الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/05/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: باب التعارض، صحيحة عمر بن حنظلة، معنی الشهرة في الرواية علی رأي السيد الخويي واستخراج الجواهر الثمينة من ذاك المعنی

 

كان الكلام في أحد التساؤلات حول دلالة صحيحة عمر بن حنظلة وهو أنه كيف يقدم الترجيح بصفات الراوي في الشهرة مع أن الشهرة في المشهور مقدمة في الترجيح علی الصفات.

مر بنا أن الجواب الأول للسيد الخويي رحمه الله وجماعة من الاعلام وهو أن الشهرة في خصوص هذه الصحيحة ليست مرجحة بل الشهرة مميزة بين الحجة واللاحجة.

هذه نكتة لطيفة: بغض النظر عن هذه الصحيحة وهي أن الروايات الواردة في مسئلة معينة قد تتضمن أحكاما لمسائل أخرى فيجب علی الفقيه والمستنبط في أي علم من العلوم الدينية يكون علی يقظة وحذر علی أنه ليس من اللازم أن يكون كل رواية منصبة علی موضوع واحد ومسئلة واحدة بل يمكن أن يكون نفس الرواية فيها التفات الی مسائل متعددة لا مسئلة واحدة.

مرت علينا أن الروايات العلاجية وإن حشدها صاحب الوسائل في باب واحد لكن ليس كلها واردة في علاج التعارض بل بعضها وارد في باب التمييز بين الحجة واللاحجة وبعضها وارد في باب ثالث أصل شرائط حجية الخبر وبعضها وارد في الجمع الموضوعي في التعارض. المهم أن الرويات الواردة التي حشدها صاحب الوسائل في باب الواحد ليست من باب واحد وهذه نكتة مهمة جدا يعني يجب كما مر التوقف عندها مليا.

حتی الروايات في تبويب الطوسي رحمه الله في التهذيب أو تبويب الكليني أو الصدوق ليس بالضرورة ان يكون مفاد الرواية منحصرا بالمفاد الذي عنونه المؤلف في كتابه الحديثية، بل ربما بعضها ما له صلة، هو استنبط ان له صلة بالبحث. مر أنه اوجد الداعي لدی السيد البروجردي أو السيد الخويي أن تدونا مدونة إصلاحية لكتاب الوسائل يعني أن جامع أحاديث الشيعة مثل ترميم للوسائل، لكن الجزء الأول والثاني أشرف عليه السيد البروجردي وبعد ذلك توفي والباقي ليس باتقان الأول والثاني.

بل حتی الايات، آيات الاحكام المفسرون من الفقهاء كتبوا فيها، لكن ليس بضروري أن هذه الاية التي ادرجها هذا الفقيه والمفسر مختصة بهذا الفرع وهذه المسئلة، مثل ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث﴾[1] كثير أدرجوها في باب حرمة الغناء والحال أنها أوسع من الغنا ومالها انحصار بالغناء والموسيقی أو «يجتنب قول الزور» جملة من المفسرين والفقهاء أدرجوها في حرمة الكذب وما مختصة بالكذب بل أعم.

هذه النكات جدا مهمة يعني يستطيع الفقيه والمجتهد أن يتحرر من التقليد اللاشعوري هذا نوع من التقليد لكن لاشعوري جملة من تلاميذ الناييني أو آغاضياء وجملة من النجميين والمعروفين كانوا يأكدون علی هذه النكتة يعني أن الاعلام الثلاثة كانوا يتأكدون علی ذلك أن قضية أن المجتهد يحقق ويستنبط كل خطوة وخطوة في الاستنباط يريد لها نباهة واستنفار ذهني وإلا من لاشعور يقلد الفقهاء، والحال أن المادة أوسع وأجسم من هذا المطلب.

عبارة من أحدهم هكذا أن الاجتهاد الحقيقي قليل إنما هو تقليد أو قل تقليد مرتب يعني مجتهد يقلد إنجازات وجهود الآخرين. الاجتهادنوع من التحقيق ليس الحرص علی الجديد بمعنی البدعة والمخالفة والشذوذ العياذ بالله، بل لازم أن تمشي علی نفس الضوابط والموازين ولاتقول مخالف الضروري.

هنا رأي السيد الخويي أن ذكر الشهرة ليس من باب الترجيح بل من باب التمييز بين الحجة واللاحجة، هكذا بنی السيد الخويي. علی ضوء ذلك كأنما فيه تساؤل آخر يتولد من هذا التوجيه للرواية الدي بنی عليه السيد الخويي.

تساؤل آخر: أنه إذا كان الترجيح بالصفات من باب الترجيح والشهرة من باب التمييز بين الحجة واللاحجة فماذا عن الفقرة التي بعدها وهي الترجيح بالكتاب والسنة؟ كيف يسير؟ أولا يقول في الترجيح وبعده في التمييز وبعده في الترجيح. أو قل إنك إذا فرضت أن الشهرة بمعنی المجمع عليه القطعي الصدور كيف يفرض الروايتين قطعيتي الصدور متعارضتين ثم يرجح بينهما؟ هذا التساؤل يتولد من توجيه السيد الخويي.

يقول السيد الخويي: هما قطعيا الصدور وليس قطعيي الحجية من كل زاوية يعني الراوي نفسه يسأل إذا كانا كلاهما مشهورين؟ إذا فسرت بقطعيي الصدور صار كلاهما قطعيي الصدور، يجيب السيد الخويي بهذا بأنه ليس فيه مانع، هما قطعيا الصدور وليسا قطعيي الحجية من كل زاوية، فما المانع؟ الترجيح الذي ذكر في الفقرة اللاحقة بين القطعيي الصدور ما فيه مانع، إن الترجيح بين المتعارضين لايختص بالظنيين والخبرين الظنيين بل يعم حتی الخبرين المتواترين. يعني الترجيح في الزوايا غير القطعية مثل الدلالة وجهة الصدور. هذا باب مهم وجديد وواسع أن التعارض متصور في القطعيات من زواياها الظنية. شيء قطعي لكن ظنياته يمكن فيها اللبس والالتباس. فإذا نشاهد شيئا قطعيا لا نظن أنها قطعي من تمام زواياه.

أشار الی هذا القرآن الكريم في باب معرفي منطقي ديني جدا مهم. سواء في علم الكلام أو التفسير أو الفقيه: يمكن فيها شيء قطعي لكن بعض زواياه ظنية. شبيه ما عندك مصباح خمسين وات الی دائرة معينة يضيئ ومابعد هذ الدائرة يصير ظلاما فهو مصباح لكن ليس مصباحا بقول مطلق بعد الصباح يصير الاشتباك بالنور ومابعدها يصير ظلاما هالكا. هذا المطلب يشير اليه القرآن الكريم ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾[2] نفس القول هذا باطل وعند القرآن حساسية عليه، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، ما قتلوه يقينا. كيف يسمي القرآن الحس بالظن، الحس يقين صحيح لكن ليس كل زواياه يقين. رأوا شيئا يقينا، سيماء النبي عيسی، لكن هو أيضا نفس النبي عيسی؟ هذه الزاوية ظنية مشاهدتهم رجلا مقتولا حسي ويقين لكن كونه النبي عيسی أو شبيها له هذا مظنون فخلطوا بين أصل اليقين وبين الزاوية الظنية سماه القرآن ظنا.

هذا مفيد في باب الحجج جدا ومراتب الحجج ومراتب اليقين. لذلك المناطقة اعترفوا أن اليقين ذو مراتب. المرتبة الادنی من اليقين بالنسبة الی المرتبة الأعلی من اليقين ظن وليس باليقين.

فإذا هنا يجيب السيد الخويي عن هذا التسائل المنبثق من توجيهه السابق ويجبب بأنهما قطعيي الصدور لكن لايعني أن الزوايا الظنية ليست فيهما، فيتم الترجيح في الزوايا الظنية. هذه النكة التي ذكرها السيد الخويي كبرويا جدا مهمة بغض النظر عن صحة تطبيقها.

كبرويا أمس مر بنا استخلاص هذه النكتة أن الترجيح ليس خاصا بالأخبار الظنية ويمكن الترجيح بين الأخبار القطعية .

نكتة أخری: من هذه النكتة تستفاد كبرويا هي أن الترجيح ليس كما ادعی المتأخروا الأعصار منهم السيد الخويي تبعا من الميرزا الناييني وهم يدعون أن الترجيح مآله الی إسقاط المرجوح صدورا وإبقاء الراجح صدورا ودلالتا.

حقيقة الترجيح بين القدماء أو مشهور القدماء والعصر الأخير ماهو؟ أن المشهور من القدماء يقولون أن الترجيح ليس بمعنی اسقاط المرجوح بالمرة وإنما بمعنی التأويل وعظف المرجوح علی الراجح. فالقدماء لايسقطون صدور المرجوح ولابقية الزوايا من المرجوح بل إنما يأولونه. مر بنا حقيقة الترجيح بين طبقات المتقدمين وحقيقة الترجيح عند المعاصرين في سبعين سنة أخيرة وفيه فارق. فعند المأة السنة الأخيرة الترجيح يعني اسقاط المرجوح بالمرة وإبقاء الراجح لكن هنا باعتراف السيد الخويي أن الترجيح بين قطعيي الصدور ليس بمعنی الإسقاط واسقاط المرجوح عن الصدور ولاطرحه بالمرة وإنما بمعنی عطفه وتأويله علی الراجح وهذا شاهد صميمي بصحة مبنی المتقدمين أن معنی الترجيح ليس إسقاط الصدور وإسقاطه عن الحجية بل التأويل والجمع معما أمكن.

فائدة أخری أيضا أن حقية الترجيح ليس اسقاط الصدور بل حقيقة الترجيح في الصدور أيضا ليس اسقاط الصدور، لأنه حقيقة واحدة. إذا كان في قطعيي الصدور ليس بمعنی اسقاط الصدور ففي الظنيين أيضا ليس بمعنی اسقاط الصدور بل الترجيح في الصدور أيضا ليس إسقاط الصدور.

لايمكن أن يقال أن الترجيح في الدلالة ليس إسقاطا للصدور والترجيح في الصدور بصفات الراوي اسقاط الصدور، لان حقيقة الترجيح شيء واحد. هذه نكتة جوهرية أخری من النكتة التي ذكرها السيد الخويي.

المهم هذه الكبريات، التطبيقات مهم لكن الأهم كبريات.

النكتة الأخرى: التي نستفيد منها أن الترجيح في الصدور عندما لايكون إسقاطا للصدور بل يرجع الی التأويل بمعنی أن صفات الراوي قرائن للتأويل. ماذا ربط صفات الراوي بالتأويل؟ إن الراوي الأضبط كأنما ألفاظ روايته قرينة محكمة علی الرواي الأقل ضبطا. هذا مبنی القدما. إن الترجيح في الصدور يرجع الی قرائن في الدلالة. حقيقة الترجيح في الصدور أو جهة الصدور أو الدلالة أو المضمون عند القدماء كلها ترجع لبا الی الترجيح والتأويل في الدلالة ونعم المبنی عند القدما ولاتمس الصدور ولاتتصرف في الحجية شيئا إنما تأويل مثل قاعدة الجمع مهما أمكن.

السيد الخويي بالجزم يقول أن قطعيي الصدور يمكن فيهما الترجيح وكبرويا كلامه صحيح لذلك الروايات المتواترة أيضا بينها ترجيح وتراجيح ويحكم الأحكم علی المحكم والأشد إحكاما علی الأحكم. هذه كلها مباني القدماء ومتينة جدا.

جوهرة أخری: نذكرها أيضا مهمة ونستفيدها من هذا المبحث وهذه الجواهر الكلية مهمة. أن ما قالها المشهور الجمع مهما أمكن اولی من الطرح ليس عبطا بل ضابطة وقاعدة مهمة وإلا الخبرين القطعي الصدور ودلالتهما قطعية لابد أن نعطف المرجوح علی الراجح وهو نوع من التاويل. هو بنفسه قرينة. بسبب قوة الراجح وتنافي المرجوح مع الراجح نفس التعارض والتنافي بضمية أقوائية الراجح قرينة لتأويل المرجوح. لكن ليس قرينة ابتدائية بل قرينة ثانوية هذا نسماه الجمع مهما أمكن أولی من الطرح

أعيد: هذا الخبر قطعي الصدور وذاك الخبر أيضا قطعي الصدور، لو لم يكن تنافيا في البين لانؤول هذا القطعي الصدور. يعني ليس القرائن من قبيل الكنايات والمجازات والأصول اللفظية بل القرينة هي نفس التنافي. هذا كلام المشهور أن التعارض قرينة ثانوية ونفس الترجيح وأقوائية الراجح قرينة. ليست قرينة طبيعية وأولية بل قرينة اضطرارية وقرينة ثانوية. لكن قرينة. لايمكن أن تطرح قطعي الصدور. هذا برهان علی مبنی القدماء والشيخ الأنصاري وصاحب الجواهر.

اليوم أربع جواهر استفدنا من مبنی هؤلاء الاعلام.


[1] لقمان/السورة31، الآية6.
[2] النساء/السورة4، الآية157.