الموضوع:- الدليل العقلي - أدلة الاحتياط - الأصول العملية.
كان الكلام في منجزية العلم الاجمالي لمجموع التكاليف الذي
استدل به الاخباريون على الاحتياط في قبال دعوى الانحلال من قبل الاصوليين، ومرت
بنا ضوابط انحلال العلم الاجمالي اجمالاً سواء كان انحلالاً حقيقياً او انحلالاً
حكمياً، ويوجد تقريرين لدعوى انحلال هذا العلم الاجمالي:-
التقرير الاول :- ان يقال ان العلم الاجمالي الكبير
بالتكاليف الالزامية هو من الاول ليس اوسع دائر من موارد الامارات والاصول
العملية.
التقرير الثاني:- ان ما قامت عليه الامارات وكشفت عنه
يكاد يكون متطابق مع المعلوم بالإجمال.
وبين التقريرين فرق فان التقرير الاول يحاذي التطابق بين موارد
الامارات والاصول العملية والمعلوم بالإجمال بغض النظر عن كون الامارات حجة او لا،
وكون كشفها تام او لا، وكون كشفها عن احكام الزامية او غير الزامية فان هذا مطلب
آخر، فانه يقول ان المعلوم بالإجمال ليس دائرته اوسع من دائرة موارد الامارات
والاصول بخلاف التقرير الثاني فانه يريد ان يقول ان ما هو المعلوم بالإجمال قد كشف
عن مفاد متطابق مع الامارات والاصول أي يحاذي التطابق مع محمول الامارات.
ما الفرق بين جعل التطابق ومحاذات مع مورد الامارات
وبين جعل التطابق والمحاذات مع محمول الامارات؟ الجواب:- الفرق هو انه على الاول ــ أي التطابق مع مورد الامارات
ــ يكون الانحلال حقيقيا، اما على الثاني ــ أي التطابق مع المحمول ــ يكون
الانحلال حكميا، لانه على الاول موضوع الامارات ليس الظن ولا القطع بل شيء تكويني
فان الباحث كان يظن ان سعة العلم الاجمالي مقدار معين ولكن يتبين ان سعته بهذا
المقدار تكويناً أي بعد تصفية العلم الاجمالي الكبير بإخراج الموارد المعلومة
بانها حلال او مباحة فيبقى عندنا هذا المقدار، اذن التقرير الاول الانحلال فيه
حقيقي لان التطابق بين المعلوم بالعلم الاجمالي الكبير وموارد الامارات والاصول
العملية، والمورد يعني الموضوع وموضوع الامارات والاصول العملية هو ارضية جريان
دليل الامارة او دليل الاصل العملي فليس هو نفس الامارة وليس هو نفس الاصل العملي
فهو شيء تكويني واذا كان التطابق موجود فالانحلال يكون حقيقي.
اما على التقرير الثاني فانه يقول ان ما كشفت عنه الامارات وما
كشفت عنه الاصول العملية متطابق مع موارد العلم الاجمالي والكشف كشف تعبدي، فإذن
لا محالة يكون الانحلال حكميا.
اذن دعوى الاصوليون بأحد التقريرين موجودة في البين أي لا يوجد
عندنا علم اجمالي اوسع من هذا المقدار وبقية الموارد الزائدة على ذلك محتملة غير مقطوعة
العدم ولكنها ليست ضمن نطاق العلم الاجمالي.
وهناك سجال من الجيد اثارته وان كان سياتي بحثه بعمق في ابحاث
العلم الاجمالي وهو دقيق ولطيف لو تم.
وحاصله :- انه يوجد عندنا علم اجمالي كبير وعندنا علم اجمالي اصغر
منه والمستشكل يقول كيف يمكن ان يدعى انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم
الاجمالي الاصغر دائرة مع ان المدعي للانحلال يقر ويعترف وجداناً ان ما وراء دائرة
العلم الاجمالي الصغير
[1]
محتمل ان يكون فيها احكام شرعية فهي غير مقطوعة العدم، ومن يدعي انها مقطوعة العدم
فهو كأنما يريد ان يدعي انه ليس هناك حتى شبهة بدوية وهذا لا يمكن قبوله، والنتيجة
هي ان العلم الاجمالي الكبير لم ينحل كما لو علمت ان قطرة الدم سقطت في واحد من
ست اواني ثم حصل لي علم اجمالي انها سقطت في واحد من اربع اواني من الستة،
فاذا ادعي ان هناك انحلال حقيقي فهذ يعني ان الاناء الخامس والسادس
لا يحتمل سقوط القطرة فيه.
اما اذا قلت انه لا زال محتمل ان الخامس والسادس وقعت فيه قطرة
الدم اذن العلم الاجمالي الاول لم ينحل فان المعلوم بالإجمال السابق دائرته لا
زالت وسيعة أي هو احد الستة لا احد الاربعة الا ان يدعي انه انحلال حكمي وهذا امر
آخر ولكن الانحلال الحقيقي لابد فيه ان يرتفع العلم السابق ويزول واذا زال فلا
احتمال
[2]
حينئذ، اما مع الاحتمال فانه لم ينحل حقيقتا لان العلم الثاني لم يشف لنا شيء.
هذا تمام الاشكال؟الجواب:- كما ذكره جملة من الاصوليين وهو انا نقول نعم ان ما زاد
على دائرة العلم الاجمالي الصغير لا زال نحتمله ولا نقطع بالعدم ولكن مع ذلك ينحل
العلم الاجمالي الكبير وتحقيق الحال ببين ضابطة من ضوابط الانحلال:
الضابطة الثالثة:- ان الاحتمال في ما زاد على الصغير ان
كان منشأه المعلوم الاجمالي الاول فنقول صحيح ان العلم الاجمالي لم ينحل والحق مع
المستشكل ولذا يعبر الاصوليون بالشك المقرون بالعلم الاجمالي ولمراد به ان منشأه
نفس منشأ تكون العلم الاجمالي فاذا كان الشك فيما زاد على الصغير منشأه هذا فهذا
دليلٌ على عدم انحلال العلم السابق.
اما اذا كان منشاء الشك ليس المعلوم الاجمالي السابق بل منشأه بدوي
لأجل مجرد الاحتمال كما يعبر الاصوليون بالشبهة البدوية والمراد بها انه ليس
منشأها علم اجمالي بل هو في نفسه محتمل بغض النظر عن كون في مجموع اطراف علم
اجمالي وحينئذ لا معنى لان يقبى الشك في الاطراف الزائدة على الصغير دليل على بقاء
العلم السابق؟
اذن لابد ان نلتفت الى هذه الضابطة الثالثة من ضوابط انحلال العلم
الاجمالي، هذا تمام الكلام فيما ادعاه الاخباريون من تنجيز العلم الاجمالي.
ولتعميق البحث نقول:- ان الفقيه عندما يقول للمكلف اما ان يجتهد او يقلد او يحتاط فهل
هذا الخيار الثالث هو توافق من الاصوليين مع الاخباريين؟ والا فلماذا لم يقولوا
للمكلف اما ان يجتهد او يقلد او البراءة، ولا اقل ليس في جميع الابواب الفقهية بل
في بعضها، فحيث لا يفتي الفقه بشيء لماذا يقول الاحوط وجوبا ولا يجعلها البراءة؟
نعم تارة الفقيه مثل السيد احمد الخونساري (رحمه الله) عنده مبنى
في الاحتياطات الوجوبية التي يبينها في فتاواه يقول هذه الموارد ليست عديمة الدليل
بل الدليل موجود ولكن يوجد تعارض بين الادلة وتنقيحها بالنسبة الي شائك فهو ليس
مجرى للبراءة فانا اخبر المقلد لي انه ليس مجرى للبراءة ولذا السيد احمد الخونساري
لا يسوغ لمقلديه بالرجوع الى مجتهد آخر ولا يسوغ لهم البراءة وهذا بحث اخر لانه
اصطلاح في الاحتياط الوجوب وهو عبارة عن اخبار الفقيه ان في تلك الموارد هناك ادلة
اجمالا ملزمة وليست مجرة للبراءة، اما غيره من مشهور الاعلام في هذا العصر لماذا
بعض المسائل في بعض الابواب جعلوا الوضيفة العقلية فيها الاحتياط الوجوبي ولم
يجعلوا البراءة ؟
الوجه في ذلك:-ان هذا الاحتياط الذي يجعله المجتهد او الفقيه في قبال التقليد
او الاجتهاد هو ليس شك بعد الفحص بل هذا شك قبل الفحص لان الفحص اما باجتهاد او
تقليد او بلا فحص فان جعْل الاحتياط في قبال الاجتهاد والتقليد يعني عدم الفحص لان
الاجتهاد والتقليد هو فحص واذا كان الشبك قبل الفحص فلا يمكن اجراء البراءة، فان
المكلف اذا لم يجري الفحص لا اجتهادا ولا تقليدا فلا يسوغ له اجراء البراءة لا
الشرعية ولا العقلية وهذا محل اتفاق بين الاخباريين والاصوليين بل محل الخلاف بين
الاصوليين والاخباريين هو بعد ان يجتهد او يقلد ولم يقف على الدليل هل يلزم
بالاحتياط او البراءة؟ فهنا الاصوليون يقولون البراءة تجري والاخباريون يقولون في
الشبهة التحريمية فالذي يجري الاحتياط والا فان جل الاخباريين يوافقون الاصوليين
في بقية الموارد من البراءة، اذن هذا الاحتياط المذكور في بداية الرسالة العملية
هو قبل الفحص وقبل الفحص يعني انه استغراق في كل مسالة مسألة لا في الجملة أي في
مجموع الباب. هذا تمتم الكلام في الوجه العقلي الاول الذي استند اليه الاخباريون
الوجه الثاني:- ودليل عقلي اخر استند اليه الاخباريون
وهذا الدليل تام وليس بتام وهو القول ان الاصل في الافعال هو الحظر بتقريبين،
وهذان التقريبان تامان فيما بنينا عليه سابقا.
التقريب الاول:- ان افعالنا مملوكة لله (عز وجل)
والتصرف في ملك المالك غير جائز الا بإذنه خرج من ذلك موارد ضرورية في المعيشة
والمعاش او مما اذن فيها الشارع اما البقية فلا يمكن التصرف في ملك المالك الا
بإذنه وقد استعرضنا هذا الوجه في مبحث الوجه العقلي للبراءة وقدمناه هناك ــ على
عكس الاصوليين ــ على الادلة النقلية على البراءة.
التقريب الثاني :- قالوا ان في موارد الاحتمال العلم
موجود لان الاحتمال موجود فتارة الانسان جاهل مركب غافل فهو معذور اما مع الاحتمال
والالتفات فان الاحتمال درجة من درجات العلم فلا يمكن ان يجري البراءة لانه منجز
عليه عقلا.
هذان الوجهان اشكل عليهما الاصوليون اما بعدم الالتزام بمبنى
قاعدة الحظر ومملوكية الافعال لله ووجوه اخر سابقا كلها تم البحث عنها في بداية
بحث البراءة العقلية وهي خدشات غير تامة، اما الوجه
الثاني
فهو تام ومن ثم لم نعترف ان هناك براءة عقلية في الشك البسيط او في الجهل
البسيط وذكرنا ان الاصوليين انفسهم في مبحث تنجيز العلم الاجمالي حتى السيد الخوئي
(رحمه الله) ذكروا ان منجزية العلم الاجمالي لا تحتاج الى مؤونة استدلال لان نفس
الاحتمال منجز الا ان يأتي معذر، اذن لاحتمال بنفسه منجز فكل ما يتصاعد ينجز اكثر
حتى يصير ظن ثم يصير يقين، لا ان المنجز خصوص العلم الاجمالي أي العلم المركب او
التصديق، لا سيما على ما بنينا عليه وفاقا لمشهور المتكلمين
وهو الصحيح ان المتنجز يتنجز لا ان المتنجز غير
قابل للتنجيز ولا سيما مع ما بنينا عليه وفاقا للمتكلمين والمفسرين ــ
وهو الصحيح ــ ان التنجيز مقولة تشكيكية متفاوتة
الدرجات وليست ذات درجة واحدة فان التنجيز يشتد ويخف فان القاصر تنجيزه بشكل
والمعاند بشكل واللامبالي بشكل وكذا العناد درجات والتقصير درجات والقصور درجات
فهذه ليست على وتيرة واحدة، ان مع هذه المباني فالبراءة العقلية في مورد الشك غير
موجودة وان كانت البراءة العقلائية موجودة. وللكلام تتمة تاتي غدا ان شاء الله
تعالى.