بحوث خارج الأصول

الأستاذ الشیخ محمدالسند

36/03/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع:- التنبيه الثاني ــــ تنبيهات البراءة ــــ الأصول العملية.
كان الكلام في الشواهد على القول الاول وهو القول الاشهر في قاعدة من بلغ ومرّ بنا ذكر ثلاثة من القرائن وهي:-
اولاً:- أن المستظهر من الروايات ان هناك حثّ وترغيب ودفع على العمل عند بلوغ الثواب بغض النظر عن كون هذا البلوغ مصيب للواقع او غير مصيب وليس هذا الا أمر مولوي تشريعي.
ثانياً:- أن التقدير الخاص للثواب من الواضح انه لا يكون بلحاظ طبيعة الانقياد العامة التي يحكم بحسنها ورجحانها العقل لان التقدير الخاص بقدر خاص وبحد خاص وبكمية خاصة هذه لا  يمكن للعقل ان يدركها بل هي من الواضح انها جعل شرعي سواء كان معنى الجعل الشرعي هو الاخبار عن التكوين الذي لا يدركه العقل او لا، اذن هذا يناسب ان يكون الأمر مولوياً.
ثالثاً:- وهذه القرينة ترتبط بمقدمات متعددة في مبحث القطع والتجري ذكرناها في الدرس السابق وكان حاصلها ان حكم العقل ليس من سلسلة المعلولات كما قيل بل حكم العقل من سلسلة العلل كما في بحث التجري الذي مرّ فان بحث التجري الذي مر هو ليس من سلسلة المعلولات بل من سلسلة العلل.
 وبعبارة اخرى:- نقول ان المعصية او الطاعة تطلق على معنيين او أكثر فهناك معنى للطاعة والمعصية انتزاعي بالامتثال والأداء يتحقق وهو عبارة عن التطابق او المخالفة وهذا المعنى صحيح انه من سلسلة معلولات الحكم الشرعي، واما الطاعة والمعصية بمعنى نفس الفعل  الذي تعلق به التشريع والجهة الفاعلية في الفعل التي تعلق بها التشريع وهذا لا نسلم انه من سلسلة معلولات الحكم الشرعي بل هو من سلسلة العلل لانه كما توجد شواهد وقرائن عديدة من قبيل المصلحة السلوكية التي التزم بها الشيخ الانصاري + او ان الجهة الفاعلية وهي الولاية اعظم من المصلحة والملاك في الافعال حتى ان بعض المتكلمين من الفريقين وكثير من الفلاسفة من الامامية او العرفاء ذهبوا الى ان تمام الملاك في الجهة الفاعلية وحتى صاحب الكفاية + يقول (لا يمتنع ان يكون تمام الملاك في الجهة الفاعلية) ونحن لا نفرط في هذا المبنى والصحيح عندنا ان كلا الجهتين فيه مصلحة.
اذن ملخص هذه القرينة الثالثة ان حكم العقل هذا من سلسلة العلل وليس من سلسلة المعلولات بحيث لا يقبل الجعل الشرعي ولا يقبل قاعدة الملازمة، وبالتالي الأمر به ليس ارشاد الى جعل بل هو من قبيل ما حكم به العقل حكم به الشرع وبالتالي يكون ذات الفعل بعنوان الانقياد راجحا لان صفة الانقياد والتجري تلون وتطرأ على الفعل ولا تقف على النية وافعال النفس بل يتنزل لونها الى الفعل نفسه ويكون الفعل متلوناً ولو بلون طارئ أي الفعل يكتسب حسنا ان كان انقيادا او يكتسب سوأ ان كان تجريا وقد اشارة روايات التجري الى ذلك من ان التجري الذي يستعقبه فعل ولو ان الفعل غير مطابق للواقع فانه تدون عليه السيئة بخلاف التجري الذي لا يمتد ولا يتنزل الى الفعل.
وملخص هذه القرينة ان ما ذكروه من شواهد على القول الثالث لا تنافي القول الاول بل هي في الحقيقة شواهد على القول الاول.
القرينة الرابعة:- وهو الذي ذكره الشيخ + وبعض المتاخرين ونبه عليه الآخوند + في مبحث سابق ولكن لم يذكره كشاهد ولكنه شاهد في المقام.
وحاصله:-  ان الذي يأتي بعمل ليضيف الى الله تعالى ولو بنحو الاحتمال ـــ طبعا هذا في الفعل الصالح ـــ وقَصَدَ القربى واضافة العمل الى الله لا محالة يجعل العمل عبادي وعليه فان هذا:
اولاً:- ليس حكم ظاهري كالاحتياط قد يصيب الواقع وقد يخطأ كما في القول الرابع لانه لا محالة تتحقق العبادة القربية وان لم يكن هذا الفعل في الواقع مأمورا به لان العبادة لا يشترط فيها العلم بالأمر بل يكفي فيها احتمال الأمر وحينئذ لا معنى لكونه ظاهرياً وان كان هذا الفعل بالنظر اليه بالعنوان الاولي قد يصيب وقد لا يصيب فان كلامنا ليس بالعنوان الاولي بل كلامنا بحسب التشريع بقاعدة من بلغ.
ثانياً:- ولا هو انقياد نفساني بحت لا صلة له بالفعل البدني الخارجي  كما هو القول الثالث؟
اذن هذا الفعل يكتسب ملاكاً ولكنه بعنوان طارئ عليه وليس بعنوانه الاولي.
واللطيف ان الاعلام يعترفون ان الثواب على الاحتياط موجود وان لم يصب الاحتياط الواقع.
اذن عندنا استحباب ولو بالعنوان الثانوي وهذا الاستحباب لا يتخلف وهذا هو الذي يريده اصحاب القول الاول لا انهم يريدون ان يقولوا ان قاعدة من بلغ تبدل العنوان الاولي الى هوية اخرى غير ما هي عليه بل العنوان الاولي على ما هو عليه وانه وان لم يأمر به في الواقع بعنوانه الاولي ولكنه مأمور به بعنوان طارئ وهو عنوان البلوغ.
هذا تمام الكلام في جواب القول الثالث والرابع.
جواب القول الثاني:-
وكذا القول الثاني فانه يقال في جوابه ان مفاد القول الثاني هو جبر السند فقط فان كان مطابقا للواقع اعطي الثواب وكان فيه ملاك وان لم يكن مصيبا لم يعطى الثواب أي فقط حكم ظاهري موجود من دون وجود حكم واقعي ولو ثانوي لان الحكم الواقعي قد يكون اولي وقد يكون ثانوي وهذا خلاف ظاهر الروايات لأنها مصرحة ومؤكدة بانه سوف يعطى الثواب وان لم يكن في الواقع قد امر به رسول الله ﷺ.
 اذن مفاد الروايات يتناسب مع القول الاول وهذا هو الذي ذهب اليه الاشهر وهو ثبوت الاستحباب للعمل وثبوت الثواب الاكثر.
توضيح أعمق لمفاد احاديث من بلغ:-
كل الكلام المتقدم في قاعدة من بلغ هي بحوث اثباتية وان كان فيها نوع من الثبوت ولكن الان نريد ان نفسر ونحلل هذا البحث بحسب المبادئ الاحكامية أي اصول القانون واصول الحكم التي دائما نترنم بذكرها، فان علم الاصول يشتمل على علمين الاول علم دليلية الدليل وهو بحث اثباتي وعلم استنباط الاحكام ولكن لا بمعنى الاستنباط الظاهري والاستطراق وان كان هذا احد معنيي الاستنباط بل الاستنباط الذي هو في تعرف علم الاصول القديم يشمل معنى ثاني للاستنباط بمعنى الاستخراج  والاستيلاد التكويني وهو بحث ثبوتي نظير الاستيلاد الثبوتي لقوانين برلمانية من قوانين دستورية.
 فلاحظوا توجد روايتان قراناهما ودققوا في العبارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يقله )[1]،  فلاحظوا ان خيرية الفعل محرزة من الاول وليس احرازها بقاعدة من بلغ وهذ الكلام ايضا غير مبنى القدماء وغير مبنى المتاخرين، اذن ثبوت خيرية العمل ليس بقاعدة من بلغ حتى يستشكل بها المتأخرون ويقولون ان قاعدة من بلغ غير مشرعة وغير جابرة.
ان قلت:- اذا كانت اصل خيرية العمل محرزة فما الجديد الذي اضافته قاعدة من بلغ؟
قلت:- الجديد الذي اضافته القاعدة هو ثبوت الثواب له واعطائه الثواب الذي بلغه وان لم يكن قد قاله النبي ﷺ، فأصل المشروعية ليست بقاعدة من بلغ حتى يشتشكل المتأخرون بانه كيف تكون قاعدة من بلغ مشرعة بل يجب ان تثبت مشروعيته برتبة سابقة مثل لو كانت صلاة خاصة او صوم خاص او آداب خاصة مع الوالدين وغيرها فورود الخبر الضعيف لخصوصيات صنفية او فردية او نوعية بعد الفراغ عن تشريع الجنس عموما او النوع عموما فاصل الصلاة امر راجح واصل مشروعية الصلاة ليس محل (الصلاة خير موضوع) وكذا اصل مشروعية الصوم (الصوم جنة من النار) فتشريع الصوم ليس مل البحث، فاصل تشريع الجنس امر مفروغ منه ولكن الخبر الضعيف ورد في خصوصية فردية او صنفية او نوعية بعد الفراغ عن تشريع الجنس.
لا يقال:- ان الالتزام بذلك يؤدي الى فتح باب الدين والتشريع على مصراعية؟
فانه يقال:- ان الدين له قوالب لا يمكن التلاعب بها  وتشريع هذه الموارد ليس بقاعدة من بلغ بل التشريع بعمومات اولية ولكن خصوصية الثواب الفريدة تشرعه قاعدة من بلغ  اذن قاعدة من بلغ في طول مشروعية الصلاة التي لم تثبت بنفس قاعدة من بلغ.
غدا نكمل البحث ان شاء الله تعالى.


[1] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملي، ج1، ص80، ابواب مقدمات العبادات، باب18، ح1، ط آل البیت.