الموضوع:- الدليل العقلي - أدلة الاحتياط - الأصول العملية.
كان الكلام في الوجه الاول الذي استدل به الاخباريون وهو العلم
الاجمالي وادعي انه منحل الا انهم منعوا دعوى انحلاله وكان كلامنا بالتحديد في
ضابطة الانحلال ما هي؟. ومر ان العمومات ليست على وتيرة واحدة بل هي متعدة وليست
ثلاثة كما يذكر.
الضابطة الاولى في انحلال العلم الاجمالي:- وصلة بحث تعدد العمومات ببحث انحلال العلم الاجمالي هو ان منشأ
تكون العلم الاجمالي وتعلقه بمعلوم اجمالي هذا المنشأ:
تارة بنحو العموم المجموعي وتارة بنحو العموم الاستغراقي وتارة
عموم بدلي، فلاحظوا ان العلم الاجمالي بوقوع قطرة دم في احد الأناءين عموم بدلي
واذا بني على ان لله في كل واقعة حكم فقد يكون عموم استغراقي اما اذا بني على ان
هناك مجموعة من الاحكام لدينا في الشريعة فقد يكون المنشأ للعلم الاجمالي صيغته
عموم مجموعي ولكن ليست هيئة مجموعية من قبيل العموم المجموعي بل هيئة مجموعية بين
الاستغراقي والمجموعي.
اذن من اهم ضوابط معرفة العلم الاجمالي والمعلوم بالعلم الاجمالي
سواء كان ينحل انحلالا حقيقيا او حكميا هو معرفة الصيغة والقالب للمنشأ الذي يتولد
العلم منه، وهذا
هو الصحيح في ضابطة
انحلال العلم الاجمالي.
وعلى ضوء هذه الضابطة في معرفة انواع العلم الاجمالي وبالتالي
كيفية انحلال العلم الاجمالي انحلالا حقيقيا او حكميا نستطيع ان ندرس العلم
الاجمالي المتكون لدينا هنا في محل الكلام.
وقبل تطبيق هذه الضابطة فيما نحن فيه نذكر هذا المثال الذي ذكره بعض
الاخباريين وايضا ذكره النائيني (رحمه الله) وهو كما لو علمنا بوجود قطيع محرم من
الشياه ــ اما لأجل الغصب او لأجل انه جلّال ــ وهذه المجموعة في ضمن مجموعة اخرى
اكبر ولكن السؤال انه بعد الوقوف على بعض هذه الشياه المحرمة فهل يمكن ان يقال ان
العلم الاجمالي زال وارتفع ام لا زال باقيا؟
الجواب:- انه توجد بعض الروايات قد يتمسك بإطلاقها لبقاء منجزية
العلم الاجمالي وقد استدل بها الاخباريون على مدعاهم فانه وان وقفنا على عينة من
الشياه المحرمة فان العلم الاجمالي لا يزول.
ولكن هذا المثال اذا اردنا ان نخضعه للضابطة التي مرت بنا فان منشأ
علمنا بوجود مجموعة من الشياه محرمة في ضمن القطيع هذا المنشأ ولّد لنا هيئة
مجموعية في ضمن استغراق وهذا الاستغراق باي نمط؟ هل لها سقف اقل او هل لها سقف
اعلى هل لها معدل متوسطي؟ وهذا السقف المتوسط يمكن تصويره بان يكون لدينا علم
اجمالي السقف الاعلى فيه معلوم ولكن السقف الادنى غير معلوم وتارة السقف الادنى
نعلم به ولكن الاعلى لا نعلم به وتارة المتوسط نعلم به فقط لا السقف الاعلى نعلم
به ولا الادنى.
ومن باب المثال في باب التشهد في الصلاة ــ واللطيف ان
الشارع ابتداءً في غالب روايات التشهد في الصلاة لم يبين التشهد بل الرواة يسالون
ما هو ــ ففي احد الروايات، بكر بن حبيب
(قال : قلت
لأبي جعفر ( عليه السلام ) : أيّ شيء أقول في التشهّد والقنوت ؟ قال : قل : بأحسن
ما علمت فانّه لو كان موقتاً لهلك الناس)[1]،
وفي رواية اخرى سورة بن كليب
(قال : سألت أبا جعفر (
عليه السلام ) عن أدنى ما يجزئ من التشهّد ؟ قال
: الشهادتان)[2]، فعندما يقال ادنى ما
يجزيك الشهادتين فلا يعني ان السقف الاعلى محدود بل يعني ان الشارع جعل السقف
الاعلى مفتوح، فاذا كان في البين عندنا علم فقط بالسقف الاعلى اما السقف الادنى لا
علم لنا به
فهنا الصحيح لا ينحل العلم
الاجمالي، لأننا نعلم انه موجود جملة من الشياه المحرمة فإننا لا نعلم سقف الاقل
وان كنا نعلم سقف الاكثر كما لو كانت الشياه (200) ونحرز ان (180) محللة ونعلم ان
المحرم لا يزيد على (20) ولكن لا نعلم الاقل ربما يكون الاقل (5) او (10) او (3)
او غيرها من الارقام التي اقل من لـ(20)، اذن اذا وجد علم اجمالي السقف الاعلى منه
معلوم والسقف الادنى منه غير معلوم فان الصحيح ان العلم الاجمالي هنا لا ينحل.
اما اذا كان المعلوم بالعلم الاجمالي معلوم سقفه الادنى سواء كان
سقفه الاعلى معلوم او لا، فاذا كان الاقل معلوم واحكامه في التنجيز استغراقية فهنا
يمكن ان يقال ان العلم الاجمالي قابل للانحلال، اما لو كان تنجيزه ليس بنحو
استغراقي فلا ينحل العلم الاجمالي حقيقتا وان كان يمكن ان ينحل حكما بسبب البراءة
او شيء آخر هذا بحث اخر.
لذلك لاحظوا في بحث اصالة الاحتياط في الاقل والاكثر الارتباطيين
انه لدينا علم اجمالي وهو ان الصلاة عشرة اجزاء او تسعة اجزاء فانه وان كان يوجد
قدر متيقن في البين ولكن مع ذلك لا ينحل العلم الاجمالي لان المركب هيئة ارتباطية
فمن اين نعلم ان التسعة هي بشرط لا او لا بشرط فقد تكون التسعة بشرط شيء وان امكن جريان
البراءة في الزائد بتصويرات فهذا لا مانع منه ولكن لا يمكن دعوى ان هناك انحلال
حقيقي في البين وان كان بعض الاعلام قد يدعي ولكن ليس بصحيح لان المعلوم بالعلم
الاجمالي طبيعته هيئة ارتباطية وعموم مجموعي وليس عموم استغراقي، اذن اذا كان
الاقل ــ وهو القدر المتيقن معلوم ــ فانه لا يكفي في الانحلال الحقيقي.
وهذا ما يريد الميرزا النائيني (رحمه الله) ان يمثله وان ذكر هو
امثلة عرفية ولكن الافضل ان تذكر هذه الضابطة الرياضية.
بخلاف موارد الاقل والاكثر غير الارتباطيين (الاستقلاليين) كما لو شك
انه مدين لزيد بـ(20) دينار او بـ(18) فيدفع القدر المتيقن ويجري البراءة في
الباقي لان المسؤولية اتجاه كل دينار مستقلة عن الدينار الاخر فالتنجيز بنحو
العموم الاستغراقي لذلك عبروا عنه وجوب استقلالي، وهذا بخلاف الصلاة فان طبيعتها
عموم مجموعي.
اذن الانحلال وعدم الانحلال ــ سيما الحقيقي ــ لا يمكن دعواه الا
بضبط منشاء العلم الاجمالي وان هذا المعلوم بنحو الاستغراق او البدل او المجموع او
عموم اخر كما مر بنا مرارا.
الضابطة الثانية في انحلال العلم الاجمالي:- ولا باس ان نذكر نكتة اخرى نطبقها على المثال وهي ان هناك ضابطة
اخرى في انحلال العلم الاجمالي ــ وهي تقريبا متسالم عليها ــ وهي:-
اولاً:- ان انحلال العلم الاجمالي بسبسب اخر لا يتحقق في مقام
امتثال ذلك العلم الاجمالي وانما يتصور انحلال العلم الاجمالي بسبب اخر في مقام
التنجيز او ما قبل التنجيز مثل ان يمتثل المكلف بعض الاطراف فهذا لا يوجب انحلال
العلم الاجمالي او ان بعض الاطراف بعد تنجيز العلم الاجمالي تتلف او تخرج عن محل
الابتلاء فهذه الطوارئ لا توجب انحلال العلم الاجمالي ولو كان المقدار التالف
بمقدار المعلوم كما لو كان المعلوم نجاسة احد الاواني الاربعة والمفروض انه تلف
اناء واحد منها فهذا لا يوجب انحلال العلم الاجمالي بعد التنجيز لان هذه الطوارئ
كلها في مرحلة الامتثال.
ثانياً:- اما السبب الذي يوجب انحلال العلم الاجمالي انحلالا
حقيقيا يجب ان يكون معلومه مقارن للمعلوم بالعلم الاجمالي زمانا ورتبة او متقدم عليه
زمانا ورتبة كما لو سقطت قطرة دم في احد الاواني الاربعة ولكن بعد ذلك تبين لنا ان
احد الاواني الاربعة قبل سقوط القطرة هو نجس بالتفصيل فقد حصل لنا علم ثاني متأخر
زمانا ان الاناء (أ) اصلا هو في نفسه بعينه متنجس قبل سقوط قطرة الدم، فلاحظوا ان
زمن المعلوم بالعلم الثاني متقدم وان كان العلم زمنه متأخر ولكن المعلوم زمنه
متقدم فالمدار على المعلوم لا العلم وفي هذه الصورة يوجب انحلال العلم الاجمالي
وربما انحلالاً حقيقيا فانه وان حصل عندي علم بسقوط قطرة الدم ولكن لا يحصل عندي
علم بنجاسة جديدة.
فلاحظوا ان هاتين الضابطتين جدا مهمتين ومن اهم بحوث العلم
الاجمالي فالأولى: هي منشأ تكون العلم الاجمالي ان عمومه باي نحو؟. والثانية: هي
ان المدار على زمان المعلومين لا زمان العلمين.
والان نطبق هاتين الضابطتين على المقام فنلاحظ انه يمكن تصوير
انحلال حقيقي للعلم الاجمالي في محل الكلام فان لله في كل واقعة حكم وان كان بنحو
استغراقي ولكن هل الحكم الزامي او اعم من الالزامي وغير الالزامي والاعم ليس محل
بحثنا لان محل بحثنا في الحكم الالزامي وهذا الحكم الالزامي طبيعته بنحو المجموع
ومن ثم قد ذكر كثير من الاصوليين انه ليس لدينا علم بمجموعة من الاحكام الالزامية
وراء موارد الامارات والاصول المحرزة للتكليف، وهذا يحتاج للتوضيح وسياتي ان شاء
الله تعالى.