الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/04/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: باب التعارض، دوران الامر بين النسخ و التخصيص

كان الكلام في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ ومر أن هناك صورتين؛ الصورة الأولی: أن يتقدم العام وبعد مضي مدة ومجيء وقت العمل يأتي الخاص بعد مضي تلك المدة التي يجب فيها العمل، فهل يكون الخاص مخصصا أو ناسخا؟

طبعا فيه ثمرة وهي أن تلك الدائرة الزمنية قبل مجيء الخاص هل هي محكومة في الواقع بالعام أو الخاص؟

الصورة الثانية: بالعكس أن يأتي الخاص أولا وعمل به وبعد مدة مديدة من السنين أو العقود أو القرون يأتي العام، فهل يكون العام ناسخا للخاص في دائرة الخاص أو يكون الخاص مخصصا؟

المعروف لدی الأعلام والمشهور لدی العلماء الإمامية أنه يقدم التخصيص علی النسخ عند دوران الأمر بين التخصيص والنسخ في كلا الصورتين. بينما المرحوم صاحب الكفاية يقول: صناعيا يقدم النسخ علی التخصيص وإن كان المشهور هو تقديم التخصيص ولايريد أن يخالف المشهور.

يذكر نوعا من الإشكال العلمي لأن الصناعة تقتضي النسخ لاالتخصيص، لماذا؟ يقول لأنه في مانحن فيه لاسيما الصورة الثانية ورد الخاص أولا وعمل به ثم أتی العام بعد مضي سنين أو قرون، فيقول هنا في الحقيقة دوران الأمر يكون بين العموم الأفرادي للعام وهو مقتضی النسخ يشمل حتی دائرة الخاص أو أن نعمل بالإطلاق الزماني للخاص، الإطلاق الزماني للخاص يقتضی أن يكون الخاص مخصصا للعام، أما العموم الأفرادي للعام لو عمل به في دایرة الخاص بعد فرض تأخر مجيء العام يقتضي النسخ ومن المقرر في محله في ترجيحات الدلالة أن العموم الأفرادي مقدم علی الإطلاق الزماني.

هذه نكتة مهمة في بحث لزوم العقود أو عدم لزومها بعد مجيء مدة الخيار، حري أن يدقق الباحث أين العموم الأفرادي وأين الاطلاق الزماني لأن العموم الافرادي مقدم علی الاطلاق الزماني. فلذلك المرحوم الاخوند يقول النسخ مقدم علی التخصيص في الصورة الثانية. يعني العموم الأفرادي أو الإطلاق الأفرادي مقدم علی الإطلاق الزماني.

كذلك في الصورة الأولی: أولا ورد عام وعمل به ثم ورد مخصص، نفس الكلام بالدقة، العموم الأفرادي يقتضي النسخ إذا تمسكنا بالعام، بينما الخاص يقتضي الإطلاق الزماني لما قبل مجيئه يقتضي التخصيص، فالعموم الأفرادي قدم علی الإطلاق الزماني للخاص لما قبل مجيئه. فصاحب الكفاية يقول لو كنا نحن ومقتضی الصناعة لقدمنا النسخ علی التخصيص.

لكن هناك جملة من الأجوبة ذكرها الأعلام لدفع هذه الدعوی من المرحوم الاخوند و لدعوی أن الصناعة تقتضي أن التخصيص علی النسخ مقدم. هذا العنصر الذي ذكره الاخوند صحيح في نفسه لكن دائما في الإجتهاد و عملية الإستنباط ضروري للباحث أن لايتغافل عن كل العناصر في البين هذه منهجية مهمة. كما يقول صاحب الجواهر بهذا المضمون، لايغرنك العموم ولايخدعك.

المقصود أن عموم عناصر الإستدلال لاتغرك بل حاول أن تكون نظرتك شمولية ومجموعية لعناصر الإستنباط وعناصر الصناعة ثم تولف بينها وتقدم ماهو أقوی وأولی بها. حتی في مقام تدبير الحكم القضايي القاضي إذا لاحظ عنصرا قضائيا واحدا خطأ، بل يلزم أن تلحظ عنصرين أو أكثر، لذلك من الخلل القضايي أن يستمع القاضي إلی أحد الطرفين ويقضي من دون أن يستمع من الطرف الآخر، تمام القضاء بالإستماع من الطرفين، لذلك دأب الفقهاء إذا جيئت بهم شكاية أو نزاع لايحكمون إلا أن يستمعون من الطرف الآخر ولو جيئت بعنوان الاستفتاء، هذا ليس استفتاءا بل بت النزاع، بت النزاع ولو بالفتوی لايجوز إلا بالإستماع من الطرفين. رحمة الله علی السيد الكلبايكاني كان يقول هذا نزاع موضوعي يحتاج إلی المرافعة الشرعية. فعناصر القضاء أيضا نفس الكلام فلذلك من المؤكد جدا إن لم يقل أنه ملزم للقاضي أن يستعين بأهل الفضل والفقه في مجلس القضاء، يعني يستعين بالمشورة القضائية وكذلك الحال في التدبير السياسي، المشهور في وصية أميرالمؤنين عليه السلام إلی مالك أشتر أيضا هكذا. المقصود منهجية العناصر والإلتفات إلی العناصر المتعددة أمر مهم جدا، حينئذ ينظم ويرتب الباحث تلك العناصر و يوافق ماهو أقوی منها.

هنا الأعلام قالوا لصاحب الكفاية هذا العنصر الذي ذكرته صحيح، لكن يلزم أن تلحظ عنصرا آخر و العنصر الآخر الذي يقتضي تقديم التخصيص علی النسخ هو أن الروايات -وإن تفرقت أزمانا- واردة في بيان اللوح المحفوظ و لوح التشريع، فمن ثم هي في الحقيقة مبينة لبعضها البعض وإنما حصلت فواصل زمانية في بيانها لاأنها هي تفاصل متباعدة.

دأب الشارع البيان التدريجي لا أنها في اللوح المحفوظ متباعدة عن بعضها البعض بل هي بالعكس، سيما في كلمات وروايات أهل البيت عليهم السلام، الدأب علی أنها بمثابة سلة واحدة أو مجموع واحد، فمن ثم اذا كانت ورودها ووجودها معيّا في لوح التشريع واللوح المحفوظ وإن وردت متفاصلة ومتفاككة زمانا إذاً يقدم التخصيص علی النسخ.

لانقول أن النسخ ليس موجودا لكن دأب الشارع البيان التدريجي، نعم بالنسبة إلی سيد الأنبياء التشريع التدريجي صحيح بل حتی القرآن الكريم.

نكتة بلحاظ علم التفسير أو آيات الأحكام: ما عرف أن جميع تشريعات القرآن أو تشريعات الله عزوجل تدريجية ليست هكذا، بل قسم منه بيانه تدريجي. مثل الخمر، التعبير بأن الخمر كان حلالا في أول الإسلام هذا التعبير باطل عند الائمة، أبدا القران أو الوحي لايحلل الخمر بل بيان الله سبحانه لتحريم الخمر تدريجي لا أن تحريم الله سبحانه للخمر تدريجي، أعوذ بالله. هذا تعبير المذاهب العامة وإلا ابدا القرآن ولا الله عزوجل لم يرخص حتی في بدء الإسلام.

ضابطة هذه الموارد في الأحكام: بيان الأحكام التي هي استمرار لما هو ثابت مشترك في كل الشرائع ليس تشريعا جديدا. مثل وجوب الصلوة، متی وجبت الصلوة؟ هذا التعبير ليس صحيحا، الصلوة هي واجبة، لكن بيان القرآن وبيان الله عزوجل لوجوب الصلوة تدريجي، أصل الصلوة دائما واجب، مثل وجوب الزكاة أو وجوب الحج أو وجوب الصوم. لذلك حج سيد الأنبياء صلی الله عليه و اله مع قريش خمسة وعشرون حجة قبل البعثة، مستسرا يعني لايشوفونه لمصلحة أو حكمة. أصل الحج أو أصل الصلوة من الدين لا أنه شرعت.

هذه الأمور هي موجودة لكن بيانها تدريجي، أما إذا قلنا بيان تفاصيل الصلوة في شريعة سيد الأنبياء تختلف عن شرائع الأنبياء السابقين بهذا المعنی صحيح أنها شرعت أما أصل وجوب الصلوة ليس أنه في أول الإسلام لم توجب ثم وجبت بل هي واجبة بينت تدريجا.

الضابطة هي أنه في أصل الأحكام التي من الدين أصول الواجبات وأصول المحرمات بيان القرآن لها تدريجي لا أنه كما يقول العامة ومذاهبهم أنها لم تشرع وشرعت. هذا عند الائمة عليهم السلام باطل بل بيان القرآن لذلك تدريجي لاتشريعه.

ضميمة لذلك من الأحكام التي بيانها تدريجي ذكر ذلك الاصوليون من علماء الإمامية، الأحكام العقلائية التي الشارع ماأقرها، لم يردع عنها ظاهرا لاأنها ممضاة عند الشارع، لم يردع عنها ظاهرا ثم بين ردعه عنها، هذا قسم ثاني من الأحكام التدريجية أيضا ليس تشريعه مستجد. هذان القسمان البيان فيهما تدريجي لا أن تشريعهما تدريجي، الزنا والفواحش و غيره. هم يزنون و يرتكبون الفواحش بادعاء الطرف الآخر إلا بني هاشم و أهل البيت وهم مبرؤون من ذلك و هذا فارق كبير بين الأئمة أهل البيت عليهم السلام و غيرهم من القريش والعرب.

نعم هناك قسم ثالث تشريعه استجد و هذا صحيح مثل تفاصيل الصلوة أربع ركعات أو ركعتين. هذا تشريعها استجد لاأن بيانه تدريجي. هذا التقسيم الثلاثي القرآني.

كذلك الحال في بيانات النبوية، نفس التقسيمات الثلاثية فيها، طبعا قسم من بيانات أهل اليبت هي تشريع منهم من الائمة عليهم السلام تشريع مستجد مثل كثير من الأحكام في باب الحدود و القصاص و الديات هي من تشريعات أميرالمؤمنين عليه السلام وليس من تشريعات الرسول و لامن تشريعات القرآن، لكن ليس في عرض القرآن ولافي عرض الرسول وإنما هي تفعيل لتشريعات الله وتشريعات الرسول القسم الوافر يعني سبعين بالمأة من تشريعات باب القصاص تفصيلية، تشريعات باب الحدود وباب الديات ومثل هذه الأبواب حتی القضاء تشريعاته علوية. أسسه العامة قرآنية ونبوية لكن تشريعاته علوية، هذه حقيقة مهمة في باب القضاء والشهادات والحدود والديات والقصاص هذه كلها علوية كأنما تركيز النبي لأميرالمؤمنين صلی الله عليهما والهما بأن أقضاكم علی يعني التفتوا بههذه النكتة لأجل أن تشريعات أميرالمؤمنين غالبة في ذلك الباب. نعم قسم معين من تشريعات أهل البيت هي تشريعات وليس بيانات تدريجية. هذه القرينة الأولی في رد الاخوند.

تتمة لهذه النكتة: العلامة طباطبايي في تفسيره الميزان أو في حاشيته علی الكفاية -كتاب جدا دقيق- يرفض أن تنسخ الآية القرآنية حكمها بالسنة القطعية النبوية، لايقبل حسب ظاهر كلامه. هذا شاذ من العلماء الامامية حتی في علماء العامة وأيضا يرفض العلامة نسخ القرآن بالسنة القطعية من أئمة أهل البيت وأيضا يرفض العلامة حسب ظاهر كلامه نسخ السنة القطعية من أئمة اهل البيت للسنةالنبوية، لماذا؟ استدل بأدلة مثل أن القران لايأتي الباطل من بين يديه ولامن خلفه وما شبه ذلك ولايمكن أن يبطله شيء آخر غير نفس القرآن وكذلك في سيد الأنبياء باعتبار أنه مهيمن تشريعا وولاية وحكما، كيف يمكن للائمة ينسخون حكم النبي هكذا حتی التخصيص ظاهر كلام الطباطبايي يشمل حتی المخصص من السنة النبوية للعموم القرآني، يستشكل فيه. هذا شاذ في شاذ. وكذلك في رواية مخصصة من أهل البيت لعموم القرآن. المقصود هذه المباني التي ذكرها العلامة طباطبايي شاذ تماما حتی في العام أيضا شذوذ وإلا كل علماء الفريقين يقبلون النسخ من السنة النبوية أو التخصيص أو من سنة أهل البيت عليهم السلام وهذه الوجوه التي تمسك بها العلامة مخدوشة. سبق بنا في بحث النسخ لكن سنذكره في الجلسة اللاحقة.

طبعا هذا البحث للنسخ له صلة بالولاية التشريعية للنبي التي أجمع المسلمون عليها حتی الوهابية، قالوا بأن الركعة الثالثة والرابعة في الصلوة هي تشريع نبوي بضرورة المسلمين. يعني أن النبي له الولاية التشريعية أمر ضروري بضرورة المسلمين، كيف تفصل مع أنه «إن الحكم إلا لله»؟ أيضا الصحيح والمشهور من علماء الامامية أن الائمة عليهم السلام لهم ولاية تشريعية من دون أن يكون النبي صلی الله عليه و آله في عرض تشريع الله عزوجل ومن دون أن يكون الائمة في عرض تشريع النبي، النبي مشرع تابع لتشريع الله و الائمة مشرعون وتابعون للنبي من دون أن يكونون له اندادا مع ذلك مشرعون. كيف؟ لازم أن نفسرها أكثر.