الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/03/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:باب التعارض اشکالات الشیخ علی قاعدة الجمع. الاشکال العاشر و دلیل آخر علی قاعدة‌ الجمع مهما امکن اولی من الطرح

بقي في استدلال الشيخ علی منع قاعدة الجمع مهما أمکن أولی من الطرح دلیل عاشر وهو أن قاعدة الجمع توجب المخالفة القطعیة عندما یتبعض العمل بکلاالخبرین.

کیف یستلزم هذا المحذور؟ باعتبار أنه یعمل ببعض مفاد کل من الخبرین وهذه مخالفة قطعیة‌ لأن الواقع حتما علی وفق أحد الخبرین لاعلی وفق کلاالخبرین أو بعض أحد الخبرین. وقد قرر في محله عند مشهور متأخري الأصولیین أن الموافقة الإحتمالیة المقرونة بالمخالفة الإحتمالیة‌ أولی من الموافقة القطعية المقرونة بالمخالفة القطعية. تقريبا تقدم الموافقة الإحتمالية المقرونة بالمخالفة الإحتمالية علی الموافقة القطعية المقرونة بالمخالفة القطعية تقريبا صار مقررا عند الأعلام فمن ثم التخيير أو الترجيح أولی من قاعدة الجمع أو ليس الجمع أولی و مقدما. إذاً الجمع فيه معارضة لقاعدة مرسومة عند الأعلام. هذا محصل كلام الشيخ.

هذا الكلام يمكن أن يلاحظ فيه بجملة من النقاط:

النقطةالاولی: محصل هذا الإشكال أو خلفية هذا الإشكال ينطبق علی أن مقتضی التعارض ليس التساقط وهذا جيد و نحن نريده. نحن نريد أن نقول أن مقتضی القاعدة في التعارض ليس التساقط. لأن هذا الإشكال مبني علی ماذا؟ المخالفة القطعية و الموافقة القطعية، الدليل موجود في البين لاأن الخبرين كالعدم. نحن نريد أن نقرر ماذكره المشهور مشهور القدماء و مشهور طبقات الفقهاء عدا المتأخري الأعصار أن مقتضی القاعدة في التعارض ليس التعارض بل العلاجات الأخرى. بهذاالمقدار لانختلف فيه

النقطة الثانية: مر بنا أن الترجيح و التخيير هما نموذجان من نماذج قاعدة الجمع مهما أمكن وهذا هو التفسير الصحيح. أن الترجيح ليس بمعنی أن تأخذ بواحد و تسقط الآخر بل معناه أن تأخذ أحد الطرفين و تعطف الثاني عليه فتجعل الراجح قرينة علی المرجوح لا أن تجعل الراجح مسقطا للمرجوح. أصلا مسلك المشهور هذا. حتی الشيخ الأنصاري في ممارساته الفقهية هكذا، إن الترجيح نوع من قاعدة الجمع، تؤول المرجوح و تعطفه علی الراجح.

التخيير أيضا كما سيأتي كذلك مع أن صورته التخيير لكن حقيقته عطف أحد الخبرين علی الآخر و ليس هو مجرد أخذ أحدهما و إسقاط الآخر. إذا تلاحظون ممارسات الصدوق والطوسي و المرتضی وغيرهم عندما يقولون بالتخيير ليس مرادهم إسقاط الطرف الآخر بل المراد تأويله و عطفه علی ماتم اختياره. حتی أن نفس الشيخ الأنصاري سيأتي في بحوث الروايات العلاجية قال: ما المراد من التخيير عند من يقول بأن الترجيح ليس فقط بالقرائن المنصوصة بل بكل قرينة ولو الإحتمالية؟ لأنه إذاً ينسد الطريق علی التخيير

سيأتي أنهم حينئذ في تفسير التخيير يقولون: التخيير يعني الأخذ بالطرف الراجح بالقرائن المحتملة في قبال الترجيح المنصوص. يعني إذا انقطع بك الطريق إلی الترجيح المنصوص تصل النوبة إلی الترجيح المحتمل، التخيير بهذا المعني لاأنه شيء قريحي تأخذ بأحدهما. هذا التفسير تام أو غير تام سياتي، أيا ماكان حتی التخيير علی قاعدة الجمع يعني يعطف الخبر الذي لم يتم اختياره علی الخبر الذي تم اختياره. وغالبا الأعلام إنما يختارون ولو بالقرائن المرجحة و المحتملة.

النقطة الثالثة: هذه دقة صناعية تفيدنا في التعارض لأنه لب لباب قاعدة الجمع أصلا بحث التعارض هو بحث فني وصناعية لعضلة الفقيه كيف يعالج الدلالة والمضمون وينسق بالمعادلات المستفادة من المضامين. علی كل إن الشيخ فرض أن الواقع إما طبق الخبر الأول أو طبق الخبر الثاني. أخذ شيئا مفروغا عنه، أن الواقع إما تمامه طبق تمام الخبر الأول أو تمامه تماما طبق تمام الخبر الثاني. هذا الكلام فيه مافيه.

من قال أن خيارات الواقع و المحتملات أنه إما مطابق لتمام الخبر الأول أو لتمام الخبر الثاني؟ ربما الواقع مبعض، ثبت العرش ثم انقش. فرض الشيخ بسبب مبنی المتأخري هذا العصر يعني أن الدلالة الجدية النهائية لابد أن تطابق التفهيمية و التفهيمية لابد أن تطابق الإستعمالية و الإستعمالية لابد أن تطابق التصورية. تطابق واحد بين التصورية و الإستعمالية و ثاني بين الإستعمالية و التفهيمية وثالث بين التفهيمية و الجدية من قال هذا التطابق ضروري؟ أصلا التطابق في الأبعاض كما مر بنا ليس ضروريا فضلا أن يكون ضروريا في التمام.

ربما تكون قرينة تؤول لك التفهيمي علی خلاف الإستعمالي لا علی خلاف بعض الإستعمالي برمته مثل المجاز. لماذا نفرض أن الواقع مطابق للجدي و الجدي مطابق للتفهيمي و التفهيمي مطابق للاستعمالي و الإستعمالي مطابق للتصوري؟ مطابق و مطابق لتمامه؟ هذا عجيب هذه مشكلة بلاغية فذلكية في عالم الدلالة و من مهارات القدماء ومشهور طبقات الفقهاء علی هذا العصر. إنهم ماهرون (لاأقول تلاعبا في الدلالة) بمعنی الإلتفات إلی دقائق الدلالة ربما تقلبات الدلالة المختلفة. يعني فنيات كثيرة فيها.

فقاهة الفقيه من هذه الجهة، لأنه يلتفت إلی تنوعات و نموذجيات الدلالة والا لو الإنسان يسترسل سطحيا مع الألفاظ والدلالة فيعبر عنه المفيد و السيد المرتضی و الطوسي والمحقق الحلي أنه قشري حشوي. هذا تعبير الشيخ المفيد: من ينغر بالسند و ينغر بظاهر الدلالة التصورية قشري يعني لايلاحظ طبقات الدلالة مع معادلات قواعد الباب و الإستعمالات فهذا الفرض الذي أخذه الشيخ مسلما عجيب بالقياس إلی طبقات المشهور. نعم مسلم انها حجة اقتضائية والكاشفية هنا حاكم لها، أما أن الواقع إما طبق هذا أو ذاك فهذا أول الكلام. هذه ملاحظة أخری. طبعا كلام الشيخ كلام مشهور هذا العصر و من المسلمات عندهم مع أنه من الغفلات العميقة.

خلاصة: إشكالات الشيخ العشرة بدل أن تكون إشكالات علی قاعدة الجمع لاحظناها أنها أدلة عشرة أخری علی قاعدة الجمع والنكتة لطيفة، في كثيرة من المسائل أدلة الطرف الآخر بدل أن تكون أدلة مانعة بالعكس بالتمعن والتدبر أدلة أخری زيادية لنفس القول.

لابد أن نذكر بعض النماذج التطبيقية المتكررة التي منها انقلاب النسبة و سيأتي لكن قبل ن ندخل في هذه النماذج نعيد خلاصة أخری سيما لمّا انتهينا من اشكالات الشيخ، إن عمدة مبنی مشهور طبقات الفقهاء هو أن التعارض موجود علی صعيد الدلالة التصورية أو كذا لكن هذا التعارض هو إجمالا قرينة منبهة محفظة للفقيه ليلتفت إلی أن المراد الواقعي ليس علی طبق كليهما. إما ليس علي طبق أحدهما تماما أو ليس علی طبق أحدهمما بعضا أو ليس علی طبق كليهما، لازم أن يلتفت الفقيه. فموارد التعارض عند المشهور مواد استثمار في الإستدلال و إثارة البحث الفقهي الصناعي التحليلي. هذا هو تقريبا مسلك مشهور طبقات الفقهاء أن التعارض اتفاقا هو إثارة حيوية للإستنباط و الإستدلال بالإلتفات و التنبيه إلی التنوعات و التلونات وتخالفات وجوه الدلالة، يعني نفسه قرينة إجمالية علی أن باب التاويل يجب أن نلتفت إليه بينما المتأخري العصر يلاحظون أن التعارض أزمة في الدلالة و الإستدلال.

فرق بين النظر بأن التعارض مشكلة وصد بباب الوصول إلی النتيجة و بين نظرة طبقات مشهور الفقهاء أن التعارض نوع من المنبه علی أن المسئلة هنا تحتاج إلی التنسيق الصناعي الأدق و قد تكون كل الوجوه في المسئلة صحيحة لكن هذه الوجوه، فيه الأولويات و المراتب في الأولولية و كلها صحيحة.

سيأتي في الروايات العلاجية أن «في كلامنا سبعين وجها و لنا من كل وجه مخرج أو المخلص».كلها صحيح لكن فيه أولی و فيه مراتب الأولوية. هذا باب آخر في علم القانون هو بنفسه أحد أدلة قاعدة الجمع نفس هذا الشاهد. بغض النظر عن الدلالة، المتن الثبوتي لعلم القانون فيه منافذ عديدة فيه أبواب عديدة و فيه طرق عديدة و فيه أوجه عديدة، لكن بينها أولوية شبيه قوله تعالی «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ»[1] لماذا الضمير في «لحكمهم» جمع مع أن داود و سليمان تثنية؟ قد غفل عنه كثير من المفسرين و في الروايات أهل البيت تنبهوا لماذا. «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا»[2] يعني هذا صحيح و ذاك صحيح.

أيضا شبيه تفاوت المراتب بين الأنبياء و المعصومين كل علم منهم صحيح لكن «فوق كل ذي علم عليم». هذا باب آخر، إن الوجوه التاويلية يمكن أن تكون كلها صحيحة لكن فيه أولی فأولی فلانفرض الواقع قالبا واحدا ثبوتا و طريقا لاخيار فيه بل يكون هنا ألف خيار.

صاحب الجواهر رحمه الله في كتاب الصلوة في باب الصلوات النوافل ينقل أن أعظم أنواع الإستخارة هي الإستشارة. أبرك و أعظم و أفتح فتوح النجاة هي الإستشارة و كلما يكثر الإستشارة فالبركة أكثر، حتی في الروايات عندنا أن المعصوم صلوات الله عليه يستشير لأن الله قد يجري علی لسان غير المعصوم للمعصوم مالم يفتحه للمعصوم من قبل، سبحان الله، هذا يكون أداة من دون أن يشعر.

المقصود، من أعظم أنواع الإستخارة الإستشارة، يعني أن عقل الإنسان يتوسع. المعصوم معصوم لكن يزداد علما من الله. هو عقل و علم كله وفي غير المعصوم يتوسع. الان البشرية وصلت في النزاعات السياسية و الأمنية و الصعبة أن هناك الخيارات دائما عديدة وكل منها صحيح و فيه الأصح و أصح الأصح وهلم جرا. فالآن التفتوا إلی أن الواقع ثبوتا فيه خيارات و فيه مثارات و فيه طرق و فيه درب كثيرة وقد تكون كلها حسنا و كلها جيدة لكن فيه أصح و أكمل و أتقن. هي معنی الإستشارة و هي معنی أن القانون لايلزم أن تكون وفق كلاالخبرين. هذا علی كل وجه آخر لقاعدة الجمع أن نفس نظام القانون بحسب الثبوت في الواقع هو بنفسه يتحمل لخيارات عديدة.

هنا نستعرض بعض النماذج التطبيقية لقرائن الجمع المشهورة و المتكررة وإلا قرائن الجمع لاتعد و لاتحصی مثل القدر المتيقن و القدر المتيقن الإحتمالي و انقلاب النسبة.

نكتة واحدة مشتركة في هذه القرائن نذكرها بكلمة واحدة، وهي أن هذه القرائن عند المشهور في الكتب الأصولية المبسوطة ككتاب القوانين وكتاب الوافية للفاضل التوني أو كتاب المناهج ميّزوا بين القرائن المتعارفة المعتادة فسميت قرائن الظهور الجلي يعني المعتادة و المعترفة وبين قرائن التأويل فالتاويل يعني الظهور الخفي. كما مر بنا إجمالا هناك إشكالية لدی المتاخرين أن يسحبوا قواعد الظهور الجلي علی قرائن التاويل و الظهور الخفي وهذه هي الأزمة والإشكالية المعقدة عند المتأخرين. إن شاءالله نبسطه وندخل في جملة من النماذج التطبيقية.


[1] الأنبياء/السورة21، الآية78.
[2] الأنبياء/السورة21، الآية79.