التشريع ونظام التشريع.

كلامنا كذلك الحال في الإجتهاد، لماذا بحث الأعلام في حقيقة الإجتهاد عند مدرسة أهل البيت؟ وهي تختلف عن الإجتهاد عند مدرسة الرأي والمدارس الأخرى. ثم نأتي الی التجزّي والإطلاق، إذا أردنا العبارة القانونية العصرية نقول هل مفاد النصوص التشريعية في الإجتهاد و الفقاهة والفقيه تفيد إعطاء الصلاحية للجهاز وللمنظومة أو تعطي الصلاحية فقط للفرد ورأس الهرم؟ هذا البحث بهذه اللغة القانونية العصرية ضروري وهذا أيضا من إدراة التشريع وليس من أصل التشريع.

إن مفاد النصوص يعطينا طابع جهاز ديني للصلاحيات، هذا الجهاز الديني هندسته فدرالي أو كنفدرالي أو تعاوني أو حزبي بحث آخر. الان إذا يراجع الأخوة الی الصياغات القانونية الهندسية للصلاحيات في طبايع إدارة الأمور في البشر يلاحظون صياغات عديدة، مثلا التعاون صياعة والحزب صياغة والتحالف صياغة والفدرالية صياغة والكنفدرالية صياغة وهذا الجهاز كيف طبيعته بحث أساسي وبحثه الفقهاء بلغة تقليدية والمقصود ترجمانه باللغة العصرية.

فنلاحظ إذاً أن النصوص ليس مؤداها حصر الصلاحية في رأس الهرم وفي الفرد وإن كان هناك امتيازات لرأس الهرم علی فرض تعدده أو وحدته، هذا لاغبار عليه لكن مؤدی النصوص ليس حصر الصلاحيات لرأس الهرم وإنما هو جهاز كامل ونتعرض اليه في كلام صاحب الجواهر والسيد الكلبايكاني في بحث صلاحيات القضاء في التجزّي.

عند صاحب الجواهر مفروغ عنه أن الصلاحيات للجهاز بل صاحب الجواهر يذهب الی أبعد من ذلك في مباحث القضاء، أن الجهاز الديني لايقتصر علی المجتهدين المتجزّين منهم أو المطلقين منهم بل يشمل الفضلاء ويصرّ علی ذلك وإن كانت صلاحيتهم ظلّية وتبعية لجهاز الفقهاء والمجتهدين. عنده هذا من المسلمات بحسب إستنباطه ورأيه. سيأتي بحثه، لكن المقصود أن نلاحظ الطابع لإدارة التشريع وصلاحيات المجتهد ونريد أن نترجم تشريعات الإجتهاد وصلاحيات الإجتهاد.

عند صاحب الجواهر وعند السيد الكلبايكاني ومشهور متأخري هذا العصر أو أشهر الأقوال أن المؤدی هو الجهاز وليس الفرد وإن كان الفرد رأس الهرم. سيأتي كلام صاحب الجواهر في نهاية هذا المبحث الثاني.

للميرزا الناييني رحمه الله كتاب وهذا الكتاب واقعا حري بالتدبر مرارا وكرارا. الميرزا الناييني في كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة وهو كتاب في الحكومة الإسلامية، كتاب بحق وبجدارة من علم كبير صاحب مدرسة وضروري أن تدارسوه مرة بعد أخری. هناك الميرزا الناييني عنده من البديهي أنها تعطي الصلاحيات للجهاز وليست تنحصر الصالحيات حتی في رأس الهرم والفرد وأنه من ضروريات مذهب الإمامية وبحث طويل عنده في أبواب عديدة. هذا الكتاب كتاب عظيم مثل كتاب اللباس المشكوك منه رحمه الله. في هذا الكتاب في الفقه السياسي والفقه الاجتماعي ضوابط وقواعد أسسها الميرزا النايني بغض النظر عن أن الانسان يوافقه أو لا والاطلاع عليها جدا مهم ونظيره كتاب اللباس المشكوك، لكن ذلك في الصناعة الأصولية وهذا في الفقه السياسي والفقه الاجتماعي. هناك الميرزا الناييني يری أنه من المسلمات ان الصلاحيات لاتقتصر علی رأس الهرم في الفقاهة والفرد بل طابعها جهاز رقابي طبعا بالموازين والضوابط.

هناك يبين أن حقيقة الإمامة الإلهية لابديل لها إلا الجهاز الجمعي، هذه آية علمية يكرّرها الميرزا الناييني في هذا الكتاب من أوله الی آخره. أن الإمامة الإلهية لابديل لها في الفرد بل بديلها الجهاز الجمعي وهذه مضمون عبارة يكررها الميرزا الناييني في كتابه تنبيه الامة وتنزيه الملة. الفرد له امتيازات لكن لا أنه تنحصر به الصلاحيات. هذا ممتنع في مذهب الامامية وقامت الضرورة علی عدمه. لانريد أن ندخل في التفاصيل بل كلامنا في الشاهد من الكتاب وهذا الكتاب لايقل جهد الميرزا فيه عن جهده في كتاب اللباس المشكوك.

آغاضياء الدين العراقي رحمه الله قال كتاب اللباس المشكوك قضی فيه الميرزا الناييني ثلاثين عاما. حسب كلام تلاميذ الناييني الذين أدركناهم هذا الكتاب كتاب تنزيه الامة وتنبيه الملة قضی فيه الناييني عقودا من السنين. المقصود شاهد من كتاب الميرزا الناييني عنده هذا بديهي أن النصوص التشريعية تبني جهازا وحررها الميرزا الناييني عقلا وقرآنا وروائيا. هذا لاينافي أنه لرأس الهرم سواء واحد أو أفراد امتيازات لكن الحصر شيء آخر.

تلميذ الناييني السيد الخويي رحمهما الله في نفس مبحث الإجتهاد والتقليد في مبحث جواز تقليد الميت ابتدائا بلحاظ أنه اعلم أو قل في مبحث الأعلم بما يرتبط بجواز تقليد الميت أو وجوب تقليد الأعلم مطلقا ولو ابتدائا، السيد الخويي رحمه الله في شرح العروة في هذا المبحث قال: «لو بنينا علی هذا المبنی يخالف حقيقة مدرسة الامامة الإلهية.» نفس كلام أستاذه الناييني.

لاحظ كيف استدل السيد الخويي بالأصول الكلامية والاعتقادية علی نظام الإجتهاد والتقليد وصلاحيات الإجتهاد. أولا هذه العملية بديعة أنه استدل بثوابت اعتقادية علی هذا المبحث هذه بديعة رائعة. بديعة أخری أنه يريد أن يقول أنه لايمكن حصر الصلاحيات في الفرد والا لتبدل الفرد الی الإمامة الإلهية بدل أن يكون فقاهة وإجتهادا.

عند ما بحث الفقهاء في الإجتهاد والتقليد عن حقيقة الإجتهاد عند مدرسة اهل البيت والامامية وانها تختلف عن مدرسة الرأي، هو هذا أن صلاحية الفقاهة والإجتهاد ظل وتبع. وسيأتي مبحث التخطئة والتصويب يعني أن مدرسة أهل البيت عندها الفقاهة والإجتهاد غير مصون عن الخطأ ويمكن لأهل الخبرة في الوسط الداخلي أن يجروا الرقابة الخبروية في عملية التخطئة والتصويب. هذا مبحث سيأتي ومبحث رابع.

لماذا أثار العلماء الامامية في الإجتهاد حقيقة الإجتهاد والفقاهة عند علماء الامامية وانها تختلف عن حقيقة صلاحيات الفقهاء عند المدارس الأخرى؟ علی كل عبارة السيد الخويي جدا بديعة واستدلاله جدا بديع. هو يستدل بالأصول التشريعية الاعتقادية أو أصول فقه المقاصد أو أصول التشريع -ما شئت فعبر- علی هذا المبحث.

نرجع الی مبحث الانسداد. مبحث الانسداد طبعا هو من أوائل المبحث الثالث وهو كيفية آليات الإجتهاد، لكنه طرح مقدمة للدخول في المبحث الثالث، آليات الإجتهاد.

مر بنا أنه أشكل علی من يتبنی مدرسة الانسداد أنه يعترف بأنه لا علم له وإذاً كيف يعمل بالفتوی واستنتاجه أو كيف يسوّغ رجوع الآخرين إليه. الجواب باختصار مر بنا وأعاود التذكير بما يرتبط بتتمة هذا المبحث. الانسدادي بالدقة يعني أنه يری أن الأدلة الخاصة القائمة علی اعتبار الظنون غير تامة لا أن الأدلة العامة غير تامة. ليس أنه يعتمد في الاستنتاج في شيء غير معتبر بقول مطلق سواء علی الحكومة أو علی الكشف. هذه نقطة.

النقطة الثانية هي أن الانسدادي ليس يری الوضع تجاه نفسه فقط بل تجاه بقية الفقهاء والمجتهدين أو بقية عموم المؤمنين، لأن الطريق منسد في منهجه ويخطّأ الانفتاحي. يری أن الطريق الخاص عند من يراه يشتبه وخاطئ.

اجمالا مر بنا أن الانسداد شيء مغفول عند كثير من الفضلاء والانسداديون من جهة أكثر إفراطا من الاخباريين مع أن سناديد الأصوليين في القرون الأخيرة كلهم انسداديون، يرون أن كل تراث الحديث معتبر لكن لا بالنمط الأخباري يعني أن مضمون الحديث هو المحكّم عندهم، أما جهة الصدور في كل تراث الحديث بدليل الانسداد -وهو دليل أصولي- معتبرة، مع اختلاف طبقات الروايات من الوحيد البهبهاني وبحر العلوم والنراقيان والميرزا القمي وصاحب الرياض وصاحب الجواهر ومفتاح الكرامة والشيخ الانصاري والسيد محسن الحكيم وأستاذنا السيد محمد الروحاني، المهم أجيال من الكبار ذهبوا الی الانسداد وعندهم كل التراث حجة لكن لا بالنهج الاخباري أو الركامي أو القشري أو الحشوي بل العمدة علی المضمون والفقاهة هكذا.

الانسداد بالدقة هو مدرسة من مدارس الإجتهاد. في الحقيقة هذا المبحث سيجرينا في آليات الإجتهاد ومناهج الإجتهاد لكن قبل أن نواصل فيه نقف عند هذه النقطة ثم نواصل المبحث الثالث، دعوی صاحب الجواهر في القضاء والسيد الكلبايكاني أن الجهاز القضائي عام ومنتشر حتی للفضلاء فضلا عن المجتهدين. كيف هذا؟ ان شاء الله نواصل غدا.