الموضوع:- الروايات الشريفة - أدلة الاحتياط - الأصول العملية.
نذكر جملة من
الروايات التي استدل بها الاخباريون على الاحتياط:- الرواية
الاولى:- وهي موثقة حمزة ابن الطيار
(أنه عرض
على أبي عبدالله (عليه السلام) بعض خطب أبيه، حتى إذا بلغ موضعا منها قال : كف،
واسكت، ثم قال : ( إنه ) لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون، إلا الكف عنه
والتثبت، والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد، ويجلو عنكم فيه العمى، قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)[1]،
وهي محمولة على ما قبل الفحص او مع امكان الفحص وامكان السؤال منهم عليهم السلام.
الرواية
الثانية:-
صحيحة عمر ابن حنظلة وان كان الفقهاء يعبرون عنها بالمقبولة وقلنا انها صحيحة لان
عمر ابن حنظلة ــ بشواهد عديدة ــ من طبقة زرارة ومحمد ابن مسلم بل طبقته مقدمة
زماناً على محمد ابن مسلم وزرارة والشواهد على وثاقته عديدة وهذا ما يؤكد ان باب
الاجتهاد في علم الرجال مفتوح كما ذكر السيد البروجردي (رحمه الله) ولكن يراد له
تتبع وتحري وتقصي والا فانه توجد احدى عشر قرينة مسندة على وثاقة عمر ابن حنظلة
ومن تلك القرائن هي رواية صحيحة السند يرويها محمد ابن مسلم انه في شبابه وقعت
مسألة عند بيت ال المختار ــ وهو من البيوتات العريقة في الشيعة ــ فاستفتوا فيها
عمر ابن حنظلة ولم يستفتوا محمد ابن مسلم وهذا واضح منه ان مرجعية محمد ابن مسلم
لفقهاء الشيعة لم تكن في زمن عمر ابن حنظلة بل مرجعية عمر ابن حنظلة الفقهية في
الكوفة متقدمة عليه وكذا من القرائن ان نفس اخوه علي ابن حنظلة اذا ارادوا تعريفه
يقولون (اخو عمر ابن حنظلة) وكذا من القرائن انه توجد رواية مسندة انه اراد ان
يتعلم الاسم الاعظم من الامام (عليه السلام)، وهذا ليس بشيء ممتنع بل هو في
الحقيقة هكذا فان علم الرجال اذا تتبع الباحث يمكنه ان يصل الى نتائج، وكذا فان
نفس النجاش (رحمه الله) يقول انه ليس غرضي من هذا الكتاب ان اذكر رجال الحديث عند
الشيعة بل غرضي ان اذكر مؤلفي الشيعة، ثم حتى المفردات التي ابدى النجاشي موقفه
اتجاهها فانه واضح فيها انها اغلبها متأثرة بمنهج كلامي معين.
نعم ما ينقله النجاشي من بحوث
النَسَب والقبائل والتاريخ فانه ثَبْت وهو طود فيه ولكن هذا لا يعني ان فتاوى
وآراءه في الرجال كلها مسندة ومتوترة، والعجيب ان السيد الخوئي (رحمه الله) يقول ان
آراءه كلها متواترة مع ان النجاشي لا يفصح عنها.
وكذا من الامور المهمة هو ان
الاهتمام بعلم الرجال بالضرورة ليس كالاهتمام بعلم الحديث فان مصادر علم الحديث
اكثر من مصادر علم الرجال بعشرة اضعاف فكيف يقبل السيد الخوئي (رحمه الله) ان
مصادر كلام النجاشي كلها متواترة ونقل حسي والحال انه رد على الاخباريين بانه لا
يمكن الادعاء بان روايات الكتب الاربعة كلها متواترة او كلها صحيحة السند؟ وهذا
الموقف ورده على الاخباريين صحيح، ولكن كيف يدعي ما يدعيه الاخباريون فيما هو اضعف
بكثير من الكتب الاربعة فهذه دعوى غريبة جدا، وكذا توثيقات النجاشي وطعونه اذا
كانت مسندة بطرق حسية عن من قبله فلماذا السيد الخوئي (رحمه الله) لا يقبل قاعدة
الاجماع مع ان مشهور علماء الرجال يقبلوها والحال ان المجمعين في قولهم (اجمعت
العصابة) هم من يدعى ان النجاشي ينقل عنهم. على العموم ان هذا المنهج الرجالي وهو
ان الشيخ النجاشي هو الأوحدي في علم الرجال هي منهجية وهندسة ما انزل الله بها من
سلطان. فنقول نعم النجاشي يعتد بكلامه ولكن البقية ايضا يعتد بكلامهم فلاحظوا في
مقدمة معجم رجال الحديث ان كون الراوي كثير الرواية لا يعتبر وكونه صاحب اصل من
الاصول التي اعتمدت عليها الطائفة لا يعتبر وكونه يكثر الاصحاب عنه الرواية غير
معتبر ايضا مع ان هذه مباني القدماء ما قبل النجاشي فكيف لا نقبل هذه المباني
ونقبل فقط من النجاشي.
قد يقال:- انك اذا خدشت في كلام
النجاشي كأنما خدشت في اصل علم الرجال؟
ولكن يقال:- ان الذي يشكل بهذا الاشكال
في سبات لانه في الحقيقة ان مبنى السيد الخوئي هو الذي ينسف مصادر علم الرجال عند
الطائفة ويوحدها فقط في النجاشي فلاحظوا في المعجم ان كل مباني القدماء الذين هم
اقدم من النجاشي ومشهور علماء الطائفة يتبنون تلك المباني وتلك الفتاوى كلها
ينسفها ويبقى الشيخ النجاشي وحده وشيخ الطوسي فهذا كأنما بتر لأنفسنا عن التراث.
اذن هذا تنبيه على ان الاجتهاد
علم الرجال مفتوح كما ذكر السيد البروجردي والوحيد البهبهاني والشيخ علي نمازي
والميرزا محمد الأسترابادي كل هؤلاء الفحول مبناهم هذا المبنى بخلاف مبنى الشيخ
محمد تقي التستري والسيد الخوئي اما الشيخ عبدالله الروحاني بين بين تارة يريد ان
يجتهد وتارة يريد ان يرجع للنجاشي.
والصحيحة عن عمر بن حنظلة،
قال :
سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دين أو
ميراث، فتحاكما ـ إلى أن قال : ـ فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا، فرضيا
أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلف فيهما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟
فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما، في الحديث، وأورعهما،
ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر، قال : فقلت : فانهما عدلان مرضيان عند أصحابنا،
لا يفضل واحد منهما على صاحبه، قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في
ذلك الذي حكما به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي
ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه ـ إلى أن قال : ـ فان كان
الخبران عنكم مشهورين، قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال : ينظر، فما وافق حكمه حكم
الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق
العامة، قلت : جعلت فداك، إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة،
ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة، والاخر مخالفا لهم، بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال :
ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعا ؟ قال :
ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم، فيترك ويؤخذ بالاخر، قلت: فإن وافق
حكامهم الخبرين جميعا ؟ قال: إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند
الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)[2]
فهنا واضح ان محملها هو مع التمكن من الوصول الى الواقع وهذا الكلام في نزاع قضائي
وحكمي وفتوى أي فعل الفقيه كما مر بنا.
الرواية
الثالثة:- وهي
مهمة في باب التعارض وهي معتبرة أحمد بن الحسن الميثمي،
(أنه
سأل الرضا (عليه السلام) يوما وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه، وقد كانوا يتنازعون
في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الشيء الواحد، فقال
(عليه السلام) : إن الله حرم حراما، وأحل حلالا، وفرض فرائض، فما جاء في تحليل
ما حرم الله، أو في تحريم ما أحل الله، أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين
قائم بلا ناسخ نسخ ذلك، فذلك ما لا يسع الأخذ به، لأن رسول الله (صلى الله عليه
وآله) لم يكن ليحرم ما أحل الله، ولا ليحلل ما حرّم الله، ولا ليغير فرائض الله
وأحكامه، كان في ذلك كله متبعا مسلما مؤديا عن الله، وذلك قول الله : (ان أتبع
إلا ما يوحى إليّ) فكان (عليه السلام) متبعا لله، مؤديا عن الله ما أمره به من
تبليغ الرسالة، قلت : فانه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله) مما ليس في الكتاب، وهو في السنة، ثم يرد خلافه، فقال : كذلك قد نهى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) عن أشياء، نهى حرام فوافق في ذلك نهيه نهى الله، وأمر
بأشياء فصار ذلك الأمر واجبا لازما كعدل فرائض الله، فوافق في ذلك أمره أمر الله، فما جاء في النهي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهي حرام، ثم جاء خلافه لم
يسغ استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به، لانا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله
(صلى الله عليه وآله) ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله)
إلا لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو
نحرِّم ما استحل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلا يكون ذلك أبدا، لأنا
تابعون لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، مسلمون له، كما كان رسول الله (صلى
الله عليه وآله) تابعا لأمر ربه، مسلما له، وقال الله عزّ وجلّ : (وما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وإن الله نهى عن أشياء، ليس نهي حرام، بل
إعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس بأمر فرض ولا واجب بل أمر فضل ورجحان في الدين،
ثم رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول، فما كان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
نهي إعافة، أو أمر فضل، فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه، إذا ورد عليكم عنا
الخبر فيه باتفاق، يرويه من يرويه في النهي، ولا ينكره، وكان الخبران صحيحين
معروفين باتفاق الناقلة فيهما، يجب الأخذ بأحدهما، أو بهما جميعاً، أو بأيهما
شئت وأحببت، موسع ذلك لك من باب التسليم لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، والرد
إليه وإلينا، وكان تارك ذلك من باب العناد والانكار وترك التسليم لرسول الله (صلى
الله عليه وآله) مشركا بالله العظيم، فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما
على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجودا حلالاً، أو حراما فاتبعوا ما وافق
الكتاب، وما لم يكن في الكتاب، فاعرضوه على سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فما كان في السنة موجودا منهيا عنه نهي حرام، ومأمورا به عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وأمره، وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة، ثم كان الخبر الأخير خلافه فذلك
رخصة فيما عافه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكرهه، ولم يحرِّمه، فذلك الذي
يسع الأخذ بهما جميعا، وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه، فردوا
إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكف والتثبت
والوقوف، وأنتم طالبون باحثون، حتى يأتيكم البيان من عندنا)[3]،
وواضح من قوله عليه السلام (طالبون باحثون) انه في مقام الفحص وهذا ليس محل نزاع
او تحمل على امكان الوصول للواقع او عدم الاعتماد على عمومات وقواعد اولية
والاعتماد على تخرصات.
الرواية
الرابعة:- محمد بن أبي عمير، عن جميل بن دراج،
(عن
أبي عبدالله (عليه السلام)، قال : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة،
إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف
كتاب الله فدعوه)[4]،
فهذه الرواية في صدد الترجيح وتُبين ان الترجيح يكون بكتاب الله وعندما تتعارض
الاخبار فان المجتهد والفقيه ملزم بالترجيح لا بالتخيير والترجيح يحتاج الى الفحص
عن المرجحات، وحينئذ يكون مفادها ان المجتهد لا يجوز له ان يتسرع ويعمل برواية من
الروايات المتعارضة قبل ان يستكمل موازين الاستنباط ومن موازين الاستنباط قضية
الترجيح وهذا شيء طبيعي وهو ليس محل بحثنا فهي تتعرض لفعل المجتهد بما هو مجتهد لا
بما هو مكلف بغض النظر عن علمه واجتهاده.
الرواية الخامسة:- ابن أبي
عمير، وصفوان بن يحيى جميعا، عن عبد الرحمن بن الحجاج، (قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجلين أصابا صيداً، وهما محرمان،
الجزاء بينهما ؟ أو على كل واحد منهما جزاء ؟ قال : لا، بل عليهما أن يجزي كل
واحد منهما الصيد، قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه، فقال :
إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط، حتى تسألوا عنه فتعلموا)
[5]،
واضح ان مورد الرواية هو مع امكان الفحص والوصول للواقع ومع عدم الفحص او مع امكان
الوصول للواقع فلا يسوغ العمل بالبراءة ولا الاصول المفرغة بل اللازم العمل
بالاحتياط وهذا محل وفاق وهذا ليس محل كلامنا.
الرواية
الخامسة:- داود
بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام)،
(قال : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك
حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه)[6]،
اذن الاخوة الخطباء والفضلاء والمرشدين والمبلغين والمفكرين وقعاً لابد من التثبت
من الرواية ومعرفة مصدرها لا فقط السند فان المسالة ليست مسالة السند لانه قد مر
بنا مراراً ان القدماء عندهم تأثير صحة الكتاب على اعتبار الرواية اعظم بكثير من
تأثير صورة الطريق والسند على اعتبار الرواية، لان صورة الطريق ربما تزوق وتدلس
وتكتب بخلاف اذا كان صاحب الكتاب معروف وضابط للحديث مدقق عارف بالأخبار والرجال
والطرق فهنا يؤمن انه لا يوجد تلاعب ولا تزوير، اذن صحة الكتاب غير صحة الطريق،
فالأمام (عليه السلام) ركز على امرين مهمين مغفول عنهما في الوقت الحاضر وهي متن
الحديث ومصدر الحديث بغض النظر عن الطريق، وهذه الرواية بصدد بيان شرائط
الاستنباط وهذا لا ربط له بالبحث.
الرواية
السادسة:- صحيح
هشام بن سالم،
(قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام)
: ما حق الله على خلقه ؟ قال : أن يقولوا ما يعلمون، ويكفوا عما لا يعلمون،
فاذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه)[7]
أي يكفوا عن القول والفتيا والاسناد وهذا ليس هو محل الكلام.
الرواية
السابعة:- صحيحة
عمر ابن حنظلة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ـ في حديث
(قال
: وإنما الامور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد
علمه إلى الله (وإلى رسوله). قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : حلال بيّن،
وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ
بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم، ثم قال في آخر الحديث : فان
الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)[8]
فلاحظوا هذا حديث التثليث فان الامام (عليه السلام) اورده في مورد الشبهة قبل
الفحص في فعل المجتهد والفقيه فهذه الصحيحة تكون قرينة على الروايات المطلقة التي
فيها تثليث، اذن موردها في فعل المجتهد قبل الفحص وهذا امر طبيعي فان الاحتياط فيه
ضروري. وسياتي التعرض لباقي الاحاديث التي استدل بها ليتضح انها لها محامل ذكرناها
ستة او سبعة لا كما ذكر الاخباريون.