الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/06/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : باب التعارض، الروايات العلاجية، حقيقة التخيير

كنا في بحث التخيير وحقيقته واختلاف الأقوال فيها، فمر أنه في التعارض سواء التخيير الاصولي أو التخيير الفقهي يدور مداره أقوال وعلی ضوء هذه الأقوال يتقرر هل التخيير مستمر أو غير مستمر؟

صاحب الكفاية وجماعة اختاروا استمرار التخيير سواء في الأخبار أو في الفتياء إذا دار الأمر بين المتساويين في الأعلمية، بينما الشيخ الانصاري والميرزا الناييني قالا بأن التخيير في كل هذه الموارد تخيير ابتدائي وليس استمراريا.

المرحوما الآخوند تمسك بإطلاق أدلة التخيير وجريان الاستصحاب وأشكلوا علیه بأنه لا الاطلاق موضوعه محفوظ ولا الاستضحاب. أما عدم توفر الموضوع في كلا الدليلين فلأن الموضوع في أدلة التخيير هو المتحير والذي لاحجية له، أما بعد اختياره أحد الطرفين فله حجة تعيينية، فحينئذ لايكون متحيرا ولا مضطربا. فلذاك لا موضوع الاطلاق موجود ولاموضوع الاستصحاب موجود. إذا ليس التخيير استمراريا بل ابتدائي.

استدلال الأخوند أو اشكال الأعلام يبتني علی تصوير التخيير حسب الاقوال التي مرت بنا أربعة أو ستة وعلی ضوءها يتحدد أن الاطلاق موضوعه موجود أو غير موجود أو أن الاستصحاب موضوعه موجود أو غير موجود؟

فإذا جعل التخيير مثل ما مر بنا في قول المرحوم الاصفهاني والسيد الروحاني بأنه وجوب تكليفي لاختيار أحد الطرفين فإذا اختار تتعين، فهذا واضح أن الموضوع ليس باقيا بعد الاختيار.

أيضا علی القول بأن التخيير عبارة عن حجية هذا الخبر إن ترك ذاك الخبر أو حجية ذاك الخبر الثاني إن ترك هذا الخبر، هذا التعليق غير موجود الان، لأن المفروض أنه ترك الخبر الثاني وأخذ الأول فتحقق الحجية، فموضوع حجية الثاني (ترك الأول) ليس متحققا لأنه أخذ بالأول. فعلی القول بأن معنی وقالب وصياغة الوجوب التخييري هو وجوب هذا إن ترك ذاك أو ذاك إن ترك هذا، علی هذا حينئذ مقتضاها عدم وجود الموضوع ولو تمسك بالاطلاق.

اما إذا قلنا أن الوجوب التخييري هو وجوب الجامع بين الطرفين أو وجوب أحدهما، فما زال موجودا وما تبدل عما هو عليه. لأن الوجوب بالاداء والامتثال لم يتبدل عن قالبه وصياغته. إذا كان وجوب الطبيعي فيبقی وجوب الطبيعي ولايتبدل الی الفرد والمصداق فيبقی علی حاله فحينئذ طبيعته ساري في الطرفين. كذلك عنوان أحدهما وليس الموضوع هو التحير.

فعلی القول الثاني أو الثالث أو علی مبنی المشهور بأنهم يقولون أن الحجية الاقتضائية موجودة ويتخير بين الحجيتين الإقتضائيتين أيضا كذلك الحال أن الموضوع واقتضائية الموضوع يقتضي التخيير الاستمراري.

فيه قول آخر في التخيير يظهر من الأدلة ولعل الميرزا مهدي اصفهاني أشار اليه وهو نوع آخر من التخيير غير الاقوال التي مرت بنا: علی هذا القول إن التخيير من أصول القانون مرتبط بأصول القانون يعني تخييرا ثبوتيا وهذا غير التخيير الفقهي أو التخيير الاصولي بل هذا تخيير ثبوتي. هذا قول سابع.

التخيير الثبوتي مؤداه كالتالي: مصطلح معروف عند القانونيين أن القانون له نوافد وابواب متعددة. المقصود من الأبواب والنوافد المتعددة هكذا، يعني مثلا افترض الوصول الی ملكية فدك لفاطمة الزهراء سلام الله عليها، الملكية يعني الولاية وهذه الملكية لفدك يمكن تخريجها قانونا وثبوتا بعدة تخريجات وواحدها إثباتي.

أحد التخريجات الثبوتي أن يقال: أن النبي نحل هذه المكلية لفاطمة سلام الله عليهما وآلهما وأعطاها لفاطمة وهذه النحلة ليس المقصود منها الهدية بل نحلة رئيس دولة لوزير أو وزارة معينة. هذه إعطاء وليست نحلة وهدية لفاطمة سلام الله عليها. لأنها أكبر مصدر ثروة في الدولة النبوية آنذاك وينحلها لفاطمة ليس من قبيل طقوس الملوك يعبثون بالأموال ويستهترون بالمقدرات، أعوذ بالله حاشا للنبي وحاشا للزهرا سلام الله عليهما وآلهما. فهذه الهدية ولاية. هذا وجه.

النبي صلی الله عليه وآله ألزم من قبل الله عزوجل في ثلاث سور في القرآن لكريم أن يفعل هذا التخصيص لفاطمة (فآت ذا القربی حقه) في سورة الروم وسورة الإسراء وفي سورة الحشر أيضا﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[1] عطية الرسول لكن من رئيس الدولة يعطي هذا الفصل من الولایة لفاطمة، هذه عطية من الرؤسا الی الرؤسا. هذه تخريج ثبوتي.

تخريج ثبوتي آخر: إن فاطمة سلام الله عليها ورثت المصطفی صلی الله علیه وآله وهذا دليل علی أن الوارث لسيد الأنبياء ليس فقط أميرالمؤمنين بل علي وفاطمة سلام الله عليهما وآلهما بمعنی أنهما بعرض واحد يرثون النبي صلی الله عليه وآله فيدل علی نحو ولاية للزهرا سلام الله عليها وإن كان التقدم لأميرالمؤمنين ولكن بنوع مشاركة وكفوية بخلاف الامام الحسن والامام الحسين سلام الله عليهما ليسا في رتبة أميرالمؤمنين أبيهما سلام الله عليهم. هذه نكتة ثاقبة عقائدية. هذا وجه آخر للوراثة الاصطفائية.

الوجه الثالث للوراثة الاصطفائية: إن الله عزوجل بغض النظر عن سيد الأنبياء هو سهّم لفاطمة هذا الشيء في القرآن، الله جل جلاله وتبارك وتعالی لا المسلمين ولا ما هو فوق المسلمين وسيد الأنبياء بل الله تعالی جعل سهم فاطمة هذا الشيء واحتجت به فاطمة باعتراف ابن ابي الحديد من طرقهم وهذا لم يذكره علماء الامامية للأسف إلا إجمالا لا بالتركيز وهذا هو أعظم الوجوه وأعظم نحلة وأعظم الوراثة الاصطفائية.

فيه طريق إثباتي رابع ذكرته صلوات الله عليها وذكره اميرالمؤمنين أن صاحب اليد ليس بمطالب لكن هذا اليد ليس يد ملكية فردية بل يد ولاية والعجيب أن ابن ابي الحديد هو يذكر روايات من طرقهم حسب دعواهم وزعمهم أن فاطمة اشترطت علی ابي بكر أن يتسلط علی فدك كما كان رسول الله يتسلط أو كما كان فيه يتصرف وقبله. بغض النظر عن أن هذه الرواية موضوعة، نفس المطلب يدل علی أن يد فاطمة يد ولي والقضية قضية النزاع في الولاية وهذا تخريج ثالث. يعني انقلب علی الشرعية من الله وكانت هي شرعية من الله ومن رسوله

هذا البحث ليس بحث ملكية فردية بل تقول سلام الله عليها أنت خارج عن الشرعية، أصلا برمتك خارج عن الشرعية سبحان الله هكذا القراعة لفدك شيء عظيم جدا.

فلاحظ أن فدك كملكية ولائية لفاطمة سلام الله عليها يمكن تخريجها بتخريجات عديدة وكلها صحيحة. أسباب متعددة توصل الی نفس النتيجة المطلوبة، علم القانون طبيعتها هكذا حتی علم الرياضيات ربما مسئلة تحلها بعدة طرق وكل الطرق تؤديها الی نفس المطلوب وفي بقية العلوم هكذا. فعلم القانون لايخرج عن هذا ثبوتا.

حينئذ إذا تبين هذا الشيء يلاحظ هذه النقطة وهي ان هذا التخيير أرضية وجوه مختلفة تؤدي الی غاية واحدة يبرهن عنه في علم القانون بالتخريجات المختلفة للمشروعية. هذا يسمونه استخراجا ثبوتيا قانونيا.

مر بنا مرارا أن علم الأصول يعرف أنه العلم الممهد أو القواعد الممهدة لاستنباط والاستنباط مر بنا له سنخان ونمطان، استنباط اثباتي وهودليلية الدليل في التعارض الأخرى في علم الأصول والاستنباط الثاني يطابق المعنی اللغوي وهو الاستخراج لا الاستكشاف. استنبط يعني استخرج النبط بعض الحشائش والزر في البئر، النبطي يعني ما ينبت من الزرع، استنبط يعني استخرج النبط من قعر البئر كي تكون نظيفة وسليمة. المقصود الاستنباط في معنی اللغة هذا، فهذا استخراج ثبوتي و تكويني وهذا في علم القانون فيمكن استخراج نتيجة واحدة وغاية واحدة بوجوه متعددة نحو التخيير.

تارة دعواها سلام الله عليها أنها إرث وتارة دعواها أنها نحلة وهذا صحيح وليس بينها تنافي ولاتعارض وتارة دعواها أنها عطية ونحلة وتارة دعواها أنها سهم من الله قبل رسوله لها وهذا أيضا صحيح وتارة دعواها ذات اليد وكلها صحيح. هذا التخيير ليس تخييرا فقهيا كخصال الكفارة هذا تخيير في أصول القانون، ملاك واحد تصل اليه بتقنينات مختلفة.

الامام الصادق عليه السلام كان يأمر زرارة بحجة الافراد ويأمر أبابصير أو أبان بن تغلب بالتمتع فالزرارة استغرب، لمَ يحرم عليه الامام حج التمتع. فبعض أصحاب وتلاميذ الامام الصادق يأتون حجة التمتع أما زرارة حج حج الافراد وليس فقط زرارة بل بعده نجوم تلاميذ الامام الصادق أمرهم بحج الافراد. بعد ما مضت سنين وانجلت فترة من فترات التقية الامام الصادق عليه السلام قال له ما أمرت به هو التمتع، صورة إفراد لكن هو تمتع. كيف؟ قال أ لم آمرك بعمرة مفردة ثم تأتي عقبها بحج الإفراد. الحج الافراد إذا وقع بعد العمرة المفردة في أشهر الحج تلقائيا ينقلب الی التمتع. وفعلا فتوی الفقها هكذا أنه لو أتی بعمرة مفردة ثم أتی بحج الافراد في نفس اشهر الحج من دون أن يخرج من مكة تلقائيا ينقلب حجه الی الحج التمتع ويلزم بالهدي. فلاحظ هو الإمام الصادق عليه السلام في روايات عديدة أن الامام قال كلها حجة التمتع لكن أنتم لم تلتفتوا. صياغات قانونية متعددة في عرض واحد تؤدي الی الحج التمتع. هذا التخيير ليس تخييرا من قبيل تخيير خصال الكفارة. هذا مثال واحد.

المثال الثاني: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا.﴾ [2]

فلاحظ آتينا كلا حكما، أصل الضمان متفق بين النبي داود والنبي سليمان علی نبينا وآله وعليهما السلام، لكن صياغة الضمان من النبي سليمان صياغة متطورة أفضل من صياغة الضمان التي أوحيت الی داود. داود صياغته أن يأخذ من الأغنام بقدر ما تلفت من الزرع، هذا ضمان بينما سليمان قال أنما صاحب الزرع يأخذ كما من الغنم ويحلبها ويأخذ من صوفها بقدر مالية الزرع. تبقی عنده سنة أو سنتين بعده رجع الی صاحبه. رأس المال ما ملكه المضمون له بل أخذ من ربح المال. هذا الذي ذكره سليمان أقصط يعني أكثر عدالة وأكثر توازنا بين الضامن والمضمون.

ليس ضروريا أن تفوت علی الضامن اكثر من حقه الذي يستحقه المضمون ويتلف رأس المال. طبعا هذا تقصير وليس عمدا كي يأخذ بأشد الأحوال. فلاحظ هذا تخرجان بالضمان في علم أصول القانون. الضمان نفسه يصاغ بعدة صياغات ثبوتية من هذا القبيل.

صراحتا البارع في هذا المجال هو الشهيد الأول والشيخ جعفر كاشف الغطاء، يعني عندهم قدرة. الشهيد الأول عكس الشهيد الثاني رحمة الله عليه أو المقدس الاردبيلي أو السيد الخويي أو السيد أحمد ابن طاووس لايركز علی السند أبدا بل يركز علی المضمون. السبك والقالب كيف يسبك هو نفس المطلب لكن كيف تسبكه وتقولبه؟ فهذا السبك والقالب في الاطار الصناعي. هذه هو خاصية كتاب القواعد والفوائد كله تحليلي كيف تتشبك وكيف تترابط القواعد؟ أصلا الشغل الشاغل لدی الشهيد الأول هوالمضمون لا الطريق. الشهيد الأول بامتياز مبناه مبنی القدماء الصدوق والمفيد والكليني والنجاشي والغضائري والسيد المرتضی وابن ادريس وابن حمزة. مبناهم المدار علی حجية المضمون. الطريق قرينة يعني ضميمة تبعية.

حتی النجاشي يعني حررناه مع الاخوة من أوله الی آخره مدة سنة والغضائري مبناهم في الصحة هو المضمون يقول هو وضاع والمجهول لكن كتابه صحيح، يعني مضمونه. نفس الغضائري يقول: القميون ذموا فلانا بأنه غال، لكن رأيت له كتابا في الصلوة سديدا من جهة المضمون. الشهيد الأول مبناه هذا دوما علی المضمون. المضمون يعني البحوث الثبوتية والتحليل.

طبيعة الشيخ جعفر كاشف الغطاء أنه يحلل ويربط هذا الفرع وهذه القاعدة كأنما يسبح في شبكية رباطة، هذا المنهج الذي هو منهج المفيد والصدوق المرتضی فقد الان للأسف وصار التركيز علی منهج المحدثين. حدثني وحدثني. هذا مهم لكن ليس منهج الفقها ومنهج الفقها الفهم وتحليل المضمون. أصلا انسداديون كلهم ومدرسة الوحيد البهبيهاني والنراقي وصاحب رياض كلهم مضمونيون.

ما شرحنا وما كملنا التخيير الثبوتي. ان شاءالله نكمله.


[1] الحشر/السورة59، الآية7.
[2] الأنبياء/السورة21، الآية78.