الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/10/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:باب الإجتهاد والتقليد/تعريف الإجتهاد/_

الفارق بين مدرسة النصّ ومدرسة الرأي

دور العقل في مدرسة النصّ

كنا في مبحث تعريف الإجتهاد وتبين أنّ هناك جملة من التعاريف للاجتهاد بحسب التعاريف المتعددة لنفس علم الأصول ومر أنّه سواء عرّفنا علم الأصول بأنّه علم باحث عن دليلية الأدلة أو دلالة الأدلة علی الحكم الشرعي أو عرّفناه بأنّه القواعد الممهدة لإستنباط الحكم الشرعي، علی كلا التعريفين يمكن إدراج عملية استخراج الأحكام من الأحكام في علم الأصول وعملية الإستنباط.

فعنوان الإستنباط عنوان شامل لاستكشاف والاستخراج وعنوان الأدلة أيضا شامل للكاشف الحكم الظاهري عن الواقعي أو الدليل الإني عن الدليل الإني وهو الحكم الظاهري عن الواقعي أو الكشف بنحو الدليل اللّمي، لأنّ نفس الاستخراج في حين أنّه عملية ثبوتية يصح أن يكون عملية إثباتية لمية من العلة إلى المعلول أو من الملازم إلى الملازم، فبالتالي حتی لو قرر أنّ علم الأصول علم باحث عن دليلية الأدلة فيشمل أيضا الاستخراج لأنّ الاستخراج إستخراج ثبوتي و إثبات لمّي مقرّر معه في آن واحد في نحو ونمط واحد. كما أنّ الحيثية الرابعة التي ذكرها صاحب الكفاية داخلة أيضا في الإستنباط وتعريف علم الأصول. هذه خلاصة من بحث الإجتهاد.

فإذاً هناك فرق بين عملية الإجتهاد في مدرسة النصّ وعملية الإجتهاد في مدرسة الرأي، يكمن جوهرها في أنّ مدرسة الرأي يكون من مزج الرأي مع الوحي بخلافه في مدرسة النصّ ومدرسة الوحي توخي الوحي بمنظومته ومراتبه من دون إدخال الرؤية العقلية البشرية في ذلك، حتی لو كان علی صعيد الأصول العملية، لأنّ العقل إذا كان حجة فيكون كاشفا عن الحجية الشرعية كذلك وهي الوحيانية.

إذاً العنصر الأساسي الملخص في الإجتهاد بين مدرسة النصّ ومدرسة الرأي هو هذا، أنّ الإجتهاد في مدرسة النصّ فيه محوضة في الوحي بمنظومته ومراتبه ولايقتصر علی المعنی في سطح الألفاظ، أما في مدرسة الرأي فهناك ليس عمل بتمام منظومة الوحي بل فيه نوع من التبعيض «يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض» وضم من رؤی العقل البشري في ذلك. فبالتالي يصير المجموع والمحصل رؤية بشرية وليست محوضة الوحي من المواد الوحيانية.

مبحث الإجتهاد مع التفقه والتفهم بهذا المعنی علی مدرسة النصّ ترجع حقيقته إلى التفهم والتفقه حتی في مكان الاستخراج، لأنّ الاستخراج في الحقيقة يتم عبر الفهم، بالتالي العقل يدرك ويفهم الحكم المستخرج منه والحكم المستخرج وليس إعمالا.

فإذاً الإجتهاد علی مدرسة النصّ حقيقتا يرجع إلى الفهم بخلاف الإجتهاد علی مدرسة الرأي لأنّه نوع من الإنشاء التكويني من الرأي البشري بضميمة المواد الوحيانية. هذا ما عرف قديما الفرق بين الإجتهاد علی مدرسة النصّ والإجتهاد علی مدرسة الرأي، من ثم ما فيه مشاحة بين عنوان الإجتهاد وعنوان الفقه والتفقه وهذا شيء واحد يرجع إلى أمر واحد. هذا بالنسبة إلى أصل تعريف الإجتهاد.

فالإجتهاد عند الامامية ومدرسة النصّ يختلف عن الإجتهاد عند مدرسة الرأي أو مدرسة الجمهور وبالتالي حتی المدارس الإخبارية أو غيرها عند الجمهور مآلها ترجع إلى مدرسة الرأي وليست محوضة في مدرسة النص. باعتبار أنّ مدرسة الحديث عند الجمهور يبعّضون في حجية الوحي. الوحي يقول «ما آتاكم الرسول فخذوه» و«لكم في رسول الله أسوة حسنة» و«إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكاة وهم راكعون» لكنهم يبعّضون. الوحي يقول الثقلين بحسب نصوص القرآن والنصّوص النبوية لكنهم لايقبلونه، فعندهم نوع من إعمال الرأي. إعمال الرأی إذا ضم إلى الوحي ستكون نتيجته مدرسة الرأي وإن زيّيت بزيّ الأخبار.

فائدة تطبيقية في هذه المغايرة بين المدرستين مرارا مرت بنا أنّ تسليم المحدثين من الجمهور وعلماء الجمهور بحقائق مذهب أهل البيت أكثر بكثير من تسليم علماء الجمهور المتكلمين أو الفقهاء منهم، لأنّ مواد الوحي عند المحدثين أكثر وكلما كان التسليم بمساحة أكثر للوحي كان الوصول إلى طريق أهل البيت والهداية إلى أهل البيت أقرب فأقرب، فمن ثمّ في كتب الحديث وكتب شروح الحديث لديهم حقائق عقائدية لمذهب أهل البيت ليست موجودة في كتب الكلام عندهم، مثل الاعتقاد بأنّ هناك قناة وحيانية غير النبوة والرسالة يعرف بالمحدث. هذا يعترفون به في كتب الحديث بشكل مبده. بينما في كتب الكلام لايقولبونها كجزء من المعتقد وهذا تصب في نظرية الوصاية أنّها قناة وحيانية بعد النبي صلی الله عليه وآله وسلم. فلذلك كتب الحديث لديهم فيها شيء كثير من الحقائق بخلاف الكتب الأخرى لأنّ مادة الوحي كلما تكثر تصل إلى سعة الوحي بدل تقليص دائرة الوحي.

وتبين من هذا أنّ مدرسة النصّ عندما يقال أنّها مدرسة الأخباريين من علماء الجمهور أيضا هم من مدرسة الرأي وليسوا من مدرسة الوحي، بينما في مدرسة النصّ الأصوليون رغم أنّهم اصوليون ويعملون الصناعة الأصولية وما شابه ذلك إلا أنّهم نصّيّون وأتباع مدرسة النصّ. لأنّهم أوّلا لايضمون مع الوحي شيئا آخر رغم أنّهم يعملون بعلم الأصول لأن كونهم يرجعون إلى النصّ لايعني أنّ النصّ ينحصر بطبقة سطح معاني الألفاظ بل تحليل تلك المعاني والوصول إلى طيات تلك المعاني إلى ما شاء الله. فيتبين من ذلك أنّه من مدرسة النصّ ولا تعني عدم إعمال الفهم والتحليل.

البعض يتخيلون أنّ مدرسة النصّ تعني أنّه ليس للعقل دور فيها. بل للعقل دوره كمتلقي ومتفهم، هذا دور العقل، دور التفهم ودور التلقي، مع أنّ دور العقل دور التفهم والتلقي والإنفعال هذا لايعني التصرف والخروج عن محوضة الوحي ولايعني أنّ النصّ والوحي يقتصر فيه علی سطح المعاني ولا أنّ الوحي هو سطح المعاني وسطح الظهور بل لو توصلت إلى معاني الوحي بتوسط إدراكات عقلية غامضة نظرية لكن بشرط أن يكون المدرك وحيانيا لامانع من ذلك وأنت ما زلت في مدرسة النصّ. شبيه ما يذكره الأصوليون من الملازمات العقلية غير المستقلة الخمس والنتائج التي يصلون اليها عبر الملازمات غامضة لكنها ليست إنشاءا من العقل وحكما من نفسه بل إنما إدراك من العقل وانعكاس مرآتي لواقعية الوحي في مرآة العقل فالمنعكس هو الوحي وليس حكم العقل والعقل دوره إدراك ولو عبر الملازمات الغامضة.

فلاحظ إذاً ليس معنی مدرسة النصّ أن التحليل العقلي ليس موجودا وأيضا ليس إخبارية أولئك الجمهور تعني أنّهم وحيانيون لأنّهم تصرفوا في منظومة الوحي وبعّضوا فيها واعملوا النظر فيها. هذه نكتة جدا نفيسة في خلاصة تعريف الإجتهاد. نعم مدرسة النصّ ليس معناها عدم إعمال التحليل والتفهم والتدقيق والتركيز ولا أنّ الرجوع إلى الجهة الإخبارية عندهم كمنهج إخباري يسمون المذهب الظاهرية مثل الحنابلة والوهابية، لكن هذا لا يعني خروجهم عن مدرسة الرأي لأنّهم بعّضوا في مادة الوحي وقبلوا شيئا ولم يقبلوا الكل وبالتالي اعملوا تكوين الحكم الناشئ من الرأي العقلي.

مع ذلك أنّ الخلاف داخل المذهب الامامية بين الاصولين والاخباريين ليس معنی الإخبارية أو الأصولية ترتبط بأنّ الاعتماد علی النصّ جنبة إخبارية، لأنّه لو كان هكذا لكان الاصوليون إخباريين. الإخباري بمعنی أنّهم يعتمدون علی الوحي ولايعتدون علی الرأي المقابل للوحي لذلك التعبير الصحيح في مدرسة الامامية ليس الإخبارية والاصولية بل الحشوية القشرية أو المحققين، سواء تزيّی بالثوب الأصولي أو الثوب الأخباري. يعني أنّه في مدرسة الإمامية هناك من يقتصر علی سطح المعاني ويجمد علی سطح اللفظ وهناك من يغوص في مواد الوحي، لكن يبقی المادة وحيانية، فالتقسيم الصحيح عند علماء الإمامية كما أنّ الشيخ المفيد يدمن هذا التعبير وهذا الاصطلاح والسيد المرتضی والشيخ الطوسي وجل القدماء بما فيهم المحقق الحلي أنّ في علماء الامامية الصحيح التعبير بالقشرية والحشوية والمحققين، يعني من يجمد علی ظاهر اللفظ بدون صناعة التحليل للوصول إلى طيات المعاني في دلالات القرآن والاحاديث هذا حشوي وقشري سواء سمي مسلكه أصوليا أو أخباريا، فيفترض علی الصدور مثلا أو الجمود علی ظاهر اللفظ وما أنّ تبدي له التحليل المعنوي في الألفاظ يبتعد عنها ويجمد علی قالب الألفاظ هذا في الحقيقة صحيح أنّه من مدرسة النصّ لكنه قشري في مدرسة النصّ وحشوي فيها، بخلاف الذي يغوص إلى الأعماق في طيات معاني الوحي بالتالي سيكون من المحققين. فإذاً في الحقيقة في مدرسة النصّ هناك مسلكان والتسمية الصحيح لهما ليست الأصولية والاخبارية بقدر ما هي الحشوية والمحقيين. بخلاف مدرسة الرأی في الحقيقية سواء هم غاصوا أو جمدوا هم يضمون تكوين الرأي البشري بضميمة المادة الوحيانية، فمن ثم تنسبق في النتيجة بنتيجة الرأي البشري، لأنّههم لايأخذون الوحي كمنظومة كاملة برتبها ومراتبها، حتی لو تصرفوا في رتبها فإنهم لم يأخذوا بالوحي بما هو هو بل اعملوا الرأي البشري. «أ تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض». هذا منطق القرآن أو «الذين جعلوا القرآن عضين» يعني المبعض.

فإذاً مدرسة الرأي سواء كانت جمودية علی الألفاظ أو تغوص فهي مدرسة الرأي البشري بخلاف مدرسة النصّ. أصحاب مدرسة النصّ قسم منهم من يجمد علی ظاهر اللفظ أصوليهم وأخباريهم ويجمدون علی طبقة من المعاني ولايغوصون في طبقات المعاني دائما أو في بعض الأحيان. لأنّه قد يكون في جملة من المسائل من المحققين لكن في بعض المسائل من الحشويين. إذاً طابع مدرسة النصّ الاعتماد علی الوحي بخلاف طابع مدرسة الرأي وهو الاعتماد علی الرأي البشري.

العقل العملي إنما قيل بحجيته لأنّه ينطبق مع مادة الوحي، كلما حكم به العقل حكم به الشرع، حتی المستقلات العقلية. لِمَ تقرروا وقولبوا علماء الأصول أو علماء الكلام من الامامية «كلما حكم به العقل حكم الشرع»؟ ولو العقل العملي، لأنّه يوصلهم إلى الشرع أولا وآخرا، مثل ما مر بنا في المباحث المتقدمة أنّ العقل مقابل للنقل وليس مقابلا للوحي يعني أنّ العقل والنقل كليهما قناتان للوصول إلى الوحي بخلاف مدرسة الرأي أنّ العقل فيها في مقابل الوحي عند من يقول بحجية العقل فيهم. لكنه في مدرسة النصّ العقل فيها قناة للوصول إلى الوحي والنقل قناة للوصول إلى الوحي أيضا، لذلك مر بنا أن حجية الرواية والحديث ليست حجية نقلية فقط، أن خبر الواحد يكون حجة ليس في الحجية النقلية ويجب أن تكون الحجية حجية عقلية، بأنّ العقل يدرك أنّ مضمونه متناسب ومتناسق مع أصول التشريع ومحكمات التشريع بالعقل غير المستقل وبدون هذا لا يمكن أن تكون حجة والحجية العقلية في الرواية وخبر الواحد أهم وأعظم بصراخ ونداء الشيخ المفيد من الحجية النقلية في خبر الواحد. الشيخ المفيد دائما ينادي بأعلی صوته وابن قبة والسيد المرتضی والشيخ الطوسي أنّ الحجية النقلية لاتتفرد بالحجية بل يجب أن تكون معها حجية عقلية ولو بالعقل غير المستقل.

معنی الحجية العقلية ليس التفرد واستبداد العقل بل معنی الحجية العقلية درك العقل للوحي. العقل يجب أن يدرك لا النقل والسماع. النقل والسماع جنبة نقلية والدراية جنبة عقلية. «حديث تدريه» أي تعقله و«الوعاية» يعني التعقل لمضمون الحديث ولو العقل غير المستقل «حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه». فتشييد جنبة الصدور هي جنبة سطحية قشرية حشوية أما تشييد جنبة المضمون تشييد الجنبة العقلية غير المستقل مع النقل وهو الأساس والعقل والنقل للوصول إلى الوحي. أما النقل بمفرده لا ينفرد في الحجية. هذه هي المغالطة الموجودة في السطحيين يقولون إن النقل وحي. بل النقل طريق إلى الوحي لكن اشكال ابن قبة حتی الشيخ المفيد هذا وهو أنّه لايمكن أن يكون النقل بمفرده طريقا للوحي لابد أن يزدوج ويضم النقل إلى العقل فيكون طريقا إلى الوحي. هذه حقيقة مهمة في الإجتهاد علی مدرسة النصّ. لايمكن الاعتماد علی الطرق الظنية للوصول إلى الوحي لابد من إشراف وحاكمية العقل ولو غير المستقل كي نصل إلى الوحي وهي العمدة، هذا الحاكم والعقل ولو غير المستقل.

فلاحظ علی هذا التعريف إذاً مدرسة النقل ليست مدرسة النصّ. حجية العقل ومدرسة العقل لاتعني عدم الوحي بل هو آمن طريق للوصول إلى الوحي لكن بتوسط النقل. أما النقل بمفرده لايوصل إلى الوحي.

لذلك تری بشكل متواتر عند أهل البيت حتی في القرآن التأكيد علی جنبة التعقل والعقل، حتی الآية الكريمة «ليتفقهوا» يعني إعمل الفكر بضميمة النقل وهي المدار للحجية وليس المدار فقط علی النقل والرواية. «لولا نفر» يعني ليرووا لكن الغاية «ليتفقهوا» ما جعل الغاية الرواية بل جعل الغاية بعد الرواية الدراية، يعني حجية العقل غير المستقل يضم إلى النقل. هذا القرآن هكذا.

مثلا «إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» التبين يعني التفكر والتعقل والتدبر. الإنباء بمفرده ليس المدار. ميزان الإجتهاد من مدارية العقل بضميمة النقل والنقل بمفرده ليست عملية الإجتهاد بل عملية التسطيح وإن سميت بأنّها صناعة أصولية بل حقيقتها نوع من التسطيح ونوع من القشرية والحشوية وهو ابتعاد عن الوحي لأنّ الوحي طبقات وليس طبقة واحدة لأنّك إذا أردت أن تبلغ الوحي برمته يجب أن تستعين بالفهم والفهم سفينة للوصول إلى كل طبقات الوحي أما السماع الحسي لا يوصلك إلى كل طبقات الوحي. أما الاقتصار علی الصدور فيه شامة مدرسة الرأي يعني نوع التقائي في الوحي والأقرب لمدرسة الوحي هو مدرسة الفهم لأنّ الفهم يصل ويبصر ما لا يبصره السمع الفهم والتفقه وإعمال القوة العقلية في التفكر والفهم يوصل إلى ما لايوصل اليه النقل. النقل يعطيك رأس الخيط ولايعطيك تمام منظومة الوحي. فليس صدفة أن الآية القرآنية تجعل المدار في الحجية والفقاهة علی فهم النقل لا الفهم وحده ولا النقل بدون الفهم. «فهم النقل» هذا هو المدار وأم المدارية وأم المركز. «إن جاءكم فاسق بنبأ» لايكترس بالنبأ والفسق والإنباء بل يكترس بالتبين أيضا نفس آية النفر. فهم النقل هو أم المدار. غير هذا الميزان سطحية وقشرية.