الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/03/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مبحث انقلاب النسبة، النقاط الممهدة للبحث

كنا في الحديث عن ضابطة انقلاب النسبة بين الادلة المتعارضة ثلاثة أدلة فأكثر وأن ظاهرة انقلاب النسبة ظاهرة صناعية فريدة وهي من دقائق ابتكارات أو بلورات متأخري العصر. أول من بلورها ملااحمد النراقي صاحب كتاب مستند الشيعة ومر أنه في كتاب مستند الشيعة في مستحبات التشهد داخل الصلوة يفتي و يستدل علی استحباب الشهادة الثالثة في التشهد داخل الصلوة. علی أية حال انقلاب النسبة ظاهرة صناعية دقيقة جدا و تبين أن مجموع الأدلة إذا اجتمع التوفيق بين الأدلة التي يری بينها التنافي يحتاج إلی مزيد من التدبر و التفطن والتنسيق و التوفيق و التوليف و الألفة المتسقة بين الأدلة.

نقطة أخری في انقلاب النسبة لأن تفاصيلها المقدمية لها مهمة: من ابتكارات السيد الخويي رحمة الله وما كان معروفا قبل السيد الخويي وما مبلورة، هذا الابتكار استجد عند السيد الخويي رحمة الله عليه في الدورة الثالثة أو الرابعة من تدريس الأصول أو ربما ذكره السيد الخويي في جلسته الإستفتاء. المهم الميرزا جواد التبريزي رحمه الله ينقله عن السيد.

هذه النكتة ثمينة جدا و قبل الورود في النكتة التي اثارها السيد نقول: أنه كانت الضابطة في النسبة بين الدليلين المعهودة و المعروفة أن يلاحظ موضوع هذا الدليل و موضوع ذلك الدليل فيلاحظ أن النسبة عموم وخصوص مطلقا أو عموم وخصوص من وجه أو تباين أو تساوٍ، المعروف هذا ولكن في تحقيقات المتأخرين (وربما صارت سبب كشف و تبلور هذه النكتة عند السيد الخويي) لمّا يقولون الدليل فيه عموم أو خصوص، ماهي الضابطة المألوفة و المعروفة في أن الدليل عام أو خاص؟ عادتا المعروف هو ملاحظة موضوع الدليل، إذا كان موضوع الدليل عاما فيقال هذا الدليل عام وإذا كان موضوع الدليل خاصا يقال الدليل خاص.

المتاخري الأعصار التفتوا إلی شيء آخر في الدليل وهو أنهم لاحظوا المحمول، مثلا «كل شيء لك طاهر» أي طهارة؟ الطهارة العرضية أو الطهارة الذاتية أو الطهارة من الجلل أو الطهارة الوضعية أو الطهارة التكليفية؟ أي قسم من أقسام الطهارة. لاحظ كل شيء موضوع عام ولكنهم رأوا أن عمومية الدليل من حيث الموضوع لاتكفي، بل هناك عمومية للدليل من ناحية المحمول وربما أهم.

هل« كل شيء لك طاهر» يراد منه مطلق الطهارة أو قسم خاص منها؟ بحث مهم. اتفاقا في موثقة عمار بن موسی الساباطي صاحب الوسائل قطع الرواية بينما في التذهيب الرواية الكاملة موجودة و هذه التقطيع يا له من آفات. أمس أو قبل أمس كنت راجعا إلی رواية الصدوق أوردها في التوحيد في موضع مقطعة و في موضع كاملة. في موضع خمسة أسطر و في موضع عشرة أسطر لكن هذه التتمة مهمة جدا. ليس المشكل للتقطيع بل المشكل في أن الباحث إذا اعتمد أن المتن فقط هذا ولاغير، هذا جدا تسبب الأزمة. عملية التفتيش عن الحديث في نفس الكتاب أو في كتاب آخر لنفس المؤلف أو مؤلف آخر في غاية الأهمية. هذه فائدة معترضة.

الأصوليون و الفقهاء بحثوا أن «كل شيء لك طاهر» من جهة الموضوع عام هل من جهة الحكم بالطهارة أيضا عام أو لا؟ محل ثمرة. تصير قاعدة في باب الطهارات أن أي شيء نشك في نجاسته الذاتية يحكم بطهارته أو نشك في العصير العنبي المهم اقسام وأنواع من الطهارة والنجاسة في باب الطهارة، هل يمكن أن نتمسك بكل شيء لك طاهر حتی تعلم أنه نجس؟ في أقسام الشبهة الحكمية و المفهومية الحكمية و الصدقية الحكمية المصداقية الحكمية أم أنها مخصوص للشبهة الموضوعية فقط؟

الحديث مقطع في الوسائل بينما في التذهيب جزا الله الشيخ الطوسي خير الجزاء هو أقل من يقطع في الحديث، يجيء بالرواية كاملة في صفحة كاملة أو أكثر و فيها يسأل عمار بن موسی الساباطي من تلاميذ الصادق عليه السلام يسأل عن جميع الشقوق وبعده يذكر الإمام الصادق عليه السلام: أذكر لك ضابطة كل شيء لك طاهر حتی تعلم أنه نجس. فهناك في هذه الرواية تنصيص من الإمام علی عموم المحمول كما هو عموم الموضوع. تنصيص يعني يطبق العموم علی قسم قسم وبعده يعطي ضابطة. فهنا نلاحظ أن هناك عموما في المحمول و هناك عموما في الموضوع، الدليل والمعادلة التي ترد في الدليل الشرعي لها ضلعان أساسيان و يمكن أن يكون أكثر إلی أربعة أضلاع، لكن هنا ضلعان أساسيان فليس فقط المهم عموم الموضوع بل المهم أيضا عموم المحمول. مثلا كل شيء لك حلال أي حلية؟ الحلية في الشبهة الموضوعية أو الحلية في الشبهة الحكمية أو الحلية الوضعية أو الحلية التكليفية أو؟ هلم جرا. هذا أعم حتی من عموم الموضوع لم تم. فالمتأخروا الأعصار يدققوا في المحمول وبحث مهم ولايقل عن أهمية الموضوع بل يزيد عليها. المحمول عام أو خاص أو مباين أو غيرها. الدليل يقول هذا حرام أو الدليل يقول هذا حلال المقصود منه الحرمة الوضعية و الحلية التكليفية؟ إذا كان هكذا ليس تنافيا بين الدليلين أو المقصود من الحرمة و الحلية كلاالحرمتين و كلاالحليتين يصير تنافيا. بدأ المتأخرون يدققون في المحمول و لاحظوا بُعدا مهما في الدليل، ملاحظة المحمول وهذا ابتكار عظيم من المتأخري الأعصار.

في الغالب قديما و حتی عند متأخري الأعصار القاعدة الأولية أن يكون الدليل متكفلا لدائرة الموضوع وليس متكفلا لتحديد دائرة المحمول. الأصل الأولي في الأدلة هكذا أن الدليل يتكفل دائرة الموضوع ونوع الموضوع و يشرح الموضوع يعني كأنما تركيز عدسة و مجهر الدليل في الغالب هو الموضوع. كل شيء و كل كذا. مثلا إذا دخل الوقت، إذا زالت الشمس، هذا تركيز علی الموضوع.

أما المحمول الطبع الأولی في الادلة أن يكون الدليل يتعرض لإجمال المحمول و لايتعرض لحدود و تفاصيل المحمول هذا هو الطبع الأولي في الجملة التي تركب و ربما أشار اليه علماء البلاغة لكن هذا إذا قيل أنه هو الضابطة الأولية غالبا ليس بمعنی أن لا يكون الدليل متعرضا لدائرة المحمول. مثل هذه الموثقة لعمار حتی الأعلام بحثوا في بحث الطهارة. فبعض الأدلة هي تتعرض إلی دائرة المحمول كما تتعرض إلی دائرة الموضوع ولو الميرزا الناييني عنه دعوی أن الدليل إذا تعرض إلی المحمول هذا ليس دليلا بل دليلان دليل يتكفل الموضوع كقضية و دليل يتكفل المحمول كقضية. الميرزا الناييني في المنطق قوي و هذا يؤثر ممشی الأصولي.

المعروف في علم المنطق أن الموضوع بنفسه قضية والمحمول بنفسه قضية لكنها منطوية بشكل مفرد. كل شيء لك طاهر و إلا هي هذه القضية يعني كل ما صدق عليه أنه شيء، هذه صورة فهو الشيء طاهر قضيتان. حتی هذه القضية كل ما صدق عليه أنه شيء أيضا تنحل إلی عقد و قضية الوضع و عقد الحمل. هذه نراها مفردة لكنها كبسولات مدمجة. هذا شيء ذكره علماء المنطق حتی علماء البلاغة.

الان نوسع في هذه القضية لأن نری أن ابتكار السيد الخويي ليس عبطا. طبيعة ذهن الإنسان هكذا، أن المعلومات أول ما يستلمها موضوع ومحمول لكن لمّا يريد أن يخزنها يدمجها بصيغة مفردة مثل المضاف و المضاف اليه. إذا يريد أن يفككها فيفككها إلی الموضوع و المحمول. هذا تحليل كلام المناطقة أن المحمول يفكك إلی قضية والموضوع يفكك إلی قضية. طبيعة ذهن الانسان علی التفكيك والدمج. الكمبيوتر يشتغل علی نفس النمط.

فنرجع، إذاً إن ضابطة الدليل أنها تتعرض إلی دائرة الموضوع لادائرة المحمول وبعض الأدلة التي تتعرض إلی كل من دائرة الموضوع و دائرة المحمول، الميرزا الناييني يقول هذا دليلان و ليس دليلا واحدا، دليل واحد يشرح الموضوع ودليل واحد يشرح المحمول. علی اية حال قضيتان، بعض ألسنة الأدلة تتعرض إلی دائرة الموضوع ودائرة المحمول.

نرجع إلی ابتداء الحديث، أن المعروف في العلوم العديدة سواء العلوم الدينية أو غيرها في عموم القضية أو عدم عمومها التحديد بحسب الموضوع، فماذا عن دائرة المحمول؟ بعض الأدلة تتعرض لدائرة المحمول، ماذا نقول؟ هنا ابتكار السيد الخويي لطيف هذه النكتة جدا لطيفة وإن كان السيدالخويي ليس له ميزان وضعه لكنه أثار هذه الإثارة وهي أن الدليل لمّا يقال عام و خاص مطلقا أومن وجه هل نلاحظ فقط دائرة موضوعي الدليلين أو الصحيح أن نلاحظ مجموع نسبة الموضوع و المحمول؟ هذا شيء آخر.

إذا لاحظت مجموع دائرة نسبة الموضوع و المحمول في هذا الدليل مع مجموع نسبة الموضوع و المحمول في الدليل الثاني، النسبة قد تتبدل من العموم المطلق إلی العموم من وجه أو تباين أو غيرهما. هذه نكتة فريدة و صعبة جدا. إنما اشتهر في الأذهان من جعل النسب الأربع بلحاظ موضوع الأدلة غلط، طبعا احتمالات هذه الاثارة حسب ما تبنی السيد الخويي في قبال الإحتمالات الأخرى لكن أصل الاثارة مهم جدا .

الإحتمالات الأخرى هي أن نقول فيها تارة نلاحظ الدليلين بلحاظ الموضوع و تارة نلاحظ الدليلين بلحاظ المحمول هذا احتمال ثالث و الاحتمال الرابع، وتارة نلاحظ نفس الدليل الأول و الثاني ينحلان إلی أربع أدلة. أربع أدلة بهذا المعنی، مثلا شيء يقول بول مايؤكل لحمه طاهر وعندنا بول الدواب مما يؤكل لحمه يغسل بالماء موجود هكذا. بول الحمير أو الفرس أو الجمل الروايات المتعارضة موجودة عندنا. بعضها حاكم بنجاسة بول الدواب مع أنها يؤكل لحمه أو فرّق بين الماعز و البقر و بين الفرس و الحمير. المقصود فهنا دليل يقول طاهر و دليل يقول ليس بطاهر. هنا ينفك و يقال: الطهارة تارة بمعنی الوضعية في الشبهة الحكمية هذه نسبة وتارة بمعنی تكليفية فنسبة أخری . يصير أربعة أدلة، نفس الدليلين إذا ينحلان بلحاظ المحمول يصير أربع أدلة، هذا إحتمال رابع.

فالمقصود هذه الإثارة التي أثارها السيد الخويي في نفسها ثمينة و إن كان مختاره هو المجموع. هذه الإثارة هي أنه ماهو دور المحمول في الدليل لتحديد النسب الأربع هذه الاثارة جدا مهم صناعية و صعبة و معقدة و غامضة. حتی المناطقة ماأثاروها بذاك العمق ولو الفلاسفة والحال أنه جدا مهمة. كثيرا ما الإصوليون يثيرون مبحثا عقليا خطيرا حتی في الفلسفة ماأثاروها. لأن طبيعة علم الأصول علم منطقي و هو منطق العلوم الدينية. أحد تعاريف علم الأصول هو أنه يمنهج و ينظم كيفية الاستدلال في العلوم الدينية، حتی علم الرجال يمنطق ويمنهج بعلم الأصول حتی علم الكلام يمنطق و يمنهج بعلم الأصول. لأن بحث التصور ألفاظ و بحث التصديق مبحث الحجج. وليس من الصدفة أن علم الأصول عند الامامية يزداد قرنا بعد قرن أوجا و علوا، بخلاف المذاهب الإسلامية الأخرى لان مدرسة أهل البيت تعتمد علی الحجة و المنطقية و ليس من باب الصدفة.

الإثارة التي أثارها السيد الخويي هي أن النسب الأربع بين الدليلين فقط وفقط كما كان معهودا سابقا، أن تلاحظ بين موضوعي الدليلين أو أن للمحمول دور في تحديد النسبة؟ الان مختار السيد الخويي مجموع. هل هو هذا أو الجميع أو المجموع أو بشكل الجمع الأوي أو بشكل الجمع الواوي. نفس الإثارة ثمينة جدا و قيمة.

هذه النقطة أثرناها في هذا البحث لأن بحث انقلاب النسبة يعتمد علی موازنة هندسة صناعية النسبة بين الدليلين. حينئذ دخول هذه الضابطة التي أثارها السيد الخويي جدا مهم، لأن بحث انقلاب النسبة بحث صناعي بلاغي أصولي دقي و جدا مفيد. لأن في يوميات الفقه محل الإبتلاء.