الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/07/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: التعارض من وجه، التعارض بين الاطلاق والعموم

مر بنا أن هناك مبنيين، مبنی المرحوم صاحب الكفاية ومبنی الميرزا الناييني في الكلام المنفصل سواء المقيد أو غير المقيد والصحيح أنه كما نقح المتأخرون أن الظهور في الحقيقة مراتب ومراحل أو هياكل كما يعبر، تتركب في عرض واحد من الأجزاء وتتراكب طوليا وتتألف هذه البنی من الظهور الی ان تتصاعد الی المراتب الأخيرة. بعبارة أخری الظهور الجدي سواء النهايي أو غير النهايي إنما يتكون من هياكل الظهور، يعني أن التصوري له دور في الاستعمالي وهو نوع من الظهور ونوع من الدلالة علی الأصح علی ما هو عليه المشهور من أن التصوري الوضعي أيضا نوع من الدلالة، فهذه تنضم اليها قرائن الاستعمال وعناصر الاستعمال فيتكون ظهور بشكل مجموعي أكثر وبتركيب أكثر ثم ينضم إليها عناصر أخری من القرائن التفهيمية أو عناصر الدلالة التفهيمية ويتكون ويتقرر له بنية الظهور الأخرى ثم الجدية يتكون لها بنية الظهور الأخرى، ففي الحقيقة هذه كلها شبيه البناء من أسس وقواعد وأعمدة وجدران وأضلع وسقوف، فبالتالي هذه هي مجموع هو تتكوّن لا بالفجأة ولا أن الأسس التي بني أولا ليس لها دور في المرحلة النهايية بل كلها لها دور تنضم بعضها الی بعض الی أن يتكون هذا المجموع. أشبه مايكون مراحل الظهور من هذا القبيل.

إذا أردنا نوعا من المداقة الأكثر، حتی المدلول التصوري هو مدلول مجموعي من عنصر هذه الكلمة والكلمة التي بعده وهلم جرا، تنضم بعضها مع بعضها فيصير المجموع دلالة تصورية ثم الدلالة الاستعمالية هي الأخری، عناصر كل كلمة كلمة تنضم الی بعضهم البعض وتنضم الی التصور ثم يتكوّن المدلول الاستعمالي المجموعي وهلم جرا في التفهيمي والجدي. ففي الحقيقة بنيان الظهور هو ظهور متراكم وأبنية متراكبة طولا ومتركبة عرضا وكلها موجودة لا أنها تنحذف أو تنمحي أو تنهدم. ﴿ أمس أشرنا إجمالا الی أن المناهج في تفسير القرآن تبتني علی هذا المطلب﴾

إذا التفتنا الی هذا المطلب فالظهورات بالتالي اقتضائية يعني نفس الدلالة التصورية دلالة اقتضائية تعليقية إلی أن تنضم اليها العناصر من الدلالة الأخرى فهي عبارة عن نوع من ترائي المراد من البعيد شيئا فشيء، مثل الشبح الآتي من بعيد ثم تتضح صورته أكثر فأكثر، صورة من بعيد تترائی أولا بشكل مبهم بعد ذلك بشكل أكثر وضوحا بعد ذلك أكثر فأكثر الی أن تتجلی الصورة وتقترب جدا حتی تری سيماه والملامح، فأشبه ما يكون هكذا فإذاً هي نوع من الدلالات المتركبة بعضها ببعض الی أن تتضح بشكل جلي.

حينئذ تلك الدلالات أمارات اقتضائية والدلالة الجدية النهائية تلك هي الحجة الفعلية والتي هي تتوقف علی المنفصل وهذا صحيح لكن لايعني أن الدلالات السابقة كالعدم وليس لها وجود بل موجود واقتضائية تشتد دلالة واقتضائا كلما تراكبت. هذا هو الصحيح وهو مبنی المشهور، فما لم يأت شيء منفصل يعوّل علی هذا.

من ثم يمكن القول بأن قضية الجمع مهما أمكن اولی من الطرح في محلها لأن ما دام الدليل المنفصل يشكل العنصر ولو في الجدي النهائي بالتالي استحصال الجدي النهايي متوقف علی المنفصلات وإذا رأينا منفصلا منافيا كما مر بنا فنفسه قرينة علی أن المراد الجدي ليس هو علی طبق ما قبله من الدلالات بل فيه عنصر خفي لابد من الالتفات اليه. هذا تحليل نفسه يساعد علی قاعدة الجمع لأنه من أين أنا أبتّ بأن هذا المدلول التفهيمي أو الجدي الأول هو النهايي؟ فإذا وجد دليل وعنصر مغاير ولو من المنفصل ينبهني علی أن المراد الجدي النهايي ليس علی وفق وطبق الجدي الأول، إذاً واضح أن لا أقول بالتعارض لأنه من الأول الدلالة المنفردة الذاتية هي الدلالة الاقتضائية وليست هي الدلالة الفعلية الباتة، سيما علی مسلك الميرزا الناييني وحتی علی مسلك الاخوند فضلا عن مسلك المشهور، إن الدلالات كلها اقتضائية وليست فعلية نهائية باتة. فإذاً إذا كانت اقتضائية وتعليقية فباب التأويل وباب التصرف وباب العطف مفتوح. هذا من ثمرات هذا البحث وتحليله.

فلاحظ؛ لا نقول أن الظهور ما قبل الجدي النهايي ليس لها دور في الحجية بل له دور في الحجية لكن ليست الحجية فعلية باتة بل فعلية ناقصة وافتضائية. بهذا المقدار صحيح، فبالتالي إذًا الحق مع المرحوم الاخوند أن نقول لو تعارض العموم مع الاطلاق فهو من تعارض الظهور مع الظهور لأن الاطلاق أيضا له الظهور الجدي علی أقل التقدير ودليل منفصل يعارض العموم، نعم، إن العموم عنصر لفظي ووضعي أقوی ويقدم علی العنصر الاخر، يمكن، لكن ليس بنحو الدوام سيما إذا كان الاطلاق محتفا بقرائن.

إذا كان العموم اللفظي تعارض مع الاطلاق في الدليلين المنفصلين من وجه هل يقدم العموم مطلقا كما نسب الی المشهور أو يتوقف ويقارن؟ البعض ذكر في غير مبحث التعارض لنفس البحث في المسئلة ذكر أن المفروض علی مسلك الميرزا الناييني أن لايقدم العموم، لأن الميرزا الناييني يتبنی مبنی أن العموم لابد أن ينضم اليه الاطلاق، مثلا لما يقال أكرم كل عالم لابد أن ينضم الی كل عالم الاطلاق في مدخول كل كي تتم دلالة العموم. هذا مبنی أخر عند الميرزا الناييني. إن العموم يحتاج الی الاطلاق في المدخول ويستشهد بدليل أنا لو قلنا أكرم كل عالم وبعد ذلك قلنا أكرم كل عالم عادل لايختلف الحال في لفظة كل، إذا العموم وكل بنفسها لاتحدد مدخولها هل مدخولها فقط عالم أو عالم عادل أو عالم عادل فقيه، نفس أداة العموم لاتعين ولاتحدد مدخولها، إنما هي تقول بسعة الأفراد في مدخولها، أما مدخولها ما هو ساكتة. هذا استدلال الميرزا الناييني.

إذاً كيف نحدد مدخولها؟ عالم أو عالم عادل؟ الذي يحدده هو الاطلاق. السيد الخويي لايقبل مبنی استاذه لكن مبنی الناييني هو هذا. هذا المبنی غير البحث الذي مر بنا اليوم والامس من أن التفهيمي والجدي يعتمدان علی المنفصل. علی هذا المبنی أشكل علی الناييني أو ألزموه علی أن لازم هذا المبنی أن لاتقدم العموم علی الاطلاق المنفصل إذا كانت النسبة من وجه. لماذا؟ لأن العموم يحتاج الی الاطلاق والاطلاق يناقض باطلاق آخر، فكأنما تعارض الاطلاقان فليس بمثابة تعارض العموم مع الاطلاق. هكذا أشكل، بعبارة أخری أن الاطلاق عند الميرزا الناييني لايكتفی بالعناصر الداخلية للدليل بل يعتمد علی عدم المنفصل فعلی مبناه بالتالي كأنما اطلاق مقابل الاطلاق وليس العموم مقابل الاطلاق.

هناك نقح (هذا تأييد للميرزا الناييني الی حد ما لكن تحليل للموقف) وقالوا إن أداة العموم دورها النظر الی الأفراد نظرا طريقيا وآليا. كل عالم يعني هذا، نفس قالب عالم أنظر به الی الافراد سراية في فرد فرد من عنوان العالم. العموم دوره أن يجعل اللحاظ للطبيعة لحاظا آليا لا ذاتيا موضوعيا. تنظر بها الی الافراد. هذه قضية حقيقية وليست خارجية لأن الحقيقية نوعان مثل الحمل الذاتي والحمل الشايع الصناعي، الحمل الشايع الصناعي قضية حقيقية. الحمل الذاتي مثل الانسان حيوان ناطق ولاينظر الی الافراد بل ينظر الی الانسان بما هو طبيعة. العموم دورها ليس أن ينظر الی الطبيعة بما هي هي . بل ينظر بالطبيعة الی الافراد والسريان الی الافراد. دور أداة العموم أن تنظر بالطبيعة الی الأفراد، تسري سريانيا الی الأفراد بنحو بدلي أو مجموعي أو استغراقي، أما أن هذه الطبيعة أيّ قالب هي و أيّ أجزاء لها، عالم أو عالم عادل أو عالم عادل فقيه، هذه الأداة للعموم ليس ناظرا اليه، لذلك أنت لا تلاحظ اختلاف الاستعمال واختلاف المعنی لأداة العموم ولفظ العموم لما تقول كل عالم عادل أو كل عالم، الكل باق علی حاله لأن دورها الاستعمالي والأدوي والالي ليس تحديد القوالب بالحمل الذاتي والاولي بل دورها النظر بالطبائع الی الافراد بنحو آلی.

إذا كان العموم هذه وظيفته فالحق مع الناييني أن المدخول لأداة العموم يحتاج الی الاطلاق. لازم أن يحدد المدخول بالاطلاق لا بشيء آخر. من ثم لايكون العموم بنحو مطلق أقوی من اطلاق الدليل المنفصل نعم، هذا شيء لاينكر أن أداة العموم السريان الذي في مفادها أو بسببها يدعم شمولية وسعة الطبيعة التي بعدها مثل العالم. مثلا كأنما السريان في كل عالم أكثر من السريان في كل عالم عادل وجدانا. هذا المقدار هو العموم لكن قد تدخل في البين عناصر تدعم الاطلاق المنفصل فيصير أقوی من العموم.

إنما يقال العموم أقوی يعني له عنصر أقوی لكن هل يحتم بذلك التدافع بينها وبين الاطلاق المنفصل بمجرد ذلك وفقط؟ لا، بل عنصر لقوة دلالة العموم علی دلالة الاطلاق لكن قد يكون للاطلاق المنفصل أيضا قرائن أخری تدعمها علی العموم، فأرجحية العموم في التعارض مع الاطلاق من وجه أرجحية اقتضائية.

هذه نكتة لازم أن نلتفت اليه وأثاروها في كتب مطولة في الأصول، لو تعارض المرجحات أقوال، السيد الخويي يقول نفس الأدلة العلاجية متعارضة. كل شيء مالح بالملح فإذا فقد الملح ملاحته... هذا مبنی السيد الخويي فتتساقط. إذا تعارض المرجحات فيما بينها في الترجيح مثلا خبر عنده مرجحات معينة وخبر آخر عنده مرجحات آخر، فماذا نصنع؟ علی مبنی السيد الخويي التساقط أو الورود والترتيب في المرجحات لكن الصحيح كما عليه المشهور التوازن بين قوة وضعف المرجحات في الطرفين، لأن فكرة الترجيح عند المشهور تتوقف علی الكاشفية فإذا ازدادت الكاشفية في جانب دون جانب فهو مقدم، لأن التعدي في المرجحات كان مرجعه الكاشفية لذا عند المشهور الصحيح عند تعارض المرجحات أيضا يرجح في مرجحات المتعارضة أيهما أرجح. هذا ليس في تعارض الاخبار فقط بل في تعارض فتاوی المفتين أو الأبواب الأخرى. انتهی النقطة المعترضة ومعتمدة علی الدلائل السابقة.

مانحن فيه عندما يقال أن العموم مقدم علی الاطلاق في التعارض من وجه يعني اقتضائا لكن قد يكون عناصر أخری تحتف بالاطلاق وتجعله أقوی من العموم، هذا ليس دليلا عقليا ولايتخلف بل هي عناصر ظهور وتركيب ظهور. هذا كله بالنسبة الی العموم والاطلاق، أما إذا كان الاطلاقان فواضح أو العموم والعموم من وجه نفس الشيء. فثلاث صور والحال فيها ما نقح.

البعض قال في العموم والعموم والاطلاق والاطلاق يقدم ويرجح الشمول والعموم الاستغراقي سواء كان الاطلاق والاطلاق أو العموم مع العموم. عندنا اطلاق استغراقي وعندنا اطلاق مجموعي وعندنا اطلاق بدلي مثل العموم اللفظي. البعض قال الشمولية الاستغراقية مقدمة علی البدلي والناييني يصر علی هذا الشيء . الشمولي والاستغراقي مقدم علی البدلي. مر بنا في مناسبة والسيد الخويي رفض هذا الشيء والمشهور مع الناييني. الاطلاق والعموم الاستغراقيان مقدمان علی الاطلاق والعموم البدليين. أما المجموعي والاستغراقي البعض يقدم المجموعي علی الاستغراقي والبعض يقدم الاستغراقي.

لماذا يقدم الاستغراقي علی البدلي؟ لأن البدلي يمكنك أن تحرز يعني تأتي بملاكه في أفراد أخری، هذا أو هذا أو هذا فالبدلي بالتالي الامر فيه واسع أما الاستغراقي كل فرد فرد فيه الملاك ويجب أن تراعی فيه الملاك، فالاستغراقي مقدم علی البدلي والبعض قال حتی الاطلاق الاستغراقي مقدم علی العموم البدلي لنكتة الاستغراقية والبدلية. هنا من موارد القرائن المتعاكسة يعني أن هذه القرائن مجرد الاقتضاء وليست بتية. فقالوا الاستغراق مقدم علی العموم ولو الاطلاق الاستغراقي.

لماذا المجموعي مقدم علی الاستغراقي قالوا: هذا المجموعي له امتثال واحد فإذا نقص منه واحد لايمتثل بكله. أما الاستغراقي إذا لم يمتثل في فرد بقية الافراد موجودة والامتثال بعدد أفراده. هذه التقريبات المذكورة حتی في علم البلاغة وفي كتب الأصول القديمة المبسوطة كلها بنحو الاقتضائي صحيح لكن البت النهايي غير صحيح. البت النهايي دائما مرهون بالكسر والانكسار. لسنا جموديين في باب الترجيح كما هو المشهور. هذه الأمور من باب الاقتضاء شبيه ما قاله المشهور في الرجال وخالف السيد الخويي الأولين والاخرين من أن المشهور عندهم قرائن التوثيق من باب الاقتضاء ولم يتبناه السيد الخويي في موارد عديدة وهو يقول أن مدرسته مخالف المشهور لا أن المشهور مع السيد الخويي.

اجمالا بهذا المقدار نكتفي ببحث التعارض وإن شاء الله نشرع في بحث الاجتهاد والتقليد.