الموضوع:- التنبيه الثاني ــــ تنبيهات البراءة ــــ الأصول
العملية.
ذكرنا بالامس شواهد متعددة على القول الثالث والرابع.
اذن بناء على هذه الشواهد ليست الاخبار في صدد جعل جديد سواء
كان جعل فقهي وهو القول الاول او جعل اصولي وهو القول الثاني.
والآن نذكر بعض القرائن على القول الاول:-القرينة الاولى:- من غير الخفي ان القارئ لهذه الروايات
يلمس ان هناك حثّ وترغيب على المجيء بالعمل الذي بلغ المكلف الثواب عليه، اذن هذه
الروايات ليست في مقام الاخبار المحض بل بلا شك هي في مقام الحثّ والترغيب
والتحضيض فكيف نحملها على الارشاد
ان قلت:- ان هذا الحث والترغيب يافي ما ادعي في القول الثالث
والرباع؟
قلت:- هذا الحثّ والتحضيض لا ينافي ما ادعي في القول الثالث والرابع
من كونها في مقام بيان الكرم والاحسان الالهي لأنها تبين مقام الفضل والاحسان
والكرم وكذا هذا الإخبار هو بنفسه يستفاد منه مادة من الشارع للحث والبعث نحو العمل
فما المانع في ذلك.
واتفقا اغلب الآيات والروايات الواردة في التشريع تبين نمط جزاء
هذا العمل ونمط احسان الشارع او مثلا بعض امور الخير التي يزداد احسان الشارع فيها
فمثلا
(حب علي حسنة لا يضر معها شيء) فهذا لأجل
التحضيض على ولاية امير المؤمنين × وان كان اصل الثواب هو تفضل من الله،
وبيان مزيد من التفضل لا مانع منه وغايته وحكمته هو التحضيض والحث على العمل فلا
تنافي بين تلك القرينة وهذه القرينة.
اذن القرينة الاولى تقول انه لا يوسوس لكم انه مع احتمال عدم اصابة
الخبر للواقع انكم لا تقدموا ولا تبادروا للعمل بل بادروا اليه وسيكتب لكم ثواب
ذلك العمل وان لم يكن مطابقا للواقع فالحث والتحضيض واضح.
القرينة الثانية:- ان هذه الروايات تسجل ثواب بقدر ما بلغ
وان لم يكن في الواقع مجعول بحسب الجعل الاولي الا انه يكتب قدر ذلك الثواب كما
بلغ ولو كان هذا الأمر ارشادي فالأمر الارشادي ليس فيه جعل وليس فيه خصوصية بل هو
تابع للمرشَد اليه والمرشَد اليه حسب زعم القول الثالث والرابع هو حكم العقل العام
بالانقياد.
ولكن من اين للقعل ان يحكم بخصوصية هذا الثواب فلا سبيل للعقل ان
يحكم بوجود هكذا خصوصية من الثواب على هذا العمل، اذن من الواضح ان هذا التخصيص
لهذا المقدار من الثواب واضح فيه انه تشريع من الشارع وجعل منه وتفضل جعلي وتشريعي
من الشارع فكيف يتصور انه ليس في البين أي جعل شرعي وليس في البين أي حكم شرعي ومع
ذلك يوجد هذا الثواب بهذا القدر الخاص.
وبعبارة اخرى:- لو كان هذا الثواب لأجل الانقياد
العقلي فالانقياد ربما يكون شديد في الموارد التي ورد ان ثوابها متوسط، وربما
يكون الانقياد قليل في الموارد التي ورد ان ثوابها شديد وعظيم فكيف يحكم العقل في
الحالة الاولى بان الثواب قليل مع ان ثوابها شديد ويحكم في الحالة الثانية بكون
الثواب قليل مع ان ثوابها كثير فهذا مما لا يهتدي اليه العقل.!!!
اذن هذا الجعل المخصوص طبق ما بلغ وبنفس الخصوصية
[1]
لا يمكن للعقل ان يدركه لولا تدخل الشارع تشريعا وتكوينا. ودعوى كون المرشد اليه
هو حكم العقل لا غير وكون هذا الحكم العقلي من معلولات الحكم الشرعي غير تامة.
القرينة الثالثة:- ان نفس القوال الثالث والرابع لباَ
يرجع الى الاول والثاني.
توضيح ذلك:- ان الانقياد في قبال التجري وهو الصفة
الفاعلية في موارد الاعمال وليس هو في سلسلة معلولات الاحكام فهذا اول الكلام.
فالانقياد تارة يكون في موارد الطاعة اذا كان في متن الواقع
وجوب او استحباب فخضوع المكلف في تلك الموارد انقياد مصيب للواقع فكل طاعة واقعية
مصيبة للواقع هي انقياد وهي الجهة الفاعلية في الفعل كما مر توضيحه من ان هناك جهة
للفعل بما هو هو وهناك ايجاد للفاعل للفعل وهذه هي الجهة الفاعلية فالانقياد موجود
في موارد الطاعة وموجود ايضا في موارد غير الطاعة مثل موارد الاباحة كما لو توهم
الوجوب او الاستحباب وهذا هو الاصطلاح في علم الاصول أي في حالة اخفاق الاحراز في
الشبهتين الحكمية والموضوعية فهذا يعبر عنه بالانقياد أي هناك جهة فاعلية فقط من
دون ان يكون هناك ذات الفعل وهذا الانقياد هو المصطلح عليه في علم الاصول وهو الذي
يكون في قبال التجري وايضا هناك تجري بالمعنى الاعم موجود في موارد المعصية وهناك
تجري في مقابل المعصية وهو التجري بالمعنى الاخص أي في الموارد التي يتوهم ان هناك
حرمة او كراهة ويتضح انه لا حرمة ولا كراهة وهذا هو التجري باصطلاح علم الاصول
اذن هناك انقياد بالمعنى الاعم الشامل للطاعة وغير الطاعة وانقياد
بالمعنى الاخص الخاص بموارد غير الطاعة
ونقطة اخرى توضيحية:- وهي اننا في التجري التزمنا مع جماعة
اخري خلافا للشيخ الانصاري + ان حرمة التجري حرمة شرعية وعقلية
سواء تلك الموجودة في موارد المعصية او الموجودة في موارد تخلف المعصية.
ان قلت:- ان هناك اشكال في بحث التجري يوجد اشكال يذكره صاحب
الفصول + والشيخ الانصاري + حاصله: انه لو بنينا على حرمة التجري
شرعا للزم من ذلك انه في موارد المعصية ان تشتد المعصية وفي موارد غير المعصية
تكون عقوبة على غير معصية؟
قلت:- ان حرمة التجري حرمة شرعية وعقلية ومن سلسلة العلل لا
المعلولات فهي من موارد ما حكم به القعل حكم به الشرع وهي غير قضية الالزام
بالطاعة غاية الأمر في موارد المعصية هناك قبح فعلي وقبح فاعلي بل التزمنا بان
القبح الفاعلي للتجري يسري الى الفعل فيضيف للفعل قبحا غير قبحه الذاتي وهذا هو
الصحيح لذا المباح في نفسه يصبح قبيح بعنوان
طروا التجري وكذا الانقياد حسنه عقلي وشرعي، لذا الله تعالى يمدح المخبتين واهل
التسليم والخاشعين وهذه كلها حالات وانواع من الانقياد فهذه من سلسله العلل لا من
سلسلة المعلولات وهي في نفسها فضيلة لا ان فضيلتها اتى من الصلاة او الحج او الصوم
او من امر الشارع بل هي في نفسها فضيلة.
فالانقياد كحكم عقلي من قال انه في سلسلة المعلولات بل هو من
سلسلة العلل واذا كان من سلسلة العلل يدخل تحت قاعدة كلما حكم به العقل حكم به
الشرع واذا كان من سلسلة العلل فان هذا الأمر ليس ارشاد الى حكم عقلي في سلسلة
المعلولات بل ارشاد الى حكم عقلي من سلسلة العلل.
بيان القرينة الثالثة ببيان اخر:- هذه القرينة التزم بها الشيخ + في المصلحة السلوكية وهي
ان هناك مصالح ومفاسد وكمالات وشرور في الفعل في نفسه وهناك كمالات وشرور في الجهة
الفاعلية للفاعل عندما يصدر الفعل.
الاقوال في موضع المصالح والمفاسد:-
القول الاول:- حتماً مرّ على الاخوان ان المصالح
والمفاسد عند العدلية في الافعال لا في الجعل، والاقوال هي:-
القول الثاني:- اكثر الاصوليين والفلاسفة التزموا بان
المصلحة في الجعل لا في المجعول كالمسائل الأمتحانية كما في قوله تعالى:
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾
[2]،
فالمصلحة ليست في الذبح بل المصلحة في امتحان النبي ابراهيم × ليرى الله الجهة الفاعلية
في النبي ابراهيم × والنبي اسماعيل × أي ليرى هل الانقياد موجود فيهما او
لا؟
فبعض الاصوليين وبعض المتكلمين يلتزمون ان المصلحة موجودة فقط
في الجهة الفاعلية وكأنما كل المسائل إمتحانية حتى صاحب الكفاية + يصرح في موارد عديدة انه
ليس من الضروري ان تكون المصلحة في العمل بل قد تكون المصلحة في الجعل والمراد من
قولهم ان المصلحة في الجعل هو ان الفعل ليس له دور بل الدور والمدار في الجهة
الفاعلية في الفاعل وهذا احد تفاسير قول الشيخ الانصاري + بالمصلحة السلوكية وهذا
الكلام متين وغير متين.
القول الثالث:- هو بين القولين فان كلا منهما متين
وغير متين فهو غير متين في نفي المصلحة والمفسدة في نفس الفعل فهذا خلاف ظاهر
الادلة من الكتاب والسنة من ان نفس الافعال في نفسها بغض النظر عن الجهة الفاعلية
فيها مصالح ومفاسد وحتى العقل يحكم بذلك فحصر المصلحة والمفسدة فقط في الجهة
الفاعلية ليس بصحيح، ولكنه متين من ان الجهة الفاعلية اعظم ملاكا في الكمال
والمصلحة من الجهة الفعلية وهذا أحد تفاسير القاعدة النبوية العظيمة:
(عن إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن محمد قال: حدثني علي بن جعفر
بن محمد وعلي بن موسى بن جعفر، هذا عن أخيه، وهذا عن أبيه ـ موسى بن جعفر (عليه
السلام) ـ عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله) ـ في حديث ـ قال: إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرىء ما
نوى، فمن غزا ابتغاء ما
عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا، أو نوى عقالا، لم يكن له إلا ما نوى)
[3]، أي شان العمل وقيمة
العمل وخطورة العمل مرتبط بالنية لا بنفس العمل وكذا
(فان
نية المؤمن خير من عمله)
[4]،
وهذه قاعدة ثابتة مستفيضة والخير هنا بمعنى ان كمالها اكثر وكذا
(عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه كان يقول: نية المؤمن أفضل
من عمله، وذلك لأنه ينوي من الخير ما لا يدركه، ونية الكافر
شر من عمله، وذلك لأن الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر
ما لا يدركه)
[5]، فنية الكافر مفسدتها اكثر
من عمله وهذا نفس ما نحن فيه فان التجري مفسدته اكثر من ذات المعصية في نفس الفعل
لانه معصية في مقام الفاعلية ومن هنا يتضح لماذا كون الولاية اعظم من بقية الاركان
والفروع لان الولاية هي جهة فاعلية فان محلها القلب وهي اعظم من الجهة الفعلية
التي محلها البدن ومن هذا يتضح ما قيل من ان كل الفروع من اجل المعاملات
والمعاملات من اجل العبادات والعبادات كلها غايتها الولاية.
اذن الجهة الفاعلية هي بنفسها لها ملاك وليس بصحيح ان الجهة
الفعلية هي فقط التي فيها ملاك وليس بصحيح ايضا ان الجهة الفاعلية تبع للفعل.
على هذا البيان يتضح ان وسوسة الشيخ الانصاري في هذا المطلب
نتيجة الخطاء الذي بنى عليه في بحث التجري وسياتي توضيحها اكثر لأهميتها ان شاء الله
تعالى.