الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/02/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: باب التعارض، إشكالات الشيخ علی قاعدة الجمع، تتمة الاشكال السادس و السابع و الاشكال الثامن

مر بنا الامس الدليل السادس و السابع للشيخ الانصاري وهو أن التعارض أمر عرفي ويحكّم به العرف بين الأدلة في الروايات و مرتكز ثابت في أسئلة الرواة، فمع العمل بقاعدة الجمع و التأويل بلغ مابلغ سينتفي التعارض مع أنه خلاف قضاء العرف وارتكازه وماهو المرتكز عند الرواة.

أجبنا عنه بالنقض بأن هناك جمعا نظريا تنظيريا إستدلاليا إجتهاديا عند متأخري الأعصار ولم يلتفت إليه طبقات الأعلام من القرون السابقة. كل مباحث الأصول الدقيقة علی هذا المنوال، أصلا مباحث الأصول عبارة عن حلحلة عقد في الفقه ومهارتها في هذا المجال سواء في المستقلات العقلية الخمس أو مباحث الألفاظ أو مقدمات الألفاظ كلها، كثير من القضايا تصب في هذا المبحث ربما يراهم أجيال العلماء عقدة مبهمة لكن المتأخرين حلحلوها. نظير ما يقال كيف تتبادل الماهية إلی الأجزاء، كانوا يرونها التعارض و ماشابه ذلك، لكن المتأخرين ألفتوا كيف يمكن الماهية في أجزائها الواجبة أن تكون ذات مراتب و ذات طبقات و فيه أجزاء مستحبة أو تصوير الجزء المستحب و هلم جرا.

هذه البحوث الصناعية و الأصولية التي بلورها الأصوليون في علم الأصول سابقا كانوا يرونها عقدة أم متعارضة. إنقلاب النسبة والحكومة والورود وغيرها كما يذكر الشيخ الانصاري و كلامه صحيح، جملة من المتقدمين جعلوا التعارض بين الأصل العملي و الدليل الإجتهادي فببركة معرفة مراتب الحجج و الحكومة والورود حلحلت عقدتها و صارت من البديهيات. كثير من الجمع النظري الإجتهادي لاالعرفي الساذج ما كانوا يتقنوه في العملية الإجتهادية القديمة فضلا عن الرواة و فضلا عن العرف، إذاً هذا نقض بل هذه سيرة مترامية و متعاقبة في الفقه وفي الأصول.

كيف تفسير هذه السيرة؟ تفسيرها أن التعارض هل هو واقع وجودي لايتبدل وثابت أم أن التعارض نسبي أم ماذا؟ لامحالة يبنی علی أن التعرض شيء نسبي أو نفسر بأن التعارض موضوع ظاهري و ليس موضوعا واقعيا. أما النسبي فيعني بحسب قدرات الأشخاص.

هذا موجود حتی في العام و الخاص، جملة من الرواة الفقهاء آنذاك زمن صدور النص يعتبرونهما من التعارض، مثلا أحد موارد الأدلة العلاجية للتخيير موردها عام وخاص والإمام سلام الله عليه في الجواب عن سؤال الراوي ماقال هذا عام و خاص و الخاص مقدم علی العام مع أن هذا الكلام موجود في كلام أميرالمونين و السيدة زهرا سلام الله عليهما لكن في زمن الإمام الصادق عليه السلام علم أصول الفقه ماكان مدونا وكانوا يرونه التعارض. موارد عديدة من الروايات العلاجية وستأتي في جملة من مواردها عام وخاص ومطلق ومقيد، لماذا الإمام بينه من موارد العلاج المحمولي لاالعلاج الموضوعي؟ لأن الإمام ليس في صدد هذا المورد أو ذاك المورد بل في صدد أي مورد يعجز الراوي أو الفقيه أو المجتهد عن توليف الموضوع فتصل النوبة إلی العلاج المحمولي، فهو ليس في صدد إمضاء الراوي بأن العام و الخاص تعارض مستقر بل يعطي قاعدة في أي مورد أنت أيها الراوي عجزت عن فهم المراد فيه بتوليف و تأليف طوايف الروايات فتصل النوبة إلی الأصل العملي و الأصل العملي هو الترجيح و التخيير.

فهذه مما يدلل علی أن علاج التعارض المحمولي أو بعبارة أخری التعارض كموضوع للعلاج المحمولي أمر نسبي شبيه أن الفقيه يتتبع و مايجد الروايات فيجري أصالة البرائة أو أصالة العدم، بينما الفقيه الآخر عنده مهارة أكثر و تتبع أكثر فيلتفت إلی الروايات والأدلة وهلم جرا. التمسك بالأصل العملي نسبي بالنسبة إلی العجز عن الوقوف إلی الأدلة الإجتهادية بحسب الدرجة العلمية والهمّة العلمية. هذا لايدلل علی أن الأصل العملي شيء ثابت لكل مجتهد، هذا خطأ بل المجتهدون والفقهاء يتفاوتون في درجات العلم. بالنسبة إلی بعضهم هناك دليل إجتهادي منجز في حقهم و بالنسبة إلی بعضهم لايصير منجزا فيتمسك بالأصل العملي. حينئذ الأصل العملي ليس ثابتا عند الكل. هكذا بحث التعارض لامحالة حتی التعارض المستقر لايمكن أن يقول إن التعارض المستقر أمر ثبوتي و موضوع ثبوتي بل هو موضوع إثباتي. إما أن نعبر عنه الموضوع الإثباتي أو نعبر عنه الموضوع النسبي فجهود و قدرات فهم الفقهاء يختلف عن بعضها البعض كما أكد علی ذلك سيد الأنبياء صلی الله عليه و آله في خطبته المتواترة الوداع: «رب حامل فقه إلی من هو أفقه منه و رب حامل فقه و ليس بفقيه» يعني الأمور نسبية فمع كون الأمور نسبية لايمكن البناء علی أن التعارض أمر ثبوتي سواءي للجميع بل هو أمر نسبي و إثباتي، يعني أنه ظاهري ولذلك تری الفقهاء يقولون هذا تعارض مستقر و بعد فترة يجدون قرائن من روايات أخری ينحل عندهم التعارض. هذا مجرب و موجود في التعارض المستقر، كان حلحل سابقا بالعلاج المحمولي من دون العلاج الموضوعي و بعد فترة توجد قرائن للعلاج الموضوعي. مر بنا من بداية بحث التعارض إلی الآن أن العلاج الموضوعي مقدم علی العلاج المحمولي. الترجيح و التخيير من قبيل الأصل العملي و العلاج الموضوعي هو الأقوی. فهذه الغرابة من الشيخ أيضا تنتفي.

نقطة أخری في الجواب عن اشكال الشيخ: كرارا مر بنا أن التعارض مع الظهور لأن التعارض في الظهورين و قدرة العرف و العلماء ليست محكمة فيه. في باب الظهور لايتبع العرف. مر بنا مرارا. يتبع ولايتبع. يتبع يعني أنه يتبع العلم اللغوي و علوم اللغة التي يحملها العرف من قواعد علم النحو و الصرف و البلاغة و الإشتقاق. و لايتبع في قدرته علی إعمال تلك القواعد. هذا واضح و كرارا مرارا مر بنا و يقع في غفلته الكبار.

القرآن بلاغة معجزة يعني إعمال قواعد علوم اللغة بدرجة يعجز عنها الأولون و الآخرون إلی يوم القيامة فما رؤي قدرة العرف. إعمال بشكل لامتناهي لكل ما يمكن من علوم اللغة. نفس بلاغة القرآن أيضا تتفاوت في الدرجات يعني حتی الإعجاز فيه الدرجة. فهذا دائما خلط يحصل عند البحوث المعقدة عند الأعلام . بعض الأعلام يظنون أن العرف محكم في قدرة تطبيق علوم اللغة وفي قدرة تحليل علم اللغة. هذا خطأ جدا.

رحمة الله علی الشهيد الصدر في بحث الطهارة في شرح العروة بحث مبسوطا في بحث إستصحاب العدم الازلي أبسط مما بحثوه في علم الأصول، هناك قال: العرف في أدلة الإستصحاب لايساعد عليه وليس لها ربط بالعرف، العرف لايمكن له ان يفهم إستصحاب العدم الازلي من الروايات، بحث دقي و نظري. بل كل استنباطات الفقهاء في الفقه من أول يوم إلی يومنا هذا العرف لايقدر أن يشمها إنما هذه للخبراء في الفهم.

المقصود هذا المطلب و هو أن علوم اللغة التي يحملها العرف يحكم في الظهور وقدرة العرف في تطبيق تلك العلوم ليست محكمة، لذلك النقاد عندهم مبارزات في النقد الأدبي يعني قدرة أحد النقاد أكثر من الأدباء و عنده قدرة تحليلية وإن لم يكن شاعرا و ليس أديبا لكن قدرة الأديب في النقد و النقد يعني العلم التحليلي. الأديب له علم إرتكازي اجمالي و مر بنا المنهج الإجمالي و المننهج التفصيلي.

هذا جواب آخر عن اشكال الشيخ الأنصاري و هو أن تحكيم العرف و الأدباء خطأ، لذلك صار ناموسا و قاموسا في مدرسة الإمامية و العلماء المتبع لأئمة أهل البيت أن فهم العلماء ليس بحجة علی عالم آخر مالم ينتهي إلی الضرورة البديهي، أما اجتهادات المجتهدين حتی لو كان من المشهور في الإستنباط (لاالمشهور في المادة الإستدلالية يعني وجود مادة إذا ذهب المشهور في وجود مادة استدلالية حينئذ يكون حجة في وجود مادة استدلالية) أما أصل الفهم و الإستنباط لا، أنت مادام لم تخالف البديهيات و الضروريات في العلوم الدينية امش، ربما يغفل كثير من الأفهام و فيه موارد كثيرة.

العلامة الحلي رحمة الله عليه خالف كل من قبله إجتهادا بأن البئر لايتنجس والأمثلة في ذلك كثيرة. مادام المخالفة في الإستنباط نظري و كثيرا حتی في العقائد وجدنا أن المشهور بنی علی شيء لكن شهرات إجتهادية و ليست شهرات بديهية مثل أنه في الجنة ليس تكليف أو في البرزخ حتی الفلاسفة قالوا بذلك مع انها كلها غفلات. بالدليل خالف المشهور و امش مافيه مانع. قالوا بأنه يبعث في الرجعة من كمل ايمانه و هذا غفلة عن طوائف من الروايات ماوقفوا عليه، هذه شهرة إجتهادية و ليست شهرة راجعة إلی المادة. فتحكيم قدرات العلماء فضلا عن العوام هذا كساد وإماتة لباب الإجتهاد. نعم، يعتنی بكلام المشهور لكن لابمعنی التحكيم. مسير الاجتهاد يحكم عليه الضرورات و الأدلة و التسالمات. الأدلة إذا كانت ظنيا معتبرا مالك حق أن تخالفها أما قدرات العلما في الفهم فضلا عن قدرات العوام لايحكم.

البرزخ كانوا يرونه انه نشؤة اخروية و أبدية الفلاسفة والعرفاء وا لمتكلون والفقهاء مع أن النصوص العقلية تدل علی أن البرزخ نشؤة أرضية وليست نشؤة أخروية. و من هذا القبيل أمور كثيرة . قدرات العلماء شيء والضوابط والضروريات شيء آخر. والذي يخيف المجتهد هو ان يستنتج بلادليل موزون أو خلاف الضرورة أو خلاف المادة الاستدلالية المعتبرة أما إذا كان علی بصيرة من الأدلة خالف الأفهام.

الدليل الثامن الذي تمسك به الشيخ و الكثيرون في منع قاعدة الجمع: هو أن الجمع التأويلي والتبرعي والإحتمالي بلغ مابلغ في وعاء و ظرف الإحتمال ما الثمرة فيه؟ افترض جمعت بين الروايات المتعارضة بجمع تأويلي إحتمالي لكن ماذا فائدته؟ ليس ظهورا تعتمد علبه و تستنبط به. اذا كان تبرعيا و تأويليا و تكلفيا وكذا، مجرد الإحتمال فهذه القاعدة بأن الجمع مهما أمكن مهما مهما، لاثمرة علميا فيها بل مجرد تفنن علمي. هكذا أشكل كثير من الأعلام. الإشكال صورة مرتب وصناعي.

هذا الاشكال سنجيب عنه في الجلسة القادمة لكن نذكر الفهرسة للجواب.

أولا: هذه القاعدة يكفي في متانته و أثرها الصناعي الملزم أنها تمانع دعوی الجزم بالتناقض و التنافي فإذا جاء الإحتمال بطل الاستدلال. وإذا لاأجزم بالتناقض والتعارض لاتتساقط الروايات المتعارضة. يرتفع دعوی الجزم بالتناقض و التنافي. هذا أول ثمرة ويالها ثمرة عظيمة.

الشيخ الطوسي دأبه هذا المطلب و غدا أبسط هذا المطلب.