الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/10/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: باب الاجتهاد والتقليد، تعريف الاجتهاد

 

تتمة لمعنی القياس

 

الظن في الوحي ودرجات الوحي

 

منظومية الحجج

 

كان الكلام في مدرسة الاجتهاد بمعنی الرأي في مقابل مدرسة النص بمعنی الوحي، فمر بنا أن معنی مدرسة النص هو مدرسة الوحي وليس المراد به المعنی الموجود في السطح الظاهر من اللفظ في مقابل مدرسة الرأي، يعني أن الشأن البارز في مدرسة الرأي هو القياس العقلي.

أيضا مر بنا ان القياس الذي يُعتمد فيه علی قدرة العقول البشرية، له ثلاثة معان مشتهرة في الأذهان ومعنی رابع وهو أن يعتمد علی الوحي مع توفر وحي أعلی منه، هذا أيضا نوع من القياس العقلاني. في الظاهر أنه نوع من التمسك بالمادة الوحيانية لكن هذا التمسك بجهد عقلي في مقابل الوحي من درجة أعلی، شبيه التمسك بمتشابهات القرآن وترك محكمات القرآن أو التمسك بمتشابهات ومحكمات القرآن مع ترك الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن، هذا كله يندرج في القياس العقلي مع أنه في الظاهر تمسك بالوحي لكن تمسك برؤية عقلية وجهد عقلي، لذلك يسمی في النصوص العديدة بالقياس العقلي.

طبعا مر بنا أن هناك فرقا بين الأنبياء في ترك الأولی في هذا المجال مع الفقهاء والعلماء ولاقياس بينهم لأن علم الأنبياء بما أوحي اليهم لايقاس به علم الفقهاء التابعين لهم، لكن مع ذلك هؤلاء الأنبياء صلوات الله عليهم إذا اكتفوا بما عندهم من الوحي مع توفر وحي أعلی هذا يعبر عنه في الوحي بأنه الاعتماد علی القياس العقلي، لكن الأنبياء يسددون ولايقعون في ما يقع غيرهم من غير المعصومين.

كيف هذا القياس بهذا المعنی الرابع هو ظني مع أنه يعتمد علی الوحي؟ أو كيف هذا الوحي لايتناول كل الواقعية؟ مع أن الوحي وحي بلاشك فكيف يكون ظنيا؟ أو كيف لايتناول كل الواقعية؟

طبعا للإجابة عن هذا التساؤل واضح أن الوحي مراتب وطبقات وليس مرتبة واحدة كما أن اليقين مراتب، فلما يكون الوحي ذا الطبقات فيعني إحاطة الوحي بالواقعيات تختلف، كما ذكر في المدارس المنطقية أن اليقين ذو مراتب كيفا وكما. من جهة الكم يعني الدائرة والمساحة ومن جهة الكيف كذلك هو ذو مراتب وليس مرتبة واحدة.

اليقين محدود ووراء حدود هذا اليقين الذي هو نور يتخافت النور والإنارة وبالتالي يكون ظنا، إذاً في الدائرة المركزية اليقين نور ويضيء ولكن ما وراء حدوده المساحية يكون ظنا وإنارته خافتة أو قل في نفس دائرته المركزية درجة إنارته معينة كيفا لكن هناك بعض أجزاء النواعم التي تحتاج الی إنارة قوية جدا أو إنارة مركّزة وهذا النور وإن كان ينير لكن الأمور النواعم جدا تحتاج الی إنارة أخری من درجة أخری. فلاحظ من حيث الكيف في هذه الدرجة المعينة له إنارة جيدة لكن وراء هذه الدرجة يكون نوعا من الخفوت في الإضائة. فإذاً كل يقين أو كل وحي كذلك هو ذو درجات كما وكيفا وفوق كل ذي علم عليم فمن ثم حتی الأنبياء إذا اعتمدوا علی ما عندهم من الوحي وتوفر لديهم وحي سيد الأنبياء صلی الله عليه وآله أو وحي آخر ولم يعتمدوا علی الوحي الأعلی فيكون نوعا من ترك الأعلی أو يعبر عنه بالأقيسة العقلية، لكن في الأنبياء هم يسددون الی ما هو الأصوب.

فإذاً معنی الظن في الوحي بمعنی ما وراء حدود الوحي إما من جهة درجات الكيف أو من جهة درجات الكم. مثل ما وصف القرآن الكريم (وأخر متشابهات) فلم يصفها القرآن بأنها أم ومركز ومهيمنة، بل المحكمات وصفها القرآن بأنها أم ومركز، أما ما وراء المحكمات وصفها بالمتشابه.

المحكمات أيضا طبقات والمتشابهات أيضا درجات. الفتنوية في المتشابهات والزيغية في المتشابهات أيضا درجات إذا اتُبعت من دون المحكمات، فليس كون شيء وحيانيا أمانا عن الفتنة والزيغ إلا بالتمسك بالمحكمات والمحكمات لها أمومة بإعانة المعلمين الإلهيين وهم الراسخون في العلم. فالتمسك بالمتشابهات بشرطين وهما الثقلان المحكمات وارشاد ودلالة الراسخين في العلم.

إذاً في الوحي الظن بمعنی أن في اليقين ظنا يعني ما وراء دائرة اليقين ماوراءها درجة أو مقدارا وكما. لأن الله عزوجل وإن يوحي الی الأنبياء لكن لايوحي كل العلم، هذا المقدار من الوحي باعتبار ان الأنبياء معصومون يتبعون في هذه الدائرة لكن الزائد عنها ظن، (فظن أن لن نقدر عليه)، التعبير بالظن لأنه شيء وراء الوحي. هذه التفاصيل كلامي ولانريد أن ندخل فيها لأن كلامنا في حيثية أصولية من هذا البحث.

هذا بالنسبة الی أنه كيف يتصور الظن في مراتب الوحي. لذلك فضل الله بعض النبيين علی بعض وفضل عزوجل بعض الرسل علی بعض وتفاضلهم في الوحي لأن أبرز شيء في رسالتهم ونبوتهم هو الوحي فالوحي طبقات. إذاً التخطی من باب ترك الاولی يسدد من قبل الله تعالی بخلاف غير المعصومين. هذا جانب.

أما الجانب الاخر وهو أن الواقعية درجات. البحث الأول كان في ماوراء الوحي حسب كل نبي كما وكيفا والبحث الاخر في الوحي نفسه، ما في الوحي نفسه درجات. نفس متعلق الوحي أيضا ذو درجات بين الأنبياء. هذا مبدأ عظيم في معارف الوحي أشار اليه أهل البيت والقرآن الكريم من أن الوحي قد يكون سليما وسديدا وموجودا مثل (إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتيناه حكما وعلما) يعني أن داود لم يتخطی الوحي بل عمل بالوحي فمن ثم لم يكن ظنا بل عمل بالوحي لكن الوحي الذي أوحي الی سليمان أعلی درجة حتی في نفس مرمی الوحي ففهمناها سليمان وكلا آتيناه حكما وعلما وعبر عنه القرآن بالحكم لاالظن والزيغ ولا فتنة كما بينها أهل البيت عليهم السلام. إلا أن هذا العلم متفاوت والذي عند سليمان أرقی من الذي عند داود، سنة من الله عزوجل.

فعلی كل، هذا درجات في الواقعية والحقيقة يعني يستوفی الوحي الذي عند النبي سليمان أكثر من الحقائق من الوحي الذي عند النبي داود وهذا ليس من باب التخطئة بل من باب مراتب الحقيقة كما في روايات اهل البيت. ما عمل به داود ليس منسوخا لكن هو من باب حق وأحق وصدق وأصدق. القرآن دائما يعبر بالأصدق ويصف الأنبياء بالصدق والصديقين والأصفياء. في موارد يعبر القرآن بالزيغ والفتنة لكن في مورد يعبر بالصدق والأصدق هذا من القسم الثاني. في المورد الأول يكون زيغا وفتنة مع أن كلا الموردين من التمسك بالوحي لكن فيهما اختلاف. في المورد الثاني فيه الصدق والأصدق وبعبارة جامعة كامل وأكمل مثل الشجاع والأشجع والمدير والأكثر مديرية، مثل (وفوق كل ذي علم عليم)، يعني الكمالات طرا.

إذاً في موردٍ عدم الكمال مقابل الكمال وفي المورد الثاني الكمال والأكمل في كل الكمالات. هذا كان التعرض لها اعتراضيا لكن أصل المطلب أن القياس في كثير من الموارد يكون الاعتماد علی الوحي لكن برؤية عقلية وبجهد عقلي ويسميه القرآن بالقياس العقلي لأنه ترك الوحي الأعلی المتوفر.

المضمون من الروايات عند الفريقين هو أنه لو كان موسی وعيسی حيين لما وسعهما إلا اتباع سيد الأنبياء صلوات الله عليه وآله ولو اكتفيا بما أوحي اليهما دون ما أوحي الی سيد الأنبياء لما أغنی عنهما من الله شيئا. فإذا مقامان.

إذا مدرسة الرأي في مقابل مدرسة النص ليس بالضرورة في المعاني الثلاثة المشهورة بل بالدقة الأكثر شيء هو المعنی الرابع وهو الاعتماد علی الوحي بجهد عقلي من دون استعانة بوحي أعلی متوفر. لذلك فقهائنا تارة يؤاخذون ببعضهم البعض بأن الأعلام ربما يتمسكون بالعموم أو الدليل دون أن يتمسكون بدليل موجود أقوی دلالة وأقوی حجية وهذا اجتهاد في مقابل النص مع أن المجتهد اعتمد علی العموم لكن في مقابل الدليل الأعلی فيكون اجتهادا في مقابل النص. مما يدلل علی أن المراد من مدرسة الرأي أو القياس أو الاجتهاد مقابل النص ليس الاعتماد علی غير الوحي بل يعتمد علی الوحي بالعقل البشري ورؤية العقل البشري وهذا نوع من القياس العقلي. نعم مادته ولباسه وحياني لكن واقعه جهد عقلي وليس وحيانيا محضا بل رأي هذا الباحث.

لذلك الذين يتبعون النبي عيسی لماذا يتبعون النبي عيسی لأجل أنه مرسل من الله فالاصل هو الله والله عزوجل هو الأعلی من النبي عيسی اتباع أي نبي هكذا وسيد الأنبياء هو خاتم الأنبياء يعني قدوة النبيين بما هو خاتم ومهيمن علی كل الأنبياء، الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل.

فإذاً معنی القياس أو الاجتهاد مقابل النص لا أنه يعني مستند هذا الاجتهاد حكم عقلي محض ليس المراد هكذا، بل كل تجاوز عن منظومة الوحي والمراتب هذا قياس عقلي واستعمل كثيرا في الروايات علی هذا المعنی وفعلا هذه المعاني الثلاثة تؤول الی هذا المعنی. هذا محصل الكلام في الاجتهاد مقابل النص. إذا التتبع في الروايات أمر مهم.

هذه الرؤية في تفسير النص يعني أن النص منظومة مراتبية ولابد من الأخذ بها مجموعا وجميعا وهذا يدل علی أن الحجية حتی في الوحي مجموعي وأصل بنيان الحجية مجموعي. ليس عندنا حجية استغراقية بقول مطلق إستغراقي يعني المستقل كل فرد عن فرد آخر. لذلك هذه الخارطة في أصول الفقه يجب أن تؤسس مثل الانسداديين لاأقول بمسلك الانسداديين لكن الانسداديين عندهم هذا المسلك أن الحجية أبدا لاتكون استقلاليا بل دوما الحجية منظومية ومجموعية، للأسف كثير من المدرسة الانفتاحية تعاملوا بكثير من الحجج علی أنها استقلالية وهذا ليس بصحيح.

هذه وقفة مهمة خارطة لكل نظام الحجج في علم الأصول حتی لمباحث الالفاظ. يعني يجب أن نقف عنده جيدا وتعصمنا عن الاجتهاد مقابل النص.

فمدرسة الانسداديين حتی الأصوليين يعتمدون علی المجموعية والمنظومية وليس عندنا حجج استغراقية أو عموم استغراقي بقول مطلق. نعم، عندنا عموم استغراقي لكن ليس بقول مطلق يعني دوما الاستغراق ملفق مع العموم المجموعي شبيه في عصرنا الحاضر الدولة المركزية مع دويلات المحافظات أو الولايات، فالولاية لها مساحة من الاستقلالية لكن هناك مساحة من المجموعية. الان مثلا من باب المثال ظواهر القرآن إذا لم نقل بأنها استغراقية واستقلالية لابد من معية الثقلين أو معية القرآن مع بعضها البعض هل هو معية بقول مطلق أو هو استغراقية بقول مطلق؟ يعني إعمل بأي ظاهر قرآني بلا أن ترجع الی ظاهر قرآني آخر وبلا أن ترجع الی الروايات؟ هذا لايمكن، هذا يعني الاستقلال بقول مطلق ولايمكن القول به. المجموعي بقول مطلق يعني حتی لو لم اجد آية أخری لها مخصصة أو مقيدة أو مفسرة أو حاكمة أو واردة أو رواية أخری أيضا الاية القرآنية لايُعمل به، كما فهم ذلك بعض الاخباريين هذا أيضا ليس بصحيح.

هذا مثال والكلام حتی في بقية الحجج الوحيانية المرتبطة بالوحي، إذا قيل أنها مجموعية بقول مطلق خلاف الحقيقة وإذا قيل أنها استقلالية بقول مطلق فليس بصحيح ففيما لو توفرت الحجج لابد أن تكون معية.

هذا البحث اتفاقا لسنا بعيدين عنه بحث الاجتهاد والتقليد هل الفقهاء عندما قال الامام الصادق والائمة من كان من الفقهاء كذا كذا هل إعطاء الصلاحيات للفقهاء بنحو الاستقلال أو بنحو المجموع حتی بما فيهم المرجعية العليا البقية لايعطون الصلاحيات أو يعطون الصلاحيات يجب أن تكون بشرط المجموع في كل خطواتهم أو بشكل منفرد في كل خطواتهم أو أو أو؟ هذا البحث بعينه أثاره الفقهاء في باب الاجتهاد والتقليد في باب صلاحيات الفقهاء، هل الطبقة الاولی فقط أو كل الطبقات المجتهدين؟ هل المرجعية العليا تنفرد بكل القرارات في المسير الشيعي أم لا؟ كل هذا المبحث بحثه السيد اليزدي في العروة في باب الاجتهاد والتقليد وغير السيد باعتبار أنه بحث حساس.

نفس الكلام ذكره الفقها مخلصا؛ لا هو الاستقلال بالمرجع الأعلی والمراجع كل علی حدة بقول مطلق، فلايستقلون بالقرار والمسير ولا أن الشرط مجموعي في كل شيء بل إنما هناك مساحة من المجموعية وهناك مساحة من الجميع والاستغراق، لذلك هذه النكتة جدا مهمة وصناعية، أن العمومات دائما فيه تركيب وليس فيه انفراد وشكل التركيب يؤثر علی نتائج الاستنباط. شكل التركيب بين العمومات العموم البدلي أو العموم المجموعي أو العموم الاستغراقي. هذا مبحث حساس في باب الاجتهاد والتقليد.

لاحظوا في ثورة العشرين مع أن المرجع الاعلی كان الميرزا محمد تقي لكنه أخذ أيضا مواقف البقية، إذاً فيه مبحث بدلي أو استغراقي أو مجموعي (إني جعلته عليكم حاكما). (من نظر في حلالنا) كلمة «من» عموم، هل هذا العموم استغراقي أو مجموعي أو بدلي أو هو تلفيق بين الثلاثة بحسب المساحات والموارد. حتی ربما القانون الدستوري في جملة من الدول هكذا.

في الدستور العراقية المادة الثانية في الدستور هو الإسلام والمادة الخامسة أن الشعب مصدر السلطات والصلاحات. فالاسلام أيضا مصدر وأين مصدرية الإسلام عن مصدرية الشعب؟ هل يمكن أن ننهج بقول مطلق علی مصدرية الشعب؟ هذا غير صحيح دستوريا، لأن المادة الثانية مهيمنة علی المادة الخامسة. نظام القانون يجب أن يقرأ بصناعة. العموم مجموعي أو بدلي أو استغراقي أو تلفيقي؟ المادة الثانية أن دين الشعب هو الإسلام وأبدا غير قابل للتغيير بينما المادة الثالثة أو الخامسة ربما تجري فيها بعض الأمور. إذاً ليس المحورية بقول مطلق علی المادة الخامسة، أصلا معنی ترتيب المواد هيمنة المواد بعضها علی البعض. لذلك بالدقة القرائة المجموعية لنظام معادلات القانون أمر ضروري (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه). مجموعي بأي معنی؟ هل يلغی الاستغراقي والبدلي؟ لا، لكنه مجموع. كيف يجمع؟ هنا صناعة وقدرة الفقيه والصناعة الاجتهادية. إمّا يسير مسيرا فتنويا زيغويا أو مسيرا صراطا سويا.

إن شاء الله نواصل البقية.